التدخل الخارجي هل قّطف ثمار الربيع العربي

 ان وقائع احداث الربيع العربي التي بدأت باحتجاجات جماهيرية سلمية وتطورت الى انتفاضات وثورات عربية التي ادى بعضها الى اسقاط حكامها الدكتاتورييين , ما تؤكده هذه الاحداث انها لم تنطلق من فراغ وانما هي نتيجة نضوج عوامل داخلية , تبلورت في حمل مطاليب اجتماعية اقتصادية ثم تحولت الى سياسية , وما تؤكده احداث الربيع العربي ايضاَ انها أن كانت عفوية في بداياتها الا ان العوامل الذاتية والموضوعية للتغيير تراكمت منذ عقود في كل بلد . وما اكدته ايضاَ انها تهدف الى احداث التغيير الديمقراطي , الا انها بنفس الوقت تعرضت الى تدخل خارجي بعضه مباشر كتدخل عسكري من قبل امريكا والناتو كما هو الحال في ليبيا وبعضه تدخل غير مباشر .

اسباب تدخل القوى الاقليمية والدولية في ثورات الربيع العربي :

ان الولايات المتحدة الامريكية والدول الغربية التي تضررت منها الشعوب العربية  . والتي خضعت لهيمنتها وتهميشها ولاستعمارها واستغلال ثرواتها لعقود , كما ان نفس هذه الدول قامت بصنع وتنصيب حكام دكتاتوريين للشعوب العربية , وقدمت لهم الدعم والاسناد لديمومة حكمهم لفترة اطول لكي يضمنوا لهذه الدول مصالحها الاستراتيجية . ولكن حال انتصار الشعب التونسي في اسقاط نظام زين العابدين بن علي لاحظ الجميع الارباك الذي اصاب الدبلوماسية الامريكية حينها نتيجة هذا التغيير, وفجئتاَ غيرت امريكا مواقفها وتوجهاتها وتحولت من داعمة ومساندة لنظام مبارك الى مطالبته بالتنحي , وظهرت كأنها هي المناصرة للشعب المصري وللشعوب العربية الاخرى , من وجهة نظري ان هذا التحول المفاجئ ورائه سبب اساسي وهو : يكمن في ان الولايات المتحدة الامريكية قد ادركت تماماَ انها ستكون الخاسر الاول من ثورات الربيع العربي , فقد استفادت من نتائج ما حصل في تونس وأرادت أن تستبق نتائج الاحداث في مصر الدولة العربية الكبرى حيث ان اي تغيير فيها سيؤثر على البلدان الاخرى ارتباطاَ بحجمها وكثافة سكانها  , ولكي يكون لها دور في رسم سياسة وتوجهات النظام القادم , ومن اجل ضمان مصالحها لهذا وضعت توجهات جديدة في سياستها في المنطقة هدف هذه التوجهات هو قطف ثمار الربيع العربي وهذا هو السر وراء تدخلاتها المباشرة وغير المباشرة في ثورات الربيع العربي للحفاظ على مصالحها الاستراتيجية في المنطقة ومن هذا عملت الولايات المتحدة على :

1- لأجل ان تقطف ثمار الربيع العربي فعليها العمل على تغيير دفة التغيير في كل بلد عربي لصالح بعض الاطراف وليس سراَ الاطراف هي قوى الاسلام السياسي والعسكر. لانها تدرك تماماَ ان تحول موازيين التغيير باتجاه ما يريده الشعب من تغيير ديمقراطي . الذي تعمل من اجله قوى اليسار والديمقراطية و منظمات وتجمعات الشباب ونقابات العمال ومنظمات المجتمع المدني والفئات الواسعة في كل بلد , بهذا سيكون التغيير ليس في صالح الولايات المتحدة الامريكية وحلفائها.

2- رغم ان قوى الاسلام السياسي لم تكن هي القوى الاساسية المشاركة في الاحتجاجات الجماهيرية  حيث كانت في البداية مواقفها انتهازية قائمة على الانتظار والترقب ومعرفة تطورات الاحداث  . الا ان الولايات المتحدة الامريكية أقامت صلات خفيه مع هذه القوى بوساطة اقليمية ( تركية -خليجية ) وتم الاتفاق على مساومات فيما بينهما لتقاسم سرقة ثمارالربيع العربي  .

3- الولايات المتحدة الامريكية في الوقت الذي بدأت التنسيق مع الاسلاميين , حافظت على صلتها مع العسكر في هذا البلد او ذاك,لأجل ان تقيم تحالف مقدس بين قوى الاسلام السياسي والعسكر على غرار التحالف الذي صنعته في تركيا , واعادة صناعته في مصر وفي ليبيا وستصنعه ربما في اليمن وفي بلدان اخرى .

طبيعة الربيع العربي واهدافه :

البلدان التي ابتدأ فيها الربيع العربي وكان اولها تونس ثم انتقل الى مصر وبلدان عربية اخرى كانت طبيعته كما شاهده الجميع على واقع الارض .هوحركات جماهيرية سلمية لها مطاليب اقتصادية واجتماعية و سياسية , تتمثل في محاربة البطالة وتوفير العمل وضد ارتفاع الاسعار والقضاء على الفقر وتوفير العدالة والعيش الكريم للشعب وانهاء الاستبداد والظلم والتفرد في الحكم مع ضمان الحقوق والحريات والتحول الديمقراطي . هذه كانت ملامح الربيع العربي , وأكدت الشعوب لحكامها في ربيعها العربي ان هذا التحول او الصراع لا يمكن ان يحل الا من خلال التحرك الجماهيري الواسع السلمي , ومن خلال الوسائل السياسية الديمقراطية .

التدخل الخارجي وفاعليته وتأثيراته في تحديد طبيعة التغيير :

ان كان التدخل الخارجي من قبل المجتمع الدولي والمنظمات الدولية لاسباب انسانية لوقف انتهاكات حقوق الانسان ووقف الاعتقالات والتعذيب والقتل في هذا البلد او ذاك  , ومن اجل التضامن معها ودعم الشعوب في نضالها العادل من اجل الحرية وحق التظاهر في الضغط السلمي على الحكومات الاستبدادية من اجل احداث التغيير الديمقراطي من الداخل هذا أمر مطلوب واعتقد ترحب به الشعوب وقواها السياسية .

هنا يطرح سؤال من يرسم طبيعة التغيير في كل بلد حصل وسيحصل فيه الربيع العربي ؟ أليس هي الشعوب التي ضحت خلال عقود كثيرة وناضلت ونزفت دماَ , وانتفضت اليوم من اجل دحر الظلم والاستبداد والقضاء على الفقر والجوع والحرمان واقامة الدولة المدنية الديمقراطية .يقيناَ ان ربيع الشعوب العربية وطبيعته وملامحة وتوجهاته الديمقراطية ,لا تلتقي مع مصالح الولايات المتحدة الامريكية ولا مع مصالح تركيا والسعودية وقطر وايران لأن هذه الدول تخشى من وصول الربيع العربي اليها .من هنا جاءت سلبية التدخل الخارجي في احداث الربيع العربي في هذا البلد او ذاك . فبدلاَ من دعم خيارات الشعوب , بدأت هذه القوى الدولية والاقليمية تبحث ليس فقط عن حليف مشترك لها لغرض تقديم الدعم له, وانما لجأت الى استخدام خيارات اخرى كالتدخل العسكري وبذرائع مختلفه , كما تدخلت قوات درع الجزيرة في احداث البحرين , وتدخل الناتو في ليبيا من وجهة نظري ان التدخل الخارجي بهذه الطريقه يستهدف قطف ثمار الربيع العربي لصالح الدول التي تسهم في التدخل الخارجي وحلفائهم في الداخل وليس لصالح الجماهير المنتفضة في هذا البلد او ذاك .

الخلاصة والاستنتاجات :

1- ان الربيع العربي ليس هو سيناريوهات وخطط أعدت مسبقاَ خلف الكواليس انه ثورات حقيقية , إلا ان هذه الثورات من وجهة نظري لم تظهر نتائجها بعد رغم سقوط بعض الانظمة , بعض الثورات تدخل فيها العامل الخارجي بشكل مباشر واثر على مسارها لكي يضمن مصالحة وقدم الدعم لقوى بعينها لتمكينها من اجل ان تكون في واجهة التغيير, بعض الدول الاقليمية فتحت خزائنها لدعم القوى الداخلية الحليفه لها وهي قوى الاسلام السياسي مالياَ مع الدعم الاعلامي والسياسي واللوجستي وهناك طرف اقليمي آخر هو ايران حيث تدخلت هذه الدولة لدعم القوى الشيعية من الاسلام السياسي في هذا البلد او ذاك. ومع هذا لا تزال قوى الشعب تضغط  من خلال الشارع في هذا البلد او ذاك ليكون التغيير جذري وليس فوقي .

2- تجربة التدخلات الامريكية في احداث الربيع العربي , اسقطت الورقة التي لعبت بها امريكا وبررت تدخلها في شؤون البلدان , من خلال رفعها شعار ( الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الانسان) وان كان من مثال يتطلب ذكره عن بطلان هذا الشعار هو من ليبيا ومصر , في ليبيا بعد سقوط نظام القذافي , سمع الجميع تصريحات رئيس المجلس الوطني الانتقالي الليبي السيد مصطفى عبد الجليل، التي أعلن فيها أن ليبيا ستعيش وفق الشريعة الإسلامية، وسيلغى أي قانون يتعارض معها. هذا ما يؤكد ان هناك قوانيين سيتم صياغتها وفق هدى الشريعة الاسلامية , واول ما اعلن عنه عبد الجليل هو الغاء الفقرة في الدستور التي تمنع تعدد الزوجات , لم نسمع هناك رد امريكي على هذا التصريح الذي يعد انتهاك لحقوق المرأة , اضافة الى ما سيصدر من تشريعات تؤثر على الحقوق والحريات وتزيد من المحرمات والكبت ومنها محاربة الثقافة والفن والموسيقى والابداع كما يقوم به الاسلاميون والسلفيون بالذات في مصر ومن تحريم للمشروبات الكحولية في بلدان عدة ومحاربة معيشة ملايين العوائل التي تعتاش على قطاع السياحة وغيرة   ولم نسمع رد فعل امريكي لهذه المواقف المعادية لحقوق الانسان والديمقراطية .

3- ما هو مؤسف حقاَ نرى ان بعض القوى التي حالفها الحظ بان تشترك مع الجماهير في ربيعها العربي فبدلاَ من ان تناضل مع جماهيرها من اجل إحداث التغيير من الداخل , نراها تدعوا علناَ الى الحصار الاقتصادي على شعوبها وتطالب بتدخل امريكا والناتو لاسقاط نظامها الاستبدادي , اذاَ كيف تبني هذه القوى وطناَ ذات سيادة وهي تدعوا لتدخل الناتو؟ كيف تتطلع الى التحرر السياسي والاقتصادي وهي تدعوا قوات الناتو الى اوطانها؟ . كيف تبني الديمقراطية وتضمن الحقوق والحريات لجماهير الشعب والناتو له حليف استراتيجي في كل بلد وهم العسكر وقوى الاسلام السياسي؟ . لا سيما وان تجارب المنطقة اكدت ان هذين القوتين ( الاسلام السياسي والعسكر) هما من أشد اعداء الديمقراطية وحقوق الانسان , واذا تسنح لهم الفرصة فهم ابرع من غيرهم في سرقة حقوق وحريات الشعوب . ما تؤكده التجربه انه من يركض وراء امريكا لتخليصه من نظامها لكي يعيش بحرية وديمقراطية , حاله سيكون حال من يركض وراء السراب  .

4- من تجربة الشعب العراقي بعد ان قدم تضحيات جسام من اجل اسقاط النظام الدكتاتوري واقامة النظام الديمقراطي التعددي التداولي , وبناء الدولة المدنية الديمقراطية المعاصرة . نجد ان امريكا وحلفائها قطفوا ثمار ربيع الشعب العراقي , حيث باحتلالهم للعراق صنعوا لشعبنا سلطة غريبة في تاريخ الشعوب اسمها سلطة المحاصصة الطائفية ( مكونة من قوى الاسلام السياسي والقوميون المتحالفون معهم )  قامت هذه القوى المتحاصصة المدعومة من امريكا وتركيا وايران والسعودية  , بخنق الديمقراطية في مهدها , وذلك عندما اتفقت كتل المحاصصة على تغيير قانون الانتخابات البرلمانية لعام 2010 , بالغاء نظام الدائرة الواحدة وبسرق الاصوات التي لم تصل الى مستوى القاسم الانتخابي , والغريب في الامر ان هذا القراراتخذ بمباركة امريكية وايرانية ايضاَ وهذا ما يؤكد ان شعار امريكا حول الديمقراطية وحقوق الانسان هو زائف وتضليلي ووهم وسراب , ما يهمها  ضمان مصالحها اولاَ وقبل كل شيئ .

5- الربيع العربي لا يمكن الحكم عليه بالانتهاء او انه لم يحقق اهدافه , من خلال النظر فقط لمشهد وصول الاسلاميين الى السلطة بعد الانتخابات التي حصلت في عدد من البلدان العربية وآخرها مصر  رغم ان هذا يؤكد ويؤشر ان هناك صعوبات كبيرة ستواجه قوى اليسار والديمقراطية في البلدان التي سيطر فيها الاسلامييون على البرلمان والسلطة السياسية .

6- تؤكد التجربة انه عند سقوط الطغاة عادتاَ، لا تسقط معهم الوسائل التي استخدموها في الحفاظ على السلطة، فهذه الوسائل ان لم تسقط فستنتج استبداد جديد , وهذا الاستبداد الجديد ما يخشى منه هو في حالة هيمنة وسيطرة الفكر الاسلامي وبالذات السلفي الفائز في الانتخابات , ان لم يتم الحفاظ على الديمقراطية وصيانتها بقوانين وتشريعات , فسينقلب عليها الاسلاميون التي اوصلتهم الى الحكم .

7- ما اكدته التجربة ان حكم قوى الاسلام السياسي يحمل معه نقاط ضعف عديدة منها : ان هذه القوى تتنصل عن الحقوق والحريات وتصادرها اذا سنحت لها الفرصه , وهذا مما يجعل الفجوة كبيرة بين قوى الاسلام السياسي المهيمنة على السلطة وبين فئات واسعه من الشعب  , و ان هذه القوى بطبيعتها انها تنتج الفقر والبؤس والحرمان والجهل والتهميش الاجتماعي وتكرس الاستغلال وعدم المساواة  ,  لان توجهاتها الاقتصادية هو مع السياسة النيوليبرالية في الاقتصاد فتشيع الخصخصصة في الاقتصاد لصالح الفئات الطفيلية والبيروقراطية وتخضع الاقتصاد لاشتراطات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية . كما ان الاسلام السياسي هو الحليف الوفي لامريكا والدول الاقليمية التي قدمت له الدعم المالي والمساعدات المباشرة وغير المباشرة , فهو دون غيرة من يلتزم بوفائه لهذه الدول التي مكنته وقدمت له الدعم المالي واشكال الدعم الاخرى .  لهذا سيكون التوجه الاقتصادي محسوم باتجاه نيوليبرالي في البلد ولا يخضع للنقاش بعد سقوط النظام مقابل تمكينهم من الفوز في الانتخابات .   كما ان قوى الاسلام السياسي غير متجانسه وغير موحدة في الفكر والمذهب والرؤى وهذا مما يجعل الصراع بينهم يخضع للتفجير في اي لحظة ,ومن نقاط ضعفها ايضاَ ليس لديها برامج كما انها تحصل على المال السياسي والدعم من دول اقليمية مما يضعها في اطار التبعية , لا سيما وان الدول الاقليمية  ( تركيا وايران والسعودية وبعض دول الخليج ) لديها مصالح وعادتاَ يلعبون بالورقة الطائفية , وهذا ما يضعف التوجهات الوطنية لدى قوى الاسلام السياسي , فرغم فوزهم في الانتخابات الا ان نقاط ضعفهم كثيرة .

8- ان قوة وفاعلية ودور قوى اليسار والديمقراطية هي قائمة في الشارع وتتجدد يومياَ , وتكمن قوة اليسار في جوهر فكره الذي يعبر عن اهم حقوق الانسان وتطلعاته وهي : توفير الخدمات والقضاء على الفقر والبطالة وتحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة بين المواطنين وضمان الحقوق والحريات بما فيها الحريات الشخصية اضافة الى التوجهات الوطنية والديمقراطية. وهذه بمجموعها تشكل قيم تتطلع اليها كافة فئات المجتمع وبما ان هذه القيم غير قادر على تحقيقها الاسلام السياسي المتحالف مع العسكر, فان هذه القيم والمفاهيم تعتبر من عناصر قوة اليسار لانها حقوق طبيعية للشعب وتشكل اهم حاجاته وتطلعاته وبها يتم بناء الاوطان . من هذا فأن طاقات الجماهير في الشارع كبيرة ولديها الامكانية والقوة الدائمة ليس فقط لمقاومة بلطجية الخارج وبلطجية الداخل، لاوانما لمواصلة ضغطها الجماهيري لتحقيق هذه القيم باعتبارها حق من حقوقها وما اكدته التجربة ان الصراع حول هذه القيم هو الحاسم لانه يشكل ارادة الشعوب, وهذه تعد من اهم عناصر قوة اليسار الحامل لهذه القيم في فكره ويناضل من اجلها .  

15-12-2011

 

You may also like...