الإنشقاقات والنكبات التي عصفت بالأمة الكلدانية وكنيستها والمآسي التي حَلَّت بها عِبرَ الزمن


مقدمة موجزة

في بحثي هذا لا أرغب الولوج في مطاوي التاريخ القديم وهو ما يُعرف بتاريخ ما قبل الميلاد، فإنَّ ما دونتُه في المُجلَّد الأول من سلسلة كُتُبي التاريخية بعنوان (تاريخ بلاد الرافدَين/ الكلدان والآشوريون عِبرَ القرون) فيه الكفاية لِمَن يريد الإطلاع على مجريات أحداثه بحُلوها ومُرِّها. أما في هذا البحث فإنني سأسرد الوقائع التاريخية بواقعيةٍ ونزاهة تُسدي الفائدة للمشوَّشة أفكارهم بما يُسطرُه البعض من أبناء الكلدان النساطرة مُنتحلي التسمية الآشورية المزيَّفة والمتعاطفين معهم من أبناء الكلدان الكاثوليك الخوارج من مواضيع تتضمَّن الكثير من التشويه للحقائق وفق ما تُمليه عليهم أهواؤهم ودوافعم التي تختفي وراءَها مصالحُهم الذاتية النوعية من سياسية ومادية واجتماعية، وما أكثرهم في هذا الزمن الذي فقدَت فيه الموازينُ والمُثُل.إنَّ التاريخ عِلم قائم بذاته، وليس سهلاً لكُلِّ مَن هَبَّ ودبَّ التوغل في مجاله!

كان خطاً غيرَ مقصودٍ ما ذهب إليه بعضُ المؤرخين المسيحيين الغربيين بأن انتشارالمسيحية الأول كان في الإمبراطورية الرومانية وحدَهـا، وقد يعود بناءُ اعتقادِهم هذا قائماً على اعتبار الكنائس الشرقـية بأجمعِهـا الأرثوذكسية والقبطية والأرمنية والمارونية والسريانية نَشأت ضمن المساحة الجغرافية التي كان يُهَـيمِن عليها النفوذ الروماني وبضمنها كنيسة المشرق وهو اعتقاد خاطيء بالنسبة للأخيرة (كنيسة الشرق) لأنها الوحيدة التي تأسَّست خارج حدود الإمبراطورية الرومانية، لكونها تأسَّست ضمن حدود المملكة الفارسية. وهذا ما يؤكدُه الواقع التاريخي ولذلك فستكون هذه الكنيسة محور موضوع مجلَّدِنا هذا الثاني.

 

 كانت اللغة والثقافة الكلدانيتان هما السائدتين في بلاد ما بين النهرين زَمن دخول التبشير المسيحي إليها، بفضل العـلماء العباقرة الكلدان “كِـديـنـو، رماني، نـبـو، سِديـنـو، وبرحـوشا (بـيـروسس) أبي الـتاريخ الكلداني، بالإضافة الى جهود الكَتَبَةِ الكلدان الذين قاموا بتأسيس المدارس أمثال: ” أخوتو، خونزو، سين لِقي اونيني، وايكورذاكِر وغـيرهم،  بيد أنَّ الأخمينيين والسلوقـيين مِنهم على وجه الخـصوص خلال عهدهـم الأسود، وبهَدَف تحطـيم الروح القومية لدى الكلدان أصحاب المجد والثـقافة والديمغرافـية، عَـمَدوا الى تشويه الاسم الكلداني ونسجوا حوله وحول بابل العديد مِن الأساطير الإتهامية والتحريفية الخاطئة لِما خَصَّهُـما به الكتاب المقدس/العهد القديم، مِمّا جعل الكلدان ينفرون مِنه بعد إعـتناقِهم المسيحـية، وتبَنّوا لهم الاسم الديني (ܣܘܪܝܐ = المسيحيين) بدلاً مِن اسمِهم القومي (ܟܠܕܝܐ = الكلدان) ولكنيستِهم الاسم المناطقي (كنيسة المشرق ܥܕܬܐ ܕܡܕܢܚܐ) لوقوعها في الشرق وليس كما يَدّعي بعض المُغالطين بسبب الظروف السياسية أو نسبة الى امتدادها حتى الصين لأنَّ التسمية قد تُبُنِّيَت قبل الإمتداد. كما دُعيَت بأسماء اخري مِنها(كنيسة فارس =ܥܕܬܐ ܕܒܦܪܣ) لوقوعها تحت النفوذ الفارسي و(الكنيسة الكاثوليكية ܥܕܬܐ ܩܬܘܠܝܩܝ) لكونِها جزءاً مُكَمِّلاً للكنيسة الكاثوليكية الجامعة، ولَقَّبوا رئيس كنيستهم بـ (جاثاليق ساليق وقطيسفون أو بجاثاليق المشرق( بطريرك المشرق لاحقاً) .

ولكن مِن أسوأ ما أُطلقَ عليهم هو اسم السِريان الشرقيين، إنَّه اسم غريب لا يَمُتُّ إليهم بصِلة، فقد أطلقه المِصريون الغرباء في البداية على سُكّان سوريا مُشتقاً مِن تسميتِهم لسوريا بلفظة خارو ثمَّ استُبدِلَت بشارو وأخيراً بسارو، وعَمَّمَه اليونانيون مِن بعدهم على أهل سوريا فدعوهم بالسريان الغربيين، ودعوا الكلدان بالسريان الشرقيين لمُجرَّد أنَّ مُبشِّريهم الأوائل مِن غرب الفرات وتمييزاً لهم عن السريان الغربيين حسب إدِّعائهم. إنَّ الاسم السرياني كما يقول المؤَرخ العلامة أدّي شير: < لم يكن يُشير الى امة بل الى الديانة المسيحية لا غير، ومِمّا يُثبِت قولَنا، ما أتى في كتاب (ايليا مطران نصيبين 975 – 1046م) فإنَّه فَسَّرَ لفظة (سِرياني ܣܘܪܝܝܐ) بلفظة نصراني، والى يومِنا هذا نَرى الكلدان الآثوريين لا يَتَّخذون لفظة (ܣܘܪܝܐ أي سرياني) للدلالة على الجِنسية بل على الديانة. فإنَّ هذا الاسم عندهم، مُرادفٌ لإسم مسيحي مِن أيِّ امَّةٍ أو جِنس كان > (اللمعة الشهية في نحو اللغة السريانية / السيد يوسف داود) .

 

إذاً الاسم الأول والواضح لكنيسة بلاد ما بين النهرين هو(كنيسة المشرق ܥܕܬܐ ܕܡܕܢܚܐ Church of the East) واستمرَّ تداوُله حتى الربع الأخير من القرن الخامس زمن استفحال الهرطقتين النسطورية والأوطاخية اللتين ظهرتا في الغرب فأدَّيتا الى انقسام كنيسة المسيح الجامعة، وامتدَّ نارُ الإنقسام واكتوت به كنيسة المشرق، حيث أجبرتها حينها الظروف الداخلية والخارجية ولا سيما السياسية مِنها، على ترك مذهبها مذهبِ الكنيسة الكاثوليكية الجامعة وتبنِّي المذهب النسطوري المُخالف، وفي ذات الوقت انشطر جزءٌ صغير مِن أبنائها وتبَنّى بِدعة ًمذهبية هي البِدعة الأوطاخية التي عُرفَت باسم (المونوفيزية) المُخالفة بتعليمِها لكلا المذهبين الكاثوليكي والنسطوري، وسَمّى كنيستَه بأسماءٍ كثيرة نزولاً عند رغبات كُلّ زعيم قوي يتسلمُ رئاستها وكان آخرها وأشهرها (الكنيسة اليعقوبية) نسبةً الى يعقوب البراذعي أشد المدافعين عن البدعة المونوفيزية إكراماً لجهوده إذ لولاها لكانت قد أصبحت في خبر كان! واستمرَّ منتسبوها على تداوله قروناً طويلة حتى منتصف القرن العشرين حين استبدلوه خجلاً من استفسارات رسمية وشعبية ولا سيما في العراق باسم “الكنيسة السريانية الأرثوذكسية”.

 

وبقي الجزء الأكبر متبنياً للمذهب النسطوري، فسُمِّيَت كنيستُه بدلاً عن( كنيسة المشرق) بـ (الكنيسة الكلدانية النسطورية أو الكنيسة النسطورية اختصاراً)وكان إطلاق هذا الإسم عليها إجحافاً بحق مؤسِّسيها الكلدان، وقد فُرض عليهم إسمُها ومذهبُها عَنوة ً مِن قبل القوة السياسية الفارسية الغاشمة بالتعاون مع بعض القادة الكنسيين وعلى رأسهم المطران برصوما مطران نصيبين الشهير في الربع الأخير من القرن الخامس. كانت تسمية ً سيِّئة جداً وغريبة ً على أبناء كنيسة المشرق الكلدان، فنسطور كان بطريركاً غربياً تَدعمُ مذهـبَه المدرسة الأنطاكية، ولما كانت لكنيسة المشرق في باديء الأمر بعضُ الإرتباطات بكنيسة أنطاكيا وتتبع لاهوت مدرستها الذي كان يتعارض مع لاهوت مدرسة الإسكندرية بكثير مِن الأمور، فظهر هنالك تـنافسٌ كبير بين المدرستين تحَوَّلَ الى خصام، وقد يكون أحدُ أسباب إتهام كنيـسة المشرق بالنسطرة والهرطقة هو ميلُها الى تعاليم المدرسة الأنطاكية، وإن أكبر المروِّجين لهذه التسمية بين السواح الغربيين في القرون الوسطى، كان المونوفيزيون المنادون بالطبيعة الواحدة للمسيح أي اليعاقبة الأولون أسلاف “السريان الأرثوذكس الحاليين” بالتعاون مع الملكيين ذوي الإحتكاك بالغـرب.

 

 وعندما إهتدى الغالبية المُثَقَّفة مِن أبنائها في منتصف القرن السادس عشرالى الخطأ الذي إرتكبَه آباؤهم وأجدادُهم أولاً: بتحَوِّلهم عن المذهب الحق الكاثوليكي واعتمادهم المذهب النسطوري المُخالف وثانياً: تثبيت لقبِهم القومي الكلداني الذي استعاده أسلافهم في القرن السابع بعد الإحتلال العربي الإسلامي الى اسم كنيستهم حيث كان آباؤهم مؤسِّسو الكنيسة الأولون قد أهملوه عند تأسيسهم لها بحجة كونه يرمز الى الوثنية، فقاموا بتصحيح الخطأ بشقيه، وثالثاً: لتقويم مسار كنيستهم الذي قامت بتحريفه الرئاسة العشائرية المستبدة والمُحتكرة للرئاسة الكنسية الأولى “البطريركية” وحصرها بأبناء هذه العشيرة الملقبة بـ “عشيرة آل أبونا” وسنأتي الى هذا الموضوع في جزءٍ من أجزاء هذا البحث. والآن لنبدأ بالجزء الأول.

الجزء الأول

 

الإنشقاق الأول

إن الإضطهاد الديني الذي تَعرَّضَ له مُعتنقو المسيحية منذ ظهورها في الغرب والشرق كان ظاهرة مُحَيِّرة وبشعة ومُخالفة لحُرية وكرامة الإنسان الممنوحتَين له مِن قبل الخالق، وقد أفردَ لها عُلماءُ ومُحَلِّلو وقائع التاريخ فيضاً مِـن الدراسات تَقَصِّياً عن أسبابِها وتداعياتِها، وفي نهاية المطاف أجمَعوا على أن المآربَ السياسية كانت لها الأولوية في إثارتِها في كِلتا الدولتين الغريمتَين الرومانية والفارسية ولكن يا تُرى، كيف يُمكن تبريرُ تلك الأعمال البالغة الـقسوة مِن النواحي الإنسانية والشرعية والـقانونية ؟ في الإجابة على هذا التساؤل تَكمُن الصعوبة! أما بعد الغزو الإسلامي وسيادة أصحابه فغدت المسيحية السبب الأبرز لإضطهاد مُعتنقيها.

 

ولكنَّ المسيحيين الأوائل كانوا حَقّاً وفعلاً ذوي غَيرةٍ مُتَّقِدة على وديعة ايمانِهم المسيحي، مُتَباهين بالمُثُل والقِيَم التي إكتسبوها مِن هذا الايمان الحَق، ومُتحَمِّسينَ لتجسيدِها في حياتِهم بمنتهى الصرامة والبطولة، فما كانوا يَرتادون أماكِن اللهو ولا يَذهبونَ الى الملاعب، ولا يحضرون الإحتفالات الشعبية في الأعياد والمُناسبات خوفاً مِن الإنزلاق أو الإضطرار الى القيام بتأدية شعائر تتنافى مع مباديء وتعاليم ايمانهم، وينفرون حتى مِن العمل في الوظائف الحكومية واستِلام المناصب العليا في الدولة، والحاصلون عليها يَبرحونَها فور اقتبالهم سِرَّ العماذ، والأسمى مِن كُلَ هذا، كانت غيرتُهم الوقّادة كنارآكلةٍ في داخلهم، تدفعُهم الى إعلان بُشرى الخلاص بكُلِّ حَماس ودون كَلَل أومَلَل أو خوف، وحين يشتَدُّ الخِناقُ والغضبُ عليهم والإنتقامُ الفظيعُ مِنهم يكون بسبب اهتداء الكثير مِن النخبة العالية على أيديهم مثل (أبناء الملوك والأمراء وذوي الرُتَب والمناصب الرفيعة والأشراف والنبلاء). وهنالك عاملٌ آخرُ بالغُ الرداءَةِ مغروسٌ في كيان العنصر الفارسي لازَمَ الفرسَ تاريخياً هي النزعة العنصرية التَعَصُّبية (المُتعارف عليها اليوم بالشوفينية) ضِدَّ كُلِّ مَن هو غير فارسي، وقد أثبتَ التاريخُ بأن التعَصُّبَ العنصري ذو تأثير خَطِر على الشعوب والمُجتمعات البشرية، وللأسف لا زال قائماً حتى يومنا هذا رغم التطور الحضاري الحالي .

 

ولا يُمكِنُ إغفال عامِلَين آخَرَين وأعني بهما الوشايات اليهودية وتحريكات كُهّان النار المجوس وتأثيرهما على ملوك الفرس وإن لم يكن ذلك التأثير بمُستوى الدوافع السياسية، ولكن ملوك الفرس كانوا يَركنون إليهما كذريعةٍ دافعة لإطلاق يدِ الإضطهاد ضِدَّ مسيحيي المملكة، ومِن العوامل الثانوية الاخري: ضُعـف بعض ملوك الفرس أو حاجتُهم القصوى الى المال! وبعد تَحَوُّل المملكة الرومانية مِن الوثنية الى المسيحية عام 313 م على عهد الملك المُهتدي قسطنطينوس الكبير، أصبح ملوكُ الفرس يشكّون في ولاء رعايا مملكتهم المسيحيين ويتَّهمونهم غالبَ الأحيان بولائهم للمملكة الرومانية المسيحية، ويُعَد هذا مِن أفدح الأخطاء عندما تقوم الدولة بعدم التمييز بين الإنتماء الوطني والإنتماء الديني! فليس مِن المُستبعَد بل مِن المؤَكَّد أن يَتّخِذَ ملوكُ الفرس مِن هذه العوامل مُبَرِّراً لشَن اضطهاداتٍ ظالمة ضِدَّ أخلص شريحةٍ بشرية في مملكتِهم هي الشريحة المسيحية! وقد تضاربت آراءُ المؤَرخين في تحديد زَمَن بدءِ الإضطهادات المجوسية ضِدَّ المسيحيين، فهناك مَن يُحَدِّده بأواخر القرن الميلادي الأول وآخرون بأوائل القرن الثاني، ولكن الشهادة بدأَت بمسيحيي مَنطقتي الرُّها وبابل على عهدِ المملكة الفرثية التي انتهى حُكمُها عام 224م، وبدأَ حُكم الدولة الساسانية (226 – 632 م) واشتهرَ عهدُها بضراوة الإضطهادات.

 

قيام الرئاسة الأولى

إنَّ الإنسان بغريزتِه يسعى دوماً الى بلوغ المجد والشهرة، وهذا بحَدِّ ذاته طموحٌ مشروعٌ شَرط أن ينالَه الإنسانُ بسعيِه المُستقـيم وجُهدِه السليم، أما إذا سعى للوصول إليه بإسلوبٍ مُلتوي فيُصبحُ عـندذاك أمراً ذميماً. ولم يقتصر هذا السعيُ على الأفراد المدنيين، إذ  لم يكن بمنجىً منه الرُعاة والقادة الدينيون منذ القِدَم، ولنا مَثل بهذا الصدد  بطلبِ أم إبنَي زَبدي اللذَين كانا مِن جـملة رُسُل المسيح الرب (متى 20 / 21 – 22) والأَمر ذاتُه كان سبباً رئيسياً في حدوث إنـشقاقاتٍ وانـقساماتٍ في كنيسة المسيح الجامعـة، ومِنها كنيستُنا الـمشرقية الكلدانية وليدة دخول المسيحية المُبَكِّر الى بلاد الدولة الـفارسية (الفرثـية – الأرشاقـية) وما يؤَكِّد ذلك ما وَرَدَ في رسالة البطريرك (طيماثيوس الأول الكبير 780 – 823 م) التي وَجَّهها الى رهبان دير مار مارون “إن المسيحية دخلت بلادنا قبل أن يظهر نسطوريوس بنحو 500 عام على وَجهِ التقريب، وبنحو عشرين عاماً بعد صعود رَبِّنا الى السماء (طيماثيوس / ط . بيداويذ / ص . 42) وقد توَسَّعت هذه الكنيسة خلال القرون الثلاثة الاولى مِن عُمرها بفضل تَنَعُّمِها بهدوءٍ خالي مِن الإضطهادات كما يقول مؤَلِّفُ (تاريخ أربيل / ط . مِنكَنا / النسخة المُترجمة ص 106) في رسالتِه الى صديقِه بِنحاس:” في سنة استيلاء الفرس(الساسانيين) على الشرق كُلِّه كان عددُ المسيحيين قد إزدادَ كثيراً في كُلِّ مكان في الشرق والغرب . . . حيث لم يَكُن شيءٌ مِن ذلك أي(الإضطهاد) بسبب انشغال الملوك بالحروب المُستمِرة، ولذلك لم تُثارَ الإضطهاداتُ القاسية ضِـدَّنا، فتَمَكَّنَت شجرة بشارة الانجيل مِن مَدِّ جذورها فينا الى البحر وجذوعِها الى النهر وكان لها أكثر مِن عشرين اسقفاً ” وشملت رُقعة الكنيسة كُلَّ أنحاء بلاد ما بين النهرين ولم تكن بعدُ قد إنتظمَت تحت رئاسةٍ كنسية عليا واحدة، بل كانت مُتشَكِّلة مِن جماعاتٍ مسيحية مُنضوية الى كنائس عديدة يرأس كُلآ مِنها اسقفٌ وترتبط  فيما بينها برابطةِ وحدةِ الايمان والليتورجية واللغة.

 

ولما كان اسقفُ المدائن عاصمةِ ملكِ الملوك الفارسي الأقربَ تماساً بالبلاط الـملكي، مَـنَحَه هذا الموقعُ حركة ًمَرنة للإحتكاكِ بالسُلطـة المدنية وإيصال القضايا الكنسية ووضعِها تحت أنظارالملك، تلك التي تتعلق بكنيسة ساليق وقطـيسفـون الكبرى أوالتي تَخُصُّ شقيقاتها الكنائس الكلدانية الاخرى المنتشرة في المملكة الفارسية، ومِن هذا المُنطلق إقتضت الحاجة أن يكون لهذه الكنائس رئاسة قوية وحازمة لكي تسعى الى تنظيمِها، وإذ رأى ماربابا اسقف المدائن العاصمة الخَلَلَ في عدم وجود تنظيم رئاسي بمقدوره وضعَ نظام ٍلتوحيد كُلِّ كنائس الجماعات المناطقية للكلدان المسيحيين وتنظيم الدرجات الكنسية، قَرَّرَ هو ومِن موقعِه الاسقفي الأهم بين المواقع الاسقفية الاخرى أن يُحَقِّقَ هذه الحاجة الماسة، ويكون هو وبكونه اسقف المدائن العاصمة الملكية ساليق وقطيسفون الرئيس الأعلى للكنيسة المُوَحَّدة، وبهذا الخصوص يقول المؤَرخ مشيحا زخا: < أظهر الأساقفة الآخرون حاجتهم إليه مِـن أجل الشؤون الخارجية، وعليه فإنَّ ماربابا عزم على أن يتولّى زَعامة جميع هؤلاء الأساقفة مؤَكِّداً بأنه لا بُدَّ مِن رئيس واحدٍ عليهم > ( تاريخ أربيل  ص . 44). فجلب عليه تصميمُه هذاغضـبَ الأساقفة وإكليروس المدائن وسنوجِز ما جرى بينه وبينهم أما التفاصيل الوافية فقد يجدها القاريء في كتاب المجامع الشرقية الذي اقتبسنا منه هذا الإيجاز.

 

جوبِهَ مُخَطَّطُ ماربابا بإعتراضاتٍ قوية بحسب ما جاءَ(بالمجامع المشرقية : 46 – 47) وهـو < إنَّ كهنة المدائن وغالبية الشعب أنكروا على ماربابا ذلك وحاولوا إنزالَه عن درجتِه وتنصيب رئيس شمامستِه شمعون برصبّاعي بدلاً عنه، مُتَّهِمينَه بالتَكَبُّر وحصر السُلطة بشخصِه >. ويُضيف المصدرالأول كتاب (المجامع الشرقية) ولكي يتسنّى لهم الوصول الى مآربِهم ألصقوا بالرجل الشيخ إتِّهاماتٍ باطلة ومُزوَّرة لا تليق بمكانتِه ولا تتناسب مع عُمره المُتقدِّم” ويقول لويس السمعاني (سِيَر الشهداء والقدَسين ج 3 ص .  29 / وأدّي شير في كتابه شهداء المشرق ج1 ص .262)” إنصَبَّ تَركيزُهم في مؤاخذتِهم له على تَجَبُّره وكُبريائه خلال المُناقشات الحادة التي جَرت بينه وبينهم، وكان اسقفُ الشوش مار ميليس الخصمَ الأبرزَ لماربابا لرؤيتِه فيه التَكَبُّر مُجَسَّماً، فتوَسَّطَ الإجتماعَ واقفاً ووَجَّه الكلام الى ماربابا قائلاً: < ما لي أراكَ تَتَجَرَّأ على إخوتِكأنَسيتَ قولَ رَبِّنا، إنَّ مَن أرادَ أن يكونَ فيكم كبيراً، فليَكُن لكم خادماً > فرَدَّ عليه ماربابا مُحتَدّاً: < يا جاهل، أأَنتَ تُعَلِّمُني! كأنني أجهلُ هذه الامور التي هي مِن فريضتي >.

 

يقول المؤرخ (ماري في المجدل7 – 9) وكذلك مؤلف (سِيَر الشهداء والقديسين / ج 2 ص . 266) < ومِن بين الإتّهامات التي وُجِّهت الى ماربابا، أنَّه قام بتنصيب اسقفَين في بعض المدن، ولم يتوَرَّع مِن توبيخ بعض الأساقفة المُناوئين بقسوة، وإشعارهم باحتقاره لهم لسوءِ سيرتِهم > وظنَّ الأساقفة خصومُ ماربابا بأنَّ كَفَّتهم هي الراجحة، فطالبوا بعقدِ مَجمع كنسي مُستهدفين مِن ورائه إقالة ماربابا! وعُقد المجمع عام 317 م (تاريخ كلدو وآثور / ج 2 ص . 55) وعَـمّا دار في المجـمع يـرويـه (التاريخ السعردي / ج 4 ص . 296 والمجامع المشرقية ت 46(290). < وإذ رأى ماربابا هول الإتهامات وما يَجري داخل المجمع مِن ظلم وافتراء، تَمَلَّكَه غضبٌ شديد فرفع يَدَه وأوقعها على الانجيل الموضوع في الوسط وقال: تَكَلَّم يا إنجيل تَكَلَّم! إنَّكَ الحاكمُ بيننا، أفلا ترى أنَّ الحَقَّ قد انتُهِكَ مِن قبل الأساقفة … أفلا تنتقِم للعدل! ولأنَّه لم يقترب باحترام وتهيُّبٍ مِن الانجيل لشدةِ غضبِه، ضُربَ حالاً في جِسـمِه، فشُلَّت يُمناه >. وهذا ما أيَّدته وثيقة وردت في كـتاب (المجامع الشرقية ص 7) بأن مجـمع داديشوع 424م امتدح بابا الجاثاليق وألقى اللومَ على مُعارضيه، مُنكراً عليهم حَقَّ إدانة الجاثاليق.

 

يروي الأب لابور(كلدو المسيحية : 23) < بأن نتائج هذا المجمع كانت عزلَ ماربابا وتنصيبَ شمعون برصبّاعي بدلاً مِنه” ويقول ( ماري في المجدل ص 16) < أَبقى الآباء المجتمعون على ماربابا رغم مُطالبة بعضِهم بخَلعِه، لكن مؤلفَ( تاريخ اربيل / النسخة المُترجمة ص . 122) يقول: < بأن ماربابا لم يرضخ للأمر الواقع، فقد بادر للتوِّ الى كتابةِ رسائل لأساقفة الغرب وبخاصةٍ الى اسقـف الرُّها (سَعدا) فلبَّوا نداءَه وهَبّوا لنجدتِه واعدين بمُساعدتِه لدى الملك الروماني قسطنطين الكبير، وبالفعل تَمَّت المُساعدة وأُلغِيَت كُلُّ القرارات التي اتّخِذَت ضِدَّ ماربابا وعاد له منصب الجثلقة، ويُضيف المصدرُ نفسُه ” بأن شمعون بَرصبّاعي لم يَكُن راضياً بالتدبير الجديد المُتَّخَذ ضِدَّ ماربابا حتى قبل تَدَخُّل أساقفة الغرب، وكان عازماً على إلغائه باسم الملك الفارسي عن طريق والديه المُقرَّبين مِن الملك جداً، بيدَ أنَّ ماربابا تَحَدَّثَ الى والد شمعون وطلبَ مِنه إلغاء مَسعاه لدى الملك واعداً إياه بتعيين ابنه شمعون جاثاليقاً خلفاً له بعد وفاتِه، أما الأساقفة المُتمردون الآخَرون الذين أثاروا هذه الزوبعة فقد تَعَرَّضوا للخلع والعزل والطرد دون رحمة حسبما جاءَ (بالمجامع المشرقية / 47 / 291).

 

وهكذا تَمَّ حسمُ الخلافِ الناشبِ بين ماربابا وخصومِه الأساقفة المُعارضين لصالحِه، وعُدَّ هذا الإنشقاقُ الأولَ في تاريخ كنيسة المشرق الكلدانية وتقَرَّرَ أن يكونَ ماربابا الرئيس الأعلى للكنيسة وأوَّل (جاثاليق) لها. وباشر بتنظيم الدرجات الكنسية، حيث قال عنه (مار عبديشوع الصوباوي/ كتاب الفهرس ص 303 -141) < إنَّ ماربابا هو أول جاثاليق أقام المطرانيات في كنيسة المشرق” وهو أقدم تنظيم أشارت إليه النصوص التاريخية > وبحسب ما أورده الكاردينال تيسيران (خلاصة تاريخية للكنيسة الكلدانية / ترجمة ص 16) < وكان وليدَ الصِدام بين الأساقفة وماربابا > ويُشيدُ المؤرخ(صليبا في المجدل ص 22) بهذا التنظيم قائلاً: < وكان هذا التنظيم الوسيلة الضرورية الضامنة لبقاء المسيحية في المنطقة الشرقية الواقعة خارج حدود الإمبراطورية الرومانية لأنَّ الدولة الفارسية التي نشأَت كنيسة المشرق ضِمن حدودها كانت كما يقول تيسران في (خلاصة / 16 – 17 الكنيسة النسطورية 167 – 168) < دولة عاتية ومُزمِعة على صَبِّ جام غضبِها وباستمرار على المسيحيين وبخاصةٍ على رئاستهم وفي كافة المناطق الخاضعة لنفوذِها > وتُوفيَ ماربابا عام 329م بعد أن جلس على كُرسي الجثلقة إثنَي عشرعاماً حسب قول أدّي شير(تاريخ كلدو وآثور / ج 2 ص . 57).

 

الإضطهاد الأربعيني

جلس شمعون بَرصبّاعي على كُرسي المدائن كثاني جاثاليق خلفاً للجاثاليق بابا،  وفي نهاية العقد الأول مِن جَثلقتِه أعلن الطاغية شابورالثاني الإضـطهاد الكبير ضِدَّ مسيحيي مملكته، حيث وجد نفسه في ضائقةٍ مالية غيرَ قادر على تَمويل جيشِه لمحاربة الرومان، فأمر بمضاعفة الضريبة على المسيحيين وأوكَلَ مُهِمَّة جبايتها الى مارشمعون برصَبّاعي بكتاب رسمي، غيرأنَّ مار شمعون إستهجَن هذه الزيادة المُجحفة ورفض أن يقوم بجبايتها قائلاً بانَّ هذا العملَ ليس مِن اختصاصه، فألقي القبضُ عليه وعلى عددٍ كبير مِن الأساقفة والكهنة واقتيدوا الى مدينة ليدان في الأهواز حيث كان الملك شابور مقيماً. إستشهد مارشمعون برصَبّاعي ورفاقه الأساقفة والكهنة مساء يوم الرابع عشر من نيسان عام 341 م وكان يوم الجمعة العظيمة وبدأت المذبحة الرهيبة في نحو الساعـة السادسة مساءً وانتهت بقطع رأس الجاثاليق برصَبّاعي في نحو السـاعـة التاسعة مساءً.

فلو عُدنا الى الأحداث المريرة التي طالت المسيحيين الكلدان في القرون الميلادية الأولى ولا سيما في القرن الرابع، حيث أعلن الملك الفارسي الغاشم شابور الثاني الإضطهاد الكبيرعلى مسيحيي مملكته الذي امتدَّ أربعين سنة ولذلك أُطلق عليه “الإضطهاد الأربعيني 339-379م”. قلنا المسيحيين الكلدان استناداً الى وصف ذلك المشهد المُثيرمن قبل مار ماروثا اسقف ميافرقين الشهير في ترنيمةٍ طقسية كنسية معاصرة لتلك الأحداث المريرة يجري ترتيلُها في صلاة المساء(الـرمـش) ليوم الجـمعة هذا نصُّها🙁ܡܠܟܐ ܕܪܘܡܐ ܥܡ ܦܠܚܘܗܝ ܣܝܥ ܠܓܘܕܐ ܕܡܗܝܡܢܐ ܢܦܩ ܦܘܩܕܢܐ ܕܢܬܩܛܠܘܢ ܣܗܕܐ ܟܐܢܐ ܒܝܕ ܣܝܦܐ ܬܗܪ ܟܠܕܝܐ ܟܕ ܩܝܡܝܢ ܘܙܩܦ ܨܒܥܐ ܟܕ ܐܡܪܝܢ ܕܪܒ ܐܠܗܗܘܢ ܕܡܗܝܡܢܐ ܕܟܕ ܠܐ ܡܬܚܙܐ ܦܪܩ ܠܗܘܢ)

وترجمتها : إنَّ ملكَ العُلى وجُندَه، يمنح عوناً لجميع المؤمنين، فقد صَدَرَ الأمرُ ليُقتَلَ الشهداءُ الأبرارُ بحَدِّ السيف. بُهِتَ الكلدانُ وانتفضوا وقوفاً، ورفعوا الإصبعَ قائلين: عظيماً هو إلهُ المؤمِنين، فهو يُنقذهم وإن كان لا يُرى.) انظر (كتاب الفرض الحوذرة/اللحن التاسع ص 365 الترنيمة التاسعة).

 

تُرى،أليس هذا دليلاً ساطعاً وقاطعاً بأن الشعب المسيحي في المملكة الفارسية كان كلدانياً! السؤال للمعترضين: لماذا لم يُسمّي مار ماروثا اسقف ميافرقين اولئك المؤمِنين بالآشوريين؟ الجواب بسيط جداً وبديهي جداً، هو أولاً: مِن غير الممكن إعطاء وجود لِما هو غير موجود. ثانياً: وبذات الوقت هو تأكيد لِما أكَّده العلماء والمؤرخون بانقراض الدولة الآشورية كياناً وشعباً وقد تطرقنا الى ذلك في مجلدنا الآول المشار إليه في المقدمة أعلاه وثالثا: إثبات على كون الجزء الضال من شعب الكنيسة الكلدانية النسطورية الذي خالف اجماع غالبيته العظمى التي اعتمدت هداية الروح القدس واستعادت مذهبها الحق الكاثوليكي في منتصف القرن السادس عشر نابذة المذهب النسطوري الهرطوقي الغريب، هو بحقٍّ وحقيقة جزءٌ عزيز من الشعب الكلداني، استمرأ الإنعزال والمضيَّ في درب الضلال عن طريق إصراره على التشبُّث بالمذهب النسطوري مخدوعاً بتوجيهات بعض قادته المتزمتين من العلمانيين الفارضين هيمنتهم على القادة الدينيين.

 

وماذا عن الترتيلة الأخيرة الواردة في الصفحة 188 للمجلَّد الأول لحوذرة الكنيسة الكلدانية والموجودة في “الصفحة 325 لحوذرة الكنيسة النسطورية، ط. تريشور” وهي ضمن صلاة ܡܓܗܝ ܕܬܠܬܒܫܒܐ ܕܒܥܘܬܐ ܟܕ ܐܡܪ ܡܙܡܪܢܐ: ” ܨܡ ܕܢܝܐܝܠ ܒܐܪܥܐ ܕܒܒܠ . ܕܒܝܬ ܚܢܢܝܐ ܒܐܪܥܐ ܕܟܠܕܝܐ، ܘܣܟܪ ܦܘܡܐ ܕܐܪܝܘܬܐ، ܘܕܥܟ ܚܝܠܐ ܕܢܘܪܐ ܝܩܕܬܐ، ܨܘܡܗ ܕܡܪܢ ܣܟܪܗ ܠܦܘܡܐ ܕܣܛܢܐ، ܘܐܒܗܬܗ ܠܒܥܠܕܪܐوترجمتها العربية: < صام دانيال بأرض بابل، في بيت حننيا بأرض الكلدانيين، وأوصدَ أفواه الأسود، وأطفأ قوة النار الحارقة، صوم ربِّنا أغلق فم الشيطان، وأخجل الأعداء > المُرنم الكنسي هو أحد آباء الكنيسة القدامى وهو يصف فعلَ صوم دانيال لمّا صلّى بأرض بابل، ويؤكِّد على موضِع تلاوة الصلاة الواقع بأرض الكلدانيين، وهنا أسأل: لماذا لم يكتفِ باسم بابل فأضاف تعريف الموقع بأرض الكلدانيين؟ أليس في ذلك تمييز بين بابل والكلدانيين؟ لماذا أشار الى اسم الكلدان العظيم؟ ليؤكِّد بأنَّ بابل وأرضها هي ملك الكلدانيين! وبابل لم تكن سوى مدينة عظيمة وعاصمة للشعب الكلداني العظيم يسكنها أبناؤه الذين هم أجدادُنا وفخرنا نحن أحفادهم الذين نحمل إسمهم النبيل الثابت منذ ما قبل الميلاد بآلاف السنين وبعد الميلاد حتى يومنا هذا، ولم نعرف لنا اسماً آخر على مدى تاريخنا المدني والكنسي.

 

مِن بلاد الكلدان ومِن بابل عاصمتِهم خَرَجَت النبوّة تُحَدِّد بوضوح زَمَنَ مجيء المسيح المُخلِّص، فقد تَكَلَّمَ الملاكُ جبرائيل مع دانيال وقال : ” يا دانيال، إني خَرَجتُ الآن لأُعلِمَكَ فتفهم. عند بدءِ تضَرُّعاتِكَ خَرَجَت كَلِمة… إنَّ سبعينَ اسبوعاً حُـدِّدَت عل شَعبِكَ وعلى مدينةِ قـدسِكَ لإفناءِ المعصية وإزالة الخطيئة… (دانيال 9 / 22 – 23 – 24 ). وفي فلسطين تَمَّت البشرى بميلاد الإله الكلمة يسوع المسيح وفيها أمضى حياتَه الأرضية ونشرَ تعاليمَه الخلاصية التي حَمَلَها رُسُلُه وتلاميذُه كبُشرى سارة الى سُكّان العالَم أجمع في شَتّى بِقاعِه، ومِنهم سُكّان بلاد ما بين النهرين، وقد جاءَ في الكتاب المقدس في أعمال الرُسُل 2 / 8 – 11 وكان بين الذين أنصَتوا الى كلام زعيم الرُسُل بطرس يوم العنصرة (الفنطيقسطي) يوم حلول الروح القدس على التلاميذ الأطهار بعد صعود المسيح له المجد الى السماء بخمسين يوماً) فآمنوا به، بعضٌ مِن سُكّان بلاد ما بين النهرين، وليس مُستبعَداً قيامُ هؤلاء المؤمنين بكلام مار بطرس بنشر المسيحية في بلادهم لدى عودتهم إليها (خلاصة تاريخية للكنيسة الكلدانية / الكاردينال تيسيران / ترجمة القس سليمان الصائغ ص 7).

 

يذكر المسعودي في كتابه (الإشراف والتنبيه ص 207 ) بأنَّ عدد الضحايا الذين قتِلوا في الإضطهاد الشابوري الأربعيني السيءِّ الصيـت بلغ مِئَتَي الف شهيد، أما المؤرخ سوزمين (التاريخ الكنسي2 ص 14) فيقول بأن عدد الشهداء الذين عُرفَت أسماؤهم يَربو على سـتة عشر ألف شهيد. كان الإضطهاد الأربعيني بالنسبة للكنيسة الشرقية رهيباً بعنفِه رائعاً في صمود ضحاياه وخصباً في إفرازاتِه المستقبلية.

 

ولِئَن لحقت بكنيسة المشرق الكلدانية خسائرُ فادحة بأرواح أبنائهـا ومِـن بينهم العديد مِن أرواح رؤسائها، فإنَّ هذا الإضطهاد وبالرغم مِن عنفِه فشلَ في إستئصال شأفتِها، حيث خرجت صافية نقية وبهية رغم اصطباغِها بالدماء الزكية وغَدَت أكثر رسوخاً في عقيدتِهـا وثباتاً على مبادئها. لقد تحوَّلت دماءُ أبنائها الغزيرة التي أروَت الأرض الفارسية الى سمادٍ ذي فاعلية قصوى وعامرة، أعطى نـتائج باهرة، فكانت الغِلال كافية لسد جوع التائقين الى قوت البشارة الخلاصية المسيحية، فراح المُبَشِّرون المسيحيون الكلدان النساطرة يوزِّعونه لكُلِّ أجناس البشر وفي كُلِّ قطر ٍومَصرٍ الداني مِنها والقاصي.

 

تَنَفَّسَت كنيسة الشرق الصعداءَ بعد مَوت الطاغـية شابورالثاني مِن هول الإضطهاد المرير الذي إحترق بناره المسيحيون الكلدان كاحتراق الهشيم في النار، حيث كان يشتدُّ طوراً بهبوب رياح الوشايات اليهودية والأحقاد المجوسية وطوراً يهدأُ ويرتخي تبعاً لسير رياح النصر بصالح الفرس في حربهم الضروس ضِدَّ أعدائهم الرومان.

 

ليس هنالك مِن شَكِّ بأن فترة ً طويلة مِن الزمن مَرَّت على الكنيسة، شغر خلالها كُرسيَّ الرئاسة في المدائن بعد إستشهاد الجاثاليق مار بَربَعْشَمين عام 346 م حيث يقول الكاردنال تيسيران في كتابه (خلاصة تاريخية للكنيسة الكلدانية ص 20) < بقيَ كُرسيُّ ساليق شاغراً مدة تُقدَّر بنحو أربعين سنة ًبعد استشهاد ثلاثة رُعاةٍ متعاقبين وهم شمعون برصَبـّاعي وشهدوست وبَربَعشَمين >. لكنَّ أقوال المؤَرخين تَضاربت حول مدة هذه الفترة إلاّ أنَّهم إتَّفقوا على أن إثنين توَلَّيا المنصب هما تومرصا وقيوما.

 

الإنشقاق الداخلي الثاني

تُعتَبرُ الفترة الأكبر مِن القرن الرابع فترة َامتحان عسير لكنيسة المشرق الكلدانية عَبَرَتها بصبر طويل، وشرعـت تدريجياً باستعادة قوتها بعد خفوت وطأة الإضطهاد في العقدَين الأخيرين، وتَجَدَّدَت رئاستُها العليا بانتخاب اسحق الجاثاليق عام 399م الذي فيه اعتلى العرشَ الفارسي الملكُ يزدجرد الأول وساد نوعٌ من السلام في ربوع الكنيسة، بفضل تظافر جهود ماراسحق الجاثاليق ومارماروثا اسقف ميافرقين اللذين وطَّدا علاقاتهما بالملك وكبار رجال الدولة الفارسية، وكان لإستجابة الملك الإيجابية ودعمِه لجهود اسحق وماروثا الأثرُ الفعال في استتباب السلام في الكنيسة، بيد أنَّ الأساقفة المُناوئين للجاثاليق اسحق لم يتوأموا مع الوضع الجديد بل تصدّوا للجاثاليق اسحق وقاوموا رئاسته. أثنى على مار اسحق آباءُ مجمع ساليق الرابع المعروف بمجمع داديشوع المعقود عام 424 م بالقول: < إنَّه هو الذي نَظَّمَ الرئاسة العليا بعد فراغِها لمدة إثنتين وعشرين سنة > بالرغم مِمّا كان يحظى به مِن تقدير وإكرام مِن الملك يزدجرد، إلاَّ أن الأساقفة المُناوئين له لم يدعوه يهنأَ برئاستِه، إذ لم يتورَّعوا مِن الإيقاع به لدى الملك، ويذكر كتاب (المجامع الشرقية ص 48 – 49) بأن مارماروثا تداركَ الأمرَ قبل إستفحاله، وتمَكَّنَ مِن تبرئة ساحته في مجمع ساليق الثاني الذي عُقد عام 410 م. دامت رئاستُه إحدى عشرة سنة، حيث تُوفيَ في نهاية عام 410 م .

 

إنَّ أهمَّ الأسباب التي دَعَت الى عَقد مجمع ساليق الثاني عام 410م برئاسة الجاثاليق اسحق، كان لإقرار القوانين والأنظمة الكنسية التي أقرَّها مجمع نيقية عام 325 م مِن أجل تطبيقها مِن قبل رئاسة كنيسة الشرق في كافة كنائسها، وقد عُقِدَ المجمع في عام 410 م، وتَصَدَّرت أعمال المجمع كلمة افـتتاحية قيِّمة تَضَمَّنت إطراءً لأمجاد ملك الملوك يزدجرد الأول، فيها ثُمِّنَ قرارُه الشامل على بلاده كُلِّها والقاضي بأن يُجَدَّدَ بناءُ كُلِّ الكنائس المُهَدَّمة، وأن يُخلى سبيل كُلِّ الذين في السجون أو رهن الإعتقال بسبب عَقيدتهم المسيحية، وأن يتمتعَ بالحرية كُلُّ رجال الدين. واعتُبرَ قرارُ يزدجرد الأول هذا في الشرق، موازياً لمرسوم ميلانو الشهير الذي أصدره عام 313 م قسطنطين الكبير في الغرب قبل مئة عام. والفضل في هذا كُلِّه يعود الى ماروثا اسقف ميافرقين الذي قَدِمَ الى المملكة الفارسية مرتَين في عام 399 م بتكليفٍ مِن الملك الروماني أركاديوس، حيث أبرأَ الملكَ يزدجرد مِن مرضه وأنقذ إبنَه مِن أسر الشيطان وأنجزَ إبرامَ الصلح بين الفرس والرومان، وفي عام 408 م وبطلبٍ مِن الأساقفة (الآباء الغربيين) الذين كَلَّفوه بنقل رسائلهم الثلاث المُذيَّلة بتواقيع أشهر أساقفة مناطق غرب الفرات (سوريا وما بين النهرين) هُم بحسب ما جاء في كتاب (المجامع الشرقية ص 18 والترجمة ص 255): فريفير يوسف اسقف < بطريرك > أنطاكية ،آقاق اسقف حلب، بقيذا اسقف الرُّها، اوسابيوس اسقف تَلا، و آقاق اسقف آمد.

                                                                                    

عُقدت اولى جلسات المجمع يـوم الثلاثاء الأول مِن شباط لعام 410 م واستُهِلَّت بصلاة رفعها الآباء المُجتمعون مِن أجل حياة يزدجرد الأول، ثمَّ تُليَت رسالة الآباء الغربيين الموجهة الى ماراسحق والمُتـضمِّنة لقـوانين مجمع نيقية، وقبِلَت بالإجماع مِن قبل جميع آباء المجمع ووقَّعوها بمجموعهـم. وعلى ضوءِ ما ورد فيها بَحث الآباءُ في تنظيم الامور الخاصة بالإدارة الكنسية، ثمَّ باشروا باعتماد واحدٍ وعشرين قانوناً تتعلَّق بصُلب سياسة كنيسة الشرق الروحية والإدارية، نُدرجُ أدناه أهَمِّ القرارات القانونية التي أقرَّها آباء المجمع:

 

1 – أن يَتَبَوّأ كُرسي الرَعِـيَّةِ اسقفٌ واحدٌ فقط  .

2 – لا يجوز إجراء رسامة الاسقف إلاّ على أيدي ثلاثة أساقفة ، وبتأييد مطران المُقاطعة .

3 – وجوبُ عَقدِ اجتماع للمطارنة والأساقفة برعاية الجاثاليق في ساليق كُلَّ سنتَين مَرة ً واحدة  للتـشاور ودِراسة الأوضاع الكنسية .

4 – توحيد الصلوات الطـقسية في كافة الكنائس طِبقاً للنظام المُتَّبَع في كنيسة المدائن .

5 – توحيد أعيادِ الميلاد والدنح والقيامة في جميع الكنائس .

6 – عَدَم جَواز تقديم الذبيحة الإلهـية في البيوت . بل أن تُقامَ على مذبح ٍ واحد في كُلِّ مكان .

7 – توحيد الصوم في الكنائس كُلِّها .

8 – الجاثاليق هو الرئيس الأعلى لجميع المطارنة والأساقفة ( البطريرك لاحقاً ) .

9 – يتوَلَّى اسقف كُشكُر مَنصبَ مُعاونِ الجاثاليق، وفي حالة وفاة الجاثاليق يَقوم بتدبير كُرسي الجَثلقـة لحين انتخاب جاثاليق جديد .

10 – تحديدُ الكراسي  الميطرابوليطية بخمسة كراسي

 

ورغم قصر مدة المجمع على ما يبدو، إلاَّ أنَّ نتائجَه كانت هامة وايجابية لكنيسة الشرق، وباعتماد مجمع ماراسحق قوانين مجمع نيقية وبضمنها قانون الإيمان الذي أقرَّه <318> ثلاثمائة وثمانية عشر اسقفاً، يُعتبر المجمع الأول لكنيسة المشرق مِـن حيث الأهمية، إذ مِن خلاله تمَّ تشريع واحدٍ وعِشرين قانوناً، إستطاع بواسطتِها تنظيم علاقات المؤمنين برُعاتهم على اختلاف رُتبهم وعلاقات هؤلاء الرُعاة براعيهم الأعلى جاثاليق المشرق. لقد نشر الأب حنا شابو هذه القوانين مع ترجمتِها الفرنسية عام 1902 في باريس. والى الجزء الثاني قريباً.

 

الشماس د. كوركيس مردو

في 25 / 11 / 2014

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *