الإنشقاقات والنكبات التي عصفت بالأمة الكلدانية وكنيستها والمآسي التي حَلَّت بها عِبرَ الزمَن / الجزء العاشر

مسيرة كنيستنا الكلدانية المشرقية النسطورية خلال العهد الأموي

 

29 – الجاثاليق البطريرك كيوركيس الأول 660 – 680م

لقد تزامنَ انتخابُ كيوركيس الأول جاثاليقاً لكنيسة المشرق الكلدانية مع بدايةِ  قيام الدولة الأموية  بخلافة (معاوية بن أبي سفيان عام 661 – 680م) إن خير مَن يُتحفنا عن حياة مار كيوركيس الأول وبالتفصيل هو توما المرجي في (كتاب الرؤساء ص 76- 83) أما المؤرخ ماري فيَمُرُّ على ذكره مَرَّ الكرام كأحد بطاركة الكنيسة، ولكن عمرو، فيروي عن حياته وصفاً وأحداثاً بمساحة صفحة واحدة  في المجدل .

يقول المرجي بأن ماركيوركيس الأول، وُلد في بلدة كُفري الواقعة الى الجنوب الشرقي مِن كركوك بحوالي 100كم. إنتمى الى رهبانية دير بيث عابي،  ولم يلبث أن ترك الديرَ ليتفرَّغ للخدمة الكهنوتية الى جانب مطران حِدياب(أربيل )ايشوعياب الحِديابي. وحين انتُخِبَ ايشوعياب جاثاليقاً، رَسمَه ميطرابوليطاً لحدياب، وبذلك زاده قرباً إليه حتى أنه قبل وفاته أوصى بإختياره جثاثاليقاً خلفاً له. بيدَ أنَّ هذه التوصية جوبهت بإعتراض مِن مُنافسَين يحملان نفس الإسم لمنصب الجثلقة هما: كيوركيس مطران براث ميشان وكيوركيس مطران نصيبين. يتحدَّث عن مناقب الجاثاليق ماركيوركيس الأول بإسهابٍ المؤرخان القس بطرس نصري (ذخيرة الأذهان ج1 ص 266 – 267) وتوما المرجي (كتاب الرؤساء ص 76 – 79) حيث يتفقان بأنَّ كيوركيس الجاثاليق الجديد كان مجبولاً على التواضع الفريد، وهو ما ساعده على إصلاح ذات البَين بينه وبين مُنافسيه المطرانَين اللذين كادا أن يُحدثا إنشقاقاً في الكنيسة المشرقية الكلدانية النسطورية.

 

فقد قصدَ الى نصيبين بنفسِه وصالحَ مطرانَها، وطلب مِن الربان خداهوي رئيس دير بيث حالي، أن يتولى مصالحة مطران براث ميشان وقد نجح في مُهمته. وبعد تغلُّبه على هذه المُعضلة، ركَّزَ عنايته الى تهدئةِ الامور المُضطربة في منطقة بيث قـطرايي (قطر الحالية) فصمَّمَ على عودة النظام إليها، حيث كان أهاليها قد أعلنوا العصيان على مطران روارداشير بمنطقة فارس والذي كان يرعى شؤونهم. ولذلك فقد قام الجاثاليق كيوركيس بالنزول الى المنطقة، وكانت محطتُه الأولى جزيرة “ديرين”أو “دارين” كما يُسمِّيها المؤرخ ياقوت الحموي (معجم البلدان2 ص 432) تقع بجوار البحرين، وأفلح ماركيوركيس في إرجاع السلام والنظام الى المنطقة، حيث يذكر كتاب (المجامع الشرقية / الترجمة ص 480 – 490) بأن ماركيوركيس عقد مجمعـاً هناك عام 676م حضره مطران وأساقفة ديرين، والطيرهان، وعُمان، وهجر (إحدى مدن البحرين الرئيسة يتَّخذ مِنها المرزبان الفارسي مقرّاً لإقامته) والخطّ ويُسمّيها الكلدان “حطا” وكانت تقع على الضفة الغربية للخليج العربي في المنطقة المعروفة اليوم بـ”الاحساء”. كان ماركيوركيس عالِماً ومؤلفاً، قام بتشريع قوانين كنسية جديدة وفـَتحَ مـدارس عِدة .

ومِن وضعه، المناداة الرائعة (كاروزوثا ܟܪܘܙܘܬܐ) نُرتُّلًها إثنين الباعوثا، ومطلعُها (إيها الإله الموجود منذ الأزل ܐܠܗܐ ܐܝܬܝܐ ܕܡܢ ܥܠܡ) انظر (الحوذرة 1 ص 183) توفي ماركيوركيس عام 680 في الحيرة ودُفنَ بجوار الجاثاليق مارآبا الكبير. تعَـرَّضَ في فـَترةِ رئاستِه الى مصاعبَ شتى كانت وليدة الأحداث السياسية.

 

30  – الجاثاليق البطريرك يوحنا بَرمَرتا أي”إبن مرتا” 682 – 684م

يقول بطرس نصري (ذخيرة الأذهان ج1 ص 168) كان يوحنا بَرمَرتا أهوازيَّ الأصل، اقيمَ مطراناً على جَنديسابور، وبعد وفاة سـلَفِه الجاثاليق ماركيوركيـس الأول، انتُخِبَ جاثاليقاً إلا أنَّ وضعَه الصحي ترَدَّى كثيراً كما يقول عمرو (المجدل ص 58) فلم يستطع الإستمرارَ بتسيير شؤون الرئاسة، فنصحه الأطباءُ بالعودة الى وطنه والخلودِ الى الراحة، كان شيخاً وَقوراً وما إن وصـل الى قرية “متوت” حتى وافته المَنِيَّة، فدُفِنَ فيها، ولم يذكرْ له المؤرخون أيَّ نِتاج ٍ أدبي أوكنسي .

 

31 – البطريرك الجاثاليق حنانيشوع الأول (الأعرج) 685 – 700م

كان مِن مواليد النصف الأول مِن القرن السابع، جرى انتخابُه عام 685 م أي بعد وفاة سلفِه يوحنا بَرمَرتا بثلاث سنوات، إذ يقول المؤرخان (صليبا ص 57 – 58 وماري ص 63) بأن رئاسة يوحنا بن مرتا لم تدُم إلا عامين وعدة أشهر. تروي المصادر التالية (في المجدل/عمرو ص 58 – 60 ، ماري ص 63 – 65 ، كتاب الرؤساء ص 41 ح 1 و ص 52 ح 5 ، مُعجم البلدان2 ص 543 وما يليها ) بأنَّ حنانيشوع كان عالِماً حاذقاً، ومؤلفاً بارعاً، وضع47 تُرجماناً وتفسيراً بالإضافة الى ميامرَ ورسائلَ وتعازي. ألَّف أربعة كُتُبٍ تتناول فصول الإنجيل شرحاً وتفسيراً، وعن كُلِّ فصل له فيه وعظ ولومٌ يتناسب مع مخزاه. سَنَّ عشرين تشريعاً في القضاء. صنَّف كتاباً بعنوان”عِلَلالموجوداتܥܠܠܐ ܕܐܝܬܘܬܐ“. ويقول عبديشوع الصوباوي في (السمعاني ص 154) بأنه كتب سيرة سركيس دودا، ومقالتين بصدد المدارس. وتستطرد المصادرُ مشيرة الى المُضايقات والـمتاعب التي تعرَّض لها خلال رئاسته، فقد ناصبَه العِداءَ ايشوعياب مطران البصرة، حتى أنه إغتصبَ الكُرسيَّ الجثلقي لفترة، إضطرَّ بعدها للرضوخ للواقع والتخلّي عنه لصاحبه الشرعي حنانيشوع. بيدَ أنَّ الشدائد التي سعى الى تدبيرها له يوحنا الداساني مطرانُ نصيبين المُلقَّب بـالأبرص كانت ثقيلة عليه جداً. فقد استطاع الحصول على دعم الخليفة عبد الملك بن مروان، الذي أوعز الى إبنه”بشر” والي الكوفة بعزل الجاثاليق حنانيشوع وتولية يوحنا الأبرص على الكُرسي.

 

ولم يروِ هذا غليلَ يوحنا، بل أراد تصفيته جسدياً،  وبالفعل سخَّرَ بعضَ أعوانه، فقاموا بعملية إختطاف مارحنانيشوع، وذهبوا به الى الجبل وطرحوه مِن موقع مرتفع، فتدحرج وسقط في الوادي، فتحطمَ جسمُه وأصاب الكسرُ إحدى ساقيه، وظنوا أنه قد قضى نَحبَه، إلا أنَّ العناية الإلهية تداركته وهو على شفير الموت، فقد أبصره رعاة تواجدوا في ذلك المكان، إعتنوا به حتى إستردَّ صحته، ولكنَّ العُرجَ لازمَه طوال بقية حياته نتيجة ذلك الفعل الشنيع. وبطريقة ما تمكنَ مارحنانيشوع مِن الوصول الى هيكل بَرطورا (إبن الجبل) الذي شيَّده آبا تلميذ داديشوع في جبل سنجار، وقام بتوسيعه تلميذه يونان فعُرف بدير يونان،  ومِن هذا الدير باشر بتسيير شؤون الكنيسة المشرقية. أما مصير يوحنا الأبرص فكان تُعساً وقصرَ العُمر، حيث تعذرَ عليه الإيفاءُ بما وعد به للحُكّام مِن الأموال،  فراح يتوارى عن نواظرهم منتقلاً مِن مكان الى آخر، ولم تدُم به هذه الحال المُضنية فكراً وجسماً إلا سنة وبضعة أشهر حتى وافته المنيَّة.

 

وبعد تخلُّص حنانيشوع الجاثاليق من هذين الطامعَين وبقائه الرئيس الأعلى الوحيد للكنيسة، باشرَ فوراً بإصلاح ما خلَّفه تصرُّفُ يوحنا الداساني الأهوَج، مِن التصدُّع والتمَلمُل والإضطراب فيها، وما فتيءَ مُثابراً على تنظيم امورها حتى داهمه المنونُ وهو في الدير ذاته، والذي لم يُغادره لأنه لم يكن يأمَنُ جانب الحجاج المُجرم الذي كانت تلك المنطقة ضمن ولايته. ونود أن نُسجِّل هنا ما قاله صليبا في كتاب (المجدل ص60) عن حنانيشوع الأول بالنص: <إنه استناح ودُفنَ به (أي بالدير) وجُعِلَ جسدُه في تابوتٍ مِن خشب الساج، ومِن بعد ستمائة وخمسين سنة انفتح الناووس الذي كان التابوت فيه، وظهر جسدُه وهو منطور كأنه نائم، وبادر الى رؤيته أكثر أهل مدينة الموصل، وشاهدناه بأعيننا مع جملة الحاضرين، والى الآن كُلُّ مَن يقصدُ أن يراه ويتبارك مِنه فذلك له مُباح، ومَن يشكُّ في ذلك، فليمضي فيُبصر ويُصّدِّق> وللحقيقة والتاريخ ففي عام1349م عُثرَ في الموقع على رُفاة الجلثاليق حنانيشوع، ولكن عائيدتها نُسبت في حينه الى النبي يونان    (يونس لدى المسلمين) وعُرف المسجد المُشيَّد هناك بمرقد النبي يونس .

 

32 – الجاثاليق البطريرك يوحنا الداساني الأبرص 693 – 694م

كان مطراناً على نصبين مُحباً للسلطة بإفراط ويسعى للوصول إليها بأية وسيلةٍ مهما كانت لئيمة وذليلة وجالبَة الأذى للمقابل، وهذا ما فعلَه لإنتزاع كُرسيِّ الجَثلقة من الجاثاليق مارحنانيشوع الأول، فقد جاء في كتاب (ذخيرة الأذهان ج1 ص 369) بأنَّه أغـرى بعضَ امراء بَني أمية واعداً إياهم بمبلغ كبير من المال في حالة استحصالهم له أمراً من الخليفة عـبد الملك بـن مروان بتنحية مارحنانيشوع عن كُـرسي الجثـلقة ليحتَلَه هو، وتمَّ له ما أراد. ويقول عمرو (المجـدل ص 60) وإذ لم يَفِ بوعدِه للأمراء بسبب عجزه، عمَد الى الهرب ، وما لبثَ أن القيَ القبضُ عَليه وزُجَّ في سجن إحدى قرى الكوفة، ولم يمض عليه عامٌ ونصف العام حتى توفي في السجن.

 

33- البطريرك الجاثاليق صليبا زخا 714 – 728م

إنَّ الأحداث التي مرَّت على الكنيسة المشرقية في عهد الجاثاليق حنانيشوع، ووجودَ الحجاج على رأس السُلطة في هذه المنطقة، ودَورَه المُمانع لإنتخاب جاثاليق جديد خلفاً لمارحنانيشوع، مِمّا أدّى الى شغور كُرسيِّ الرئاسة المشرقية لمدة 14عاماً حتى موت الحجاج عام 714م . وتولّي السُلطة بعده “يزيد بن عقيل المقلد “الذي لم يُمانع بانتخاب جاثاليق للكنيسة، ووقع الإختيارُ على صليبا زخا مطران حِدياب والموصل، فتمَّ انتخابُه بالإجماع.

 

وبحسب قول بطرس نصري (ذخيرة الأذهان ج1 ص 333) كان صليبا زخا مِن أصل طيرهاني، تلقى العِلمَ في مدرسة المدائن، رأى فيه حنانيشوع الأول الهمة والنشاط، فرسمَه اسقفاً على الأنبار، إلا أنه تعرَّض لغضب يوحنا الأبرص فطرده مِن كُرسيِّه، فاضطرَّ للذهاب الى نصيبين. وبعد وفاة يوحنا الأبرص، رَقّاه حنانيشوع الى منصب ميطرابوليطية حِدياب والموصل. ثمَّ انتُخبَ جاثاليقاً في المدائن عام 714م كما مَرَّ بنا القول. أنحى باللائمة عليه توما المرجي في (كتاب الرؤساء ص 95 – 96) وأسبغ عليه صِفَتَي الجشع والعجرفة، وربَّما كان مَرَدَّ ذلك إستياءً مِنه على قيامِه بالتجاوز على حقوق دير بيث عابي، حيث في زيارةٍ قام بها للدير، حاول الإستيلاء على إنجيل رائع ذي غلافٍ ذهبي مُرصَّع بأحجار كريمة تحتفظ  به مكتبة الدير، وما إن همَّ بوضعه في حقيبته حتى هَبَّ عليه الرهبان وانتزعوه من يده. ولكنَّ صاحبَي المجدل يُطريانِه على مزاياه فيصفانه بصاحب الحزم وحسن الدراية بالشؤون الكنسية واسلوبِ إدارته لها.

 

وجاء في كتاب (ذخيرة الأذهان ج1 ص 334) بأنه أولى اهتماماً كبيراً لإصـلاح ما خَرَّبَه يوحنا الداساني الأبرص، باقتلاعِه لبذور الفوضى والإضطراب التي زرعها في حقل الكنيسة، وقيامِه بطرد الأساقفة غير الشرعيين وتجريدِهم مِن الدرجة الأسقفية، وإعادة اولئك الذين طردهـم يوحنا الأبرص، ورَسمِه آخرين فضلاء، كما رَسَمَ أساقـفة جُدداً لكراسي هرات والهند وسمرقند. ويُضيفُ المؤرخ الكلداني ماري (كتاب المجدل ص 65) ما نَصُّه: <بعد موت عمر بن عبد العزيز رحمه الله، تقلَّد الخلافة يزيد بن عبد الملك، وردَّ النصارى الى خِدمَتِه  وأكرمهم. وخرج عليه يزيد بن المهلَّب بالبـصرة، وادَّعى الخلافة، فأنفذ إليه أخاه مسيلمة وظفر به بكُشكُر> ويسترسل ماري بالقول: <ومات أيضاً في أيامه يقصد أيام صليبا زخا يزيد بن عبد الملك وتقلَّد الخلافة (هشام بن عبد الملك 724 – 743م) والجدير بالإشارة هو بأن باباي الجبيليتي الذي سبق الكلام عنه في باب التنويه بعلماء الكنيسة المشرقية في الجزء الثاني مِن كتابنا (الكلدان والآثوريون عبر القرون) برزَت شُهرتُه على عهد هذا الجاثاليق عن طريق نشاطه الكبير في الحقل التعـليمي، فقد أسس المدارس ونظمها ووفَّر لها كافة المستلزمات، واهتمَّ كثيراً بالألحان الموسيقية الكنسية وبخاصةٍ ترتيل البركات التي تُتلى على رأسَي العريس والعروس لدى عقد الزواج. يقول عمرو(المجـدل ص 61) بأن مارصليبا زخا عاصر ثلاثة خلفاء أمويين هم سليمان بن عبد الملك، عمر بن عبد العـزيز، يزيد بن عبد الملك

 

34 – البطريرك الجاثاليق فـِثيون 713 – 740م

لم تُعرف الأسبابُ بالدقة، تلك التي أدَّت الى شغور كُرسيِّ الجثلقة بحدود ثلاث سنواتٍ مِن وفاة مار صليبا زخا، ويميل المؤرخون في ذلك الى تبايُن آراء الأساقفة في اختيار الأجدر بينهم لتولّي كُرسيَّ الرئاسة العليا، وعلى هذا الأساس  تأخر انتخاب الجاثاليق، ولم يتِمَّ انتخاب فثيون بالسهولة المُعتادة. فبخصوص فثيون كان مُقرَّباً مِن صليبا زخا وهو الذي رسمه اسقفاً على طيرهان وكان ذا سيرة حميدة أشاد بها المؤرخون، فيقول عنه صليبا في (المجدل ص 61) ما نصًّه: <إنَّه لم يكن مُحباً للمال قدَّس الله روحَه الطاهرة، فإنها أكرمُ خِلَّةٍ في رؤساء البـيعة> ويُضيف قائلاً: <كان كثيرَ الشبه بمارآبا الأول الكبير، وجدَّد العمل على مِثاله، كما جَدَّ في الذود عن المسيحيين> أما ماري فقال عنه في (المجدل ص 66) ما يلي وبالنص: <كان خالد بن عـبدالله القسري يتقلَّد العراق وامه رومية الجنس، ويَقصُدالجاثاليق كثيراً ويُكرمُه. وكان فثيون إذا دخل إليه بالكوفة، يُجلسُه على كُرسيٍّ ويخلعُ عليه ويطلب الحنان ويسأَله الدُعا، ووافقه على شيءٍ يسير يؤدّيه عن الخراج بالمدائن، وكتب له كتاباً وتقدم الى طارق خليفته بصيانته. فتشبَّهَ به الأساقفة في عمارة البيع والإسكولات>.

 

يروي ماري (المجدل ص 66) وتيسران (خلاصة تاريخية للكنيسة الكلدانية ص 50) أما عن انتخاب فثيون للجثلقة فلم يتَّفِق عليه الأساقـفة بالإجماع، بل كان هنالك مؤَيِّدون ومُعارضون، ومِن بين المعارضين يوحنا الأزرق اسقف الحيرة وآبا اسقف كُشكُر، حيث أعربَ الأزرقُ عن رغبته في تولية آبا اسقـف كُشكُر سُدّة الرئاسة. بيدَ أنَّه جوبهَ بمعارضةٍ شديدة مِن قبل الاسقف عبد المسيح الحيري، فنشب خصامٌ بين الأساقفة أدّى الى رفع الأمرالى المسؤولين الحكوميين، حتى وصل الى الخليفة هشام. فقال الخليفة ُ كلمته الفصل بانتخاب فثيون جاثاليقاً للكنيسة المشرقية وكان ذلك عام 731م. وجاءَ في كتاب (المجدل ص 64) عن صليبا قوله: بأن الكثير مِن العلماء والقديسين تزامنت حياتهم مع عهد الجاثاليق فثيون ومِن بينهم: بولس اسقف الأنبار، سبريشوع مؤسس دير واسط، غريغـور اسقف حَرّان وكان عالِماً بالكيمياء، والعالِم اسقف البوازيج يوحنا، واسقف الحديثة يوحنا وآخرون غيرهم… وافت المنية مار فثيون عام 740م ودُفِنَ في المدائن .

 

35 – البطريرك الجاثاليق آبا الثاني 741 – 751م

يقول ماري (المجدل ص 66) بأن آبا الثاني كان كُشكُريَّ المولد، مِن رعيل مواليد منتصف القرن السابع، نَهِـَلَ العِـلمَ مِن منابع مدرسة المدائن، رُسم اسقفاً على مدينته كُشكُر، وواظب على المطالعة والتفسير طوال مدة بقائه على كُرسيّ كُشكر الاسقفي. ومنذ أوائل القرن الخامس وبالتحديد منذ عام 410م الذي عقد فيه مجمعُ ساليق الثاني برئاسة الجاثاليق ماراسحق، كان أحدُ قرارات المجمع المذكور إسناد منصب مُعاون الجاثاليق الى اسقف كُشكُر،  وفي حالة وفاة الجاثاليق يتولّى مَهامَ الجاثاليق لحين انتخاب جاثاليق جديد. وعند شغور الكُرسي الجاثاليقي بوفاة مار فثيون عام 740م، تولّى آبا اسقف كُشكُر تلقائياً تدبير شؤون الكنيسة. ولدى التئام مجلس الأساقفة لإنتخاب جاثاليق جديد، توَزَّعت آراء الآباء الأساقفة وجموع المؤمنين بين آبا وبين مطران جنديسابور، وفي النهاية كانت كفَّة آبا هي الراجحة، ففاز بالإنتخاب ورُسم جاثاليقاً في المدائن عام 741 م باسم آبا الثاني. لُقِّب مارآبا بـ (ذي الإرادة الصالحة – بريخ صِويانا ܒܪܝܟܨܒܝܢܐ) .

 

يتحدَّث بطرس نصري (ذخيرة الأذهان ج1 ص 336 – 337) وتيسيران (خلاصة تاريخية للكنيسة الكلدانية ص 50 ) لم يكن سلوكُ سكان المدائن لائقاً تُجاه الرئاسة العليا، فاستاءَ مارآبا الثاني مِن سوءِ تصرُّفهم، فترك المدائن وقصد الى دير واسط  في كُشكر للإقامة فيه، واستبقى في المدائن معاونَيه وتلميذَيه شهدوست اسقف الطيرهان وميليس اسقف الزوابي. وبسبب التأثير الصحي والعُمري على يوحنا الأزرق اسقف الحيرة، منعاه عن حضور رسامة مارآبا الجاثاليقية، لذا بادر مارآبا لزيارته في الحيرة ثمَّ رجع الى كُشكُر. يتحدَّث ماري في (المجدل ص 66) عن موقف حاكم العراق مِن الجاثاليق آبا بقوله نصّاً: <كان يوسفُ بن عمر يتقلَّد العراق وكان باغضاً للنـصارى، فكره مارآبا أن يُقيمَ بالمدائن إلا بعد لقائه. فقصد الكوفة، فلما رآه عجب به وسأَله عن أسبابه وعن أشياء إستحسن جوابَه فيها> وهذا يؤكِّد ما قيل عن آبا الثاني بأنه كان ذا غيرةٍ ويمتلك قدراً وافراً من الثقافة والعِلم.

ساءَت أحوال كنيسة المدائن بغياب رئيسها عنها، وتلاعبَ البعضُ بأموال الكنيسة ومدرستها، وتضايق المؤمنون مِن تردّي الأحوال، ولم يجدوا حلاً للمعضلة إلا بعودة مارآبا الى كُرسيِّه، فبعثوا إليه ممثلين يرجونه للعودة قاطعين العهد بالطاعة وحسن السلوك. فما كان مِن مارآبا إلا الإستجابة الى مطلبهم، وعاد الى المدائن وأصلح الامور المتدهورة. وفي عام 751م وافته المنيَّة بعد عمر طويل دام 110 أعوام، وكان ذلك العام بداية للعصر العبّاسي، ويُعتبَر مارآبا الثاني آخر جثالقة الكلدان عاش في عهد الدولة الأموية. والى الجزء الحادي عشر قريباً.

 

الشماس د. كوركيس مردو

في 3/2/2015

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *