الإنشقاقات والنكبات التي عصفت بالأمة الكلدانية وكنيستها والمآسي التي حَلَّت بها عِبرَ الزمَن الجزء الرابع والثلاثون

 

مؤامرات بعثة اسقف كانتيربري

إذاً كانت بعثة رئيس أساقفة كنيسة كنتربري الإنكليزية برئاسة القس “وليم إنكَر ويكَرام” المدعومة من حكومة مملكتها الإنكليزية المتحدة التي كانت قد رسمت لها مهمة سياسية استخبارية، ولكنها مغلفة بستار ديني مذهبي هي الأكثر تأثيراً على أبناء امتنا الكلدان النساطرة. لقد حَلَّت هذه البعثة اللعينة في منطقة هيكاري موطن أبناء امتنا الكلدان النساطرة، إذ كانوا قد ارتدوا ثانية الى النسطرة عام 1670م في عهد البطريرك المُرتد شمعون الثالث عشر كما نوَّهنا في الجزء الثلاثين من هذه الدراسة، واتخذت منها مقرّاً لنشاطها التخريبي وفق تعليمات حكومتها، وكان ذلك في عام 1884 م. كان جميع زوّار هذه المنطقة من جيران وأجانب يعرفون سكانها بأنهم كلدان نساطرة وينادونهم بهذا الأسم كما كانوا هم يُسمّون انفسهم، باستثناء ما كانت كُلُّ جماعةٍ منهم تُطلق على نفسها تسمية عشائرية موقعية. وأوضح برهان على كلدانيتهم هو ختم بطاركتهم الشمعونيين الذي يقرأ “محيلا شمعون بطريركا دكلدايي” أي “الضعيف شمعون بطريرك الكلدان”. وبهذا الصدد يقول الشماس كيوركيس بنيامين الآشيثي (نسبة الى قرية أشيثا في هيكاري) في كتابه المُعنون (ريشانوثا أي الرئاسة” طبعة شيكاغـو عام 1987) (إنَّ كل الذين كانوا يزوروننا كانوا يطلقون علينا تسمية “الكلدان النساطرة”، أمـا التسمية (ألآثورية أو ألاشورية) فجاء بها هؤلاء الأجانب الذين حلوا بديارنا) وبالتأكيد يعني بعبارة الأجانب، أعضاء بعثة كنيسة كنتربري الإنكليزية، وما اكثر المصادر التاريخية الأخرى التي تؤكِّد كلدانيتهم.

ولكن مار شمعون الثامن عشر روبين لم يَيأس رغم إجهاض المُرسلين الأنكليكان اللقاء بينه وبين البطريرك الكلداني، فكرَّر محاولة التوحيد في عام 1902م نادماً على رفضه لرسالة البطريرك مارعبديشوع خياط، كما ذكرت (مجلة النجم العدد الخامس لعام 1929) وعِبرَ مخطط تجسُّسي للبعثة الأنكليكانية رصد أعضاؤها سير المحاولة فعلموا بأن البطريرك مار شمعون أوفد شقيقه المطران إبراهيم بمعية إبن عَمِّه نمرود الى الموصل ليُقابلا البطريرك الكلداني الكاثوليكي  مارعمانوئيل الثاني توما للبحث في موضوع توحيد شطري الكنيسة، أما ريموند كوز في كتابه (تاريخ كنيسة المشرق/مسيحيو العراق وايران وتركيا ج2 ص 230) فيقول: بأن الوفد الذي أرسله البطريرك الى الموصل لمقابلة البطريرك الكلداني كان مؤلفاً من أخيه ابراهيم اسقف هيكاري بمعية مطران آخر وعدد من أعضاء الأسرة البطريركية على رأسهم زعيمُهم نمرود، وجميعهم أعلنوا جهراً قانون الإيمان الكاثوليكي ولحق بهم عددٌ كبير من النساطرة. وفي أثناء وجودهم في الموصل تلقوا نبأ وفاة مار شمعون، فعادوا أدراجهم مُسرعين الى هيكاري لأن المطران إبراهيم كان المرشح لخلافة شقيقه البطريرك، إلاّ أنَّ الإنكليز كانوا الأسرع في تدبير وفاة البطريرك ذي الميول التوحيدية وتنصيب إبن الشقيق الثاني للبطريرك المتوفى ايشاي بدلاً من المطران إبراهيم، وكان شاباً يافعاً إبنَ السادسة عشرة سنة، رسمه عمُّه البطريرك مطراناً في 1/3/1903 تحت إلحاح وضغط رؤساء العشائر النسطورية الذين أُقنِعوا من قبل ويكرام ورهطه ليكون خليفة عمِّه البطريرك.

وبعد وفاة البطريرك روبين “روئيل” في 16/3/ 1903 استغلوا غياب المطران إبراهيم المرشح لخلافة شقيقه البطريرك، فأقنعوا مطران شمدين اسحاق خنانيشوع ذا الصلاحية الوحيد لرسم البطريرك، فقام برسم المطران اليافع إبن ايشاي ربيب الإنكليز بطريركاً، ولدى وصول مبعوثَي البطريرك المطران إبراهيم وابن عمِّه نمرود، وجدا أنَّ المؤامرة التي دبَّرها أعضاء بعثة اسقف كانتيبري قد نجحت وتمت سرقة المنصب البطريركي من صاحبه الشرعي بخطة انكليزية دنيئة. خضع المطران ابراهيم للأمر الواقع حرصاً منه على عدم تصدُّع الكنيسة النسطورية وانعكاس ذلك  سلباً على العائلة الشمعونية وهكذا استطاع الأنكليكان إفشال قيام الوحدة بين شطري أبناء الكلدان. يقول ريموند كوز في كتابه (تاريخ كنيسة المشرق/مسيحيو العراق وايران وتركيا ج2 ص 230) لعب براون (وهو أحد اعضاء البعثة الأنكليكانية البارز) دوراً هاماً في انتخاب خلف لشمعون السابع عشر(الصحيح الثامن عشر) بينما كان معيَّناً المطران ابراهيم ليخلفه. تآمر براون ضِدَّه، وحرَّض القبائل الباقية أمينة للتقليد القديم على عدم الإنصياع له، فتألَّب جمع كبير حول الجاثاليق المُحتضر على فراش الموت لينتزعوا منه تعيين إبن أخيه بنيامين الفتى اليافع ليحلَّ محل ابراهيم، فرُسمَ اسقفاً في 2 من آذار عام 1903م وعُيِّنَ خلفاً لشمعون الثامن عشر الذي أدركته المنية بعد أيام قليلة.

وتروي مجلة النجم في نفس العدد: بأن بعثة رهبانية دومنيكانية كاثوليكية كانت قد حَلَّت قبل هذه الأحداث في منطقة رعايا مار شمعون المشارقة الكلدان المعروفين بالنساطرة، وباشرت بتقديم خدمات متنوعة لهم من حيث إنشاء المدارس لأبنائهم الى جانب تقديم الخدمات الطبية لمرضاهم، فلقيت أنشطتهم استحساناً من هؤلاء الرعايا وأثنوا عليها وأقبلوا على اكتساب العِلم والثقافة. إلا أن الأمر لم يَرق للمبعوثين الأنكليكان حيث أحدث لديهم غضياً وامتعاضاً لسببين: الأول لإخفاقهم بحمل النساطرة على تغيير مذهبهم النسطوري الى الأنكليكاني والثاني لخشيتهم من ضياع الفرصة عليهم  في استغلالهم لتحقيق مُخطط اهداف مملكتهم الإستعمارية عن طريقهم، إذ لو توحدوا مع إخوانهم الكاثوليك سيعود ولاؤهم لفرنسا الكاثوليكية، فتضيع عليهم مسألة القيام بخدعهم بواسطة أيجاد تسمية قومية دخيلة لهم بدلاً من قوميتهم الكلدانية الأصيلة، فصمَّموا على فعل كل ما بوسعهم لقلب المعادلة لصالحهم بأيِّ ثمن وأيَّة وسيلة، وكانت النتيجة كما مَـرَّ شرحُها.

البطريرك اليافع شمعون التاسع عشر بنيامين

يقول السيد ريموند كوز في كتابه (تاريخ كنيسة المشرق/ مسيحيو العراق وايران وتركيا ج2 ص 231) تكفل الراعي براون بتنشئة شمعون التاسع عشر، وصفه المؤرخون ولا سيما الكاثوليك منهم، ربما مُبالغين، بأنَّه انصرف الى اللهو، مُفضِّلاً صيد الدبَبَة وركوب الخيل، على إقامة القداس وصلاة الفرض. يعود  الفضل للدومنيكان المُقيمين في أشيثا في اهتداء الكثيرين من النساطرة الى الإيمان الكاثوليكي في عهد هذا البطريرك، وهذا ما أحرجه كثيراً وجعله يحقد على الكلدان وعلى روما. ونحن نقول بأنَّ هذا الأمر ليس مُستغرباً مِن فتىً يافع أنيط به منصب البطريركية خلافاً للشرعية التقليدية للكلدان النساطرة، فالبطريرك المرحوم بنيامين سُرقَ له المنصب البطريركي بالتآمر الإنكليزي المدعوم بتعصُّب رؤساء العشائر الذين كانوا ضحية هذا التآمر، ثم كيف يمكن لفتى يافع أن يكون مرشداً ومدبراً حكيماً وهو دون سن البلوغ؟ أصبحت زعامتُه المدنية بعد بلوغه أهمَّ لديه بكثير من قيادته الروحية وبشكل كبير لا يُقارَن، ميالاً الى الإنتقام من خصومه مهما كانوا قريبين منه، ولا يتردد في إصدار أوامر القتل سراً بحقهم، ولكي نُثبت ما ذكرناه نُدرج أدناه أقوال وشهادات شهود عيان معاصرين للبطريرك النسطوري ( بنيامين التاسع عشر 1903- 1918 ) من خلال ما ورد في كتاب (ܡܟܬܒ ܙܒܢܐ ܕܒܝܬ ܢܗܪܝܢ مَخْتَو زَوْنِي دْبيثْ نَهْرين أي تاريخ بلاد النَهْرين) المطبوع في شيكاغو عام 1979م لمؤلفه شموئيل كليانا.

انشقاق في البيت الشمعوني ومقتل آل بيت نمرود

جاء في الصفحة 686-687 من الكتاب المُنوَّه عنه أعلاه ما يلي: ولِئَلا يقع بأيدي الأتراك (أي مارشمعون بنيامين)، نُقل مِن داره في قوجانس الى تياري العليا بأُبهةٍ ومراسيم جميلة، ومنها الى “ديز” وجرى ذلك في يوم الإثنين الأول من شباط بداية الصوم عام 1915. وحَلَّ في بيت صِهرِه سليمان بن ملك اسماعيل، وعندما سمع القائمقام بعزم آل بيت شمعون الإنتقال مِن قوجانس الى تياري، توجَّهَ الى قوجانس فشاهد مار بنيامين مُحاطاً بـ 500 من الحُرّاس، فتأثرَ مُظهراً حزناً وألماً على المقر البطريركي وعلى آل البيت الشمعوني، وطلب مجدداً من البطريرك العدول عن الرحيل، مطلعاً إياه على ضرورة المحافظة على الهدوء والتسليم للسلطة وصرف الحراس ليذهب كل واحد الى قريته، فما كان من البطريرك إلا التعبير عن سروره.

وتقبَّل مار بنيامين كلام القائمقام بالشكر وأعرب عن امتنانه له، وفرح بصرف الحراس ليذهب كُلُّ الى داره، وقبوله بتوفير الحماية من قبل العشائر الكردية، كما وعد بالسعي للسلام مع نمرود لتسود الوحدة والمحبة والهدوء وطاعة السلطان. ومِن ناحية اخرى ومن باب الإحترام سأله القائمقام أن يُرسل تلك المجاميع الى أماكن إقامتها.

دواعي مقتل آل بيت نمرود

السبب الأول: “الحسد” في كيف يمكن القبول بأن يُعهَد أمرُ مار بنيامين الى جماعة المختارين ونمرود. فنادى بعض رؤساء حزبه، وبدلاً من قيامهم بإرساء السلام وقفوا بالضِد.

السبب الثاني: هو الإتحاد الذي عقده نمرود مع الكنيسة الكاثوليكية الكلدانية برئاسة مار يوسف عمانوئيل الثاني توما وتسليمه (أي عقد الإتحاد) الى السلطة التركية، وتلك كانت العِلة التي دفعت مار بنيامين ليتحمل شخصياً مسؤولية مقتل آل بيت نمرود.

الشاهد (1): الشماس ابراهيم كليانا الموسوي، شماس كنيسة مار بنيامين. توفي سنة 1969 في مدينة الخابوربسوريا. شهد المرحوم بما يلي: لقد تـمّ اختيارنا ضمن حراس البطريرك في الوقت الذي انتقل من قوجانس الى ديز لكي لا يُقبض عليه بأمر السلطان التركي. منذ بداية شهر حزيران 1915 وبشكل سِري اختار البطريرك 10أو12 شخصاً الذين كانوا موضع ثقته ويتكل عليهم. وضمن هذا المجلس كان: دانيال بن ملك اسماعيل من تياري العليا، سبو كينا من أبناء جماعة وردة طيارايا، القس نويا، زيعا، بثيو الخولازري وثلاثتهم بازيون، القس كاكا، مكو الحومري وهما من تْخوما، والباقون كانوا من العشائر المختلفة. بدأ مار بنيامين كلامه وركَّز على موضوع مقتل نمرود وآل بيته الذي أصبح سبباً للإضطراب. ثمَّ اصطحب كُلُّ واحدٍ منهم رجاله وهو يقول بأنهم ذاهبون الى قوجانس لعقد السلام والهدوء بين جماعة البطريرك وجماعة نمرود(جماعة المختارين). فرحنا وسُررنا كُلُّنا بهذا الصدى الذي سمعناه عن الحب والسلام. غادرنا ديز وعددنا بحدود 40 رجلاً لا أكثر، وعند قطعنا نصف المسافة توقفنا للإستراحة، وأثناء ذلك أُبلغ جميع أعضاء المجلس بالأمر البطريركي الذي مفاده < بأن البطريرك بنيامين أصدر أمراً بطريركياً يقضي بقتل كُلِّ رَجُلٍ من بيت نمرود مسالماً أو غريباً. وعند وصولنا الى قوجانس حَلَلنا في بيت مار بنيامين، ودخل ثلاثة من الرؤساء الى بيت نمرود وقالوا له: لقد أرسلنا رؤساء العشائر لإرساء السلام بينكم، وقد اخترنا دار مار شمعون مكاناً لعقد هذا السلم ولو أن البطريرك ليس معنا حيث هو موجود في ديز. فرح نمرود وأعَـدَّ الطعام للجميع. بعد الإنتهاء من تناول الطعام، نادى رجال بيته ودخلوا الى بيت بنيامين كما طلب منهم من أجل تحقيق السلام. وفي الحال قبضوا عليهم وكانوا ثمانية شبان ورَجُلَين. ودخل إثنان من الرؤساء الى مُخدع نمرود وهو مريض طريح الفراش، فأطلقوا عليه الرصاص وخرجوا من القرية ومعهم الأسرى، وصعدوا بهم الى جبل يسمى”خطرشا” وهناك إنقضوا عليهم بالخناجر وقضوا عليهم. كان شليطا أسيري، حَلَلت القيد مِن يديه وتركته يهرب، وبينما هو يهرب في الجبل وكاد أن يختفي عن الأنظار، إلا أن المدعو “سبو” التياري، أطلق عليه النار من بندقيته وأرداه قتيلاً. والذين تـمَّ قتلهم هم: نمرود، دنحا، درياوش، شليطا، عمانوئيل، الأخوان يوآب وهيناكو، شاؤل قليتا، وابن استير شقيقة نمرود. هذه كانت شهادة الشماس ابراهيم. كما دوَّنَها السيد شموئيل كليانا في كتابه ( مَخْـتَـوْ زَوْنِي دْبيثْ نَهْرين أي تاريخ بلاد النَهْرين) المطبوع في شيكاغو عام 1979م.

الشاهد (2):السيد زومايا أبو صارو <يقول السيد شموئيل كليانا: من أجل تأكيد جريمة القتل على لسان شاهدَين، سألتُ المرحوم زومايا صارو قائلاً: باعتباري أحد كتبة التاريخ، يتحتم عليَّ الإبتعاد عن كُلِّ ما هو باطل وكتابة الحقيقة عن مقتل نمرود ورجال بيته غير آبهٍ بمَن ينالُه الفرح أو الحزن. فقال زومايا: أنا الآن قريبٌ مِن حافة القبر وضريرٌ لا أرى شيئاً وهذه هي شهادتي وأُقِرُّ بصحتها وأعتبر بأن الخطيئة الأولى تقع على القتلة لأنهم نَفذوا أمر البطريرك. ولديَّ قصة اخرى مُشابهة لهذه، تدور أيضاً حول جريمة قتل. إصغِ إليَّ جيداً: في أحد الأيام في سلامس، جاءَني القائد اسرائيل بثيون الى دارنا، والرَجُل كان يُحبني وكنتُ ملازماً له أثناء الحرب وأُرافقه في كُلِّ مرةٍ يُكَلَّفُ فيها للقيام بمهمةٍ رسمية. قال لي: أنتَ ويوحنان بَرخو مدعوان غداً لمقابلة مار بنيامين البطريرك في الساعة العاشرة. وبحسب أمره ذهبنا أنا ويوحنان في الصباح، قَـبَّلنا يَدَه وجلسنا ننتظر حتى انصراف حاضري المجلس، وبعد مغادرة كافة الجُلساء الموقرين. سأل البطريرك فيما إذا كان لدينا طلبٌ إليه؟ أجاب يوحنان قائلاً : يا سيدي، قد أرسلنا القائد اسرائيل لمقابلتك بناءً الى طلبكَ. ضحك البطريرك وقال لنا وهو منشرح فرحاً: أيها الشابان، عليكما الوقوف كحارسَين في باب الدار، وحين يأتي الأغا بطرس وقبل أن تطأ قدماه عتبة باب الدار، تقتلانه فوراً! وبحسب أمره وقف كُلٌّ مِنا بجانب الباب كحارسَين، وقد خيَّمَ الصمتُ علينا ونحن نفكر بموضوع قتل الأغا بطرس، فسألني يوحنان قائلاً: ما رأيُك بأمر البطريرك وماذا ستفعل؟ فكان جوابي، إن هذا الأمر يُشبه الأمر الذي أصدره لقتل نمرود ورجال بيته، وإني أرى أن أبتعد عن فعل هذا الشر وإن غضب البطريرك، ولن نمس الأغا بطرس بأيِّ ضرر. وفيما نحن نتحاور بهذا الأمر، أبصرنا الأغا بطرس خارجاً مِن رأس الفرع متوجهاً نحونا، فاقترب منا وحيّانا بالسلام وهو يبتسم، فقلت له، يا أغا ليس هناك موافقة لمقابلة البطريرك، لكنه أجاب، بأن محبة حقيقية تجمع بين البطريرك وبيني ودخل دون أن نمنعه. أبصرنا البطريرك خارجاً من غرفته الى الغرفة العليا وقد إحمَرَّ وجهُه مِن الغضب. أما الأغا بطرس فما إن وصل قرب البطريرك حتى ركع لتقبيل قدميه، فأمسك البطريرك بذراعه وأنهضه ودخلا سويةً الى غرفة البطريرك.كان سبب الخصام فيما بينهما بعض الإختلاف حول الحرب والسلاح، فبينما يرى الأغا بطرس توفير بندقية لكل قادر على حمل السلاح في بيته، فيما يرغب البطريرك أن يُصار الى تجهيز قوة نظامية. بعد انتهاء المقابلة خرج الأغا بطرس وحيّانا بالقول: شكراً لكما أيها الموقران وغادر بالسلامة. في هذا الوقت، لو قمنا بتنفيذ أمر البطريرك، لكان أبناء تْخوما الى هذا اليوم يُتهمون بقتل الأغا بطرس وليس البطريرك بنيامين! وعليه فأنا أشهد وأُقرُّ أمام الله والبشر وأنا واصل الى حافة القبر، راجياً رحمة الرب، بأن كُلَّ ما قلته عما حدث في شهر أيار 1915 عن مقتل نمرود ورجال بيته هو حقيقي.

وتحت عنوان (محطات دموية في تاريخ العائلة المارشمعونية) كتب السيد بولص يوسف ملك خوشابا في موقع عنكاوا.كوم الإلكتروني/المنبر الحر بتاريخ 27/7/2013 ما يلي:

قبل البدء بمعاودتي الكتابة اعتذر من القراء الاعزاء عن هذا الانقطاع الذي كان سببه وفاة شقيقتي الصغرى بعد معاناةٍ من مرض عضال واصابتي بوعكةٍ صحية منعتني من الاستمرار في الكتابة لفترة قصيرة وانا عند عهدي لقراء التاريخ ومتابعيه الباحثين عن التاريخ الحقيقي لشخصيات ورموز هذه الامة والاحداث التي تقرر فيها مصيرها …..
لقد كثر الكلام والكتابة عن التوريث في العائلة البطريركية والذي كان يصب في خانة التفنن في ايجاد التبريرات للوراثة البطريركية حالها حال التبريرات الاخرى للاخطاء القاتلة التي ارتكبتها هذه العائلة والتي لم يسلم من دمويتها حتى ابناء عمومتها حيث بدات عهدها بالدماء وانهته بالدماء، وان من يطالع كتاب (تاريخ بطاركة البيت الابوي) لمؤلفه المطران ايليا ابونا ونرجمة بنيامين حداد سيجد ان التشبث بالظروف القاهرة كتبرير لارساء التوريث ما هي الا حجة غير حقيقية، ولكنَّ الحقيقة كما ترويها الاحداث هي الاستماتة في الحفاظ على الكرسي البطريركي داخل العائلة الواحدة ……
المحطة الاولى :
جريمة قتل وقعت في البيت المارشمعوني (ابونا) في القوش (في عهد البطريرك ايليا الثامن حيث كان قد نُذر اثنان لولاية العهد البطريركي بموجب التقليد المُتمخِّض من قرار البطريرك شمعون الرابع الباصيدي. الاول ايشوعياب بن دنخا والاخر حنانيشوع بن ابراهيم شقيق دنخا وكان دنخا وابراهيم اخوين للبطريرك ايليا الثامن. ولكون ايشوعياب بن دنخا ابن الاخ الاكبر لذا كانت الخلافة البطريركية من حقه الا انه لم يكن متعلما بما فيه الكفاية مثل حنانيشوع بن ابراهيم والجماعة كلها رشحت حنانيشوع للبطريركية ورفضت ايشوعياب رغم احقيته. فغضب والدُه دنخا لدى رفض ابنه ايشوعياب وفي احد الايام عمد الى قتل حنانيشوع ابن اخيه اثناء الصلاة في الكنيسة،  وهرب مع عائلته الى اورميا في بلاد العجم ومن ثم نقل كرسيه الى قوجانس سنة 1621م وهكذا تاسست هذه الكنيسة التي اصبح اول بطريرك عليها ابشوعياب ابن دنخا الذي قتل ابن اخيه في الكنيسة اثناء الصلاة فهل يمكن لاي صاحب ضمير حي يؤمن بالمسيحية ان ينسى او يتناسى هذه الجريمة ؟؟؟؟؟
المحطة الثانبة ؛
مقتل نمرود وابنائه واقربائه: في 19 ايار سنة 1915 قتل نمرود وابنه شليطا وابن اخته يوناثان وستة من اولاد اخوته في قرية قوجانس على يد زمرة من عشائر تخوما وباز وديز وبايعاز من البطريرك مارشمعون التاسع عشر بنيامين وبتحريض من سرمة خانم.  وكان مار شمعون بنيامين قد غادر قوجانس الى ديز حيث اوعز من هناك الى اربعين رجلا من العشائر المذكورة وبقيادة نفر من الذين يعتمد عليهم في تنفيذ اوامره الخاصة بالذهاب الى قوجانس وقتل جميع الذكور من عائلة ال نمرود اولاد عمومته بحجة ان نمرود رفض الانصياع الى اوامره بمعاداة الدولة العثمانية ولم يترك قريته قوجانس رافعا العلم التركي على داره كمواطن تركي. ويُعتقَد انه اراد القضاء على نمرود قبل ان تنتشر افكارُه تلك بين العشائر الاثورية فتبقى على ولائها للحكومة. في الوقت الذي كانت رسالة مارشمعون بنيامين الى الروس قد ضبطت من قبل الاتراك مما يجعله يتحمل المسؤولية لوحده امام الدولة العثمانية من جهة والإخفاق امام اصدقائه الروس والانكلبز اذا لم ينجح في تنفيذ تعهده في تحريض الاثوريين على الوقوف ضد الدولة التركية من جهة اخرى. فتحرك هؤلاء الاشخاص من ديزالى قوجانس وعند وصولهم الى دار نمرود قالوا له بانهم جاءوا لياخذوهم الى عشيرة ديز لمصالحتهم مع ابن عمه مار شمعون بنيامين . فاجاب نمرود الذي كان مريضا وطريح الفراش بانه سيلبي طلبهم بكل ترحاب وامرَ باعداد الطعام والفراش لهم حتى اليوم التالي لكي يتسنى لافراد عائلته تهيئة انفسهم للسفر. وفي اليوم الثاني طلب هؤلاء الرجال الاجتماع بآل نمرود في دار مار شمعون المتروكة قبل مغادرتهم قوجانس. وعند دخولهم تلك الدار ألقي القبضُ عليهم ورُبطت ايديهم وارجلهم بالحبال وجرى تعذيبُهم بوحشية . فقال لهم ال نمرود (اذا كان هذا هو شكل المصالحة التي تنوون اجراءَها نسترحمكم ان تسمحوا لنا بثلاثة دقائق فقط لنؤدي فيها صلاتنا الاخيرة) الا ان هؤلاء الرجال القساة فتحوا نيران بنادقهم على اولئك الشبان المغلوبين على امرهم واردوهم قتلى يتخبطون في دمائهم في نفس الغرفة التي كان مار شمعون يجلس فيها سابقا. ثم عادوا الى دار نمرود وقتلوه في فراشه كما قتلوا يوناثان ابن شقيقته على السلم اثناء نزوله من الطابق الثاني بسبب سماعه صوت البنادق. وبعد ذلك ربطوا كل شخصين من الباقين معا بالحبال بحجة اخذهم الى عشيرة ديز بما فيهم شليطا ابن نمرود الذي كان شابا وسيما وقويا ومثقفا. وفي الطريق اطلقوا النار عليهم وقتلوهم جميعا ما عدا شليطا الذي تمكن من الهروب والاختفاء خلف شجرة في الغابة بعد اصابته بجرح بليغ في معدته.

كان شليطا يضمد جرحه بقطع من ثيابه وهو يسير في الليل حتى وصل قرية ترفونس حيث كانت تسكنها خالته المسماة نابط التي سهرت عليه وحاولت اسعافه دون جدوى حيث توفي متاثرا بجراحه. وكذلك خطف الموتُ 28 فرداً من افراد تلك العائلة المنكوبة من النساء والاطفال من جراء الجوع والبرد وعدم وجود من يقدم العون لهم خوفا من انهم قد يلاقون نفس المصير . وكان ضمن من هلكوا المطران اوراهم ابن اخ نمرود والذي كان المرشح الاول ليكون بطريركا بدلا من مار شمعون بنيامين الا ان عائلة بنيامين (اسم العائلة وليس اسم قداسة البطريرك) كانت اقوى نفوذاً من عائلة نمرود التي كان لها الحق الشرعي في الحصول على البطريركية حسب عرف العشائر الاثورية “التقليد المُتوارث” لذا استطاعت عائلة بنيامين الإستحواذ على هذا الكرسي لنفسها. فمات المطران اوراهم جوعا وعطشا حيث كان يصرخ ويطلب كاسا من اللبن مقابل ختمه الديني الذهبي الذي كان يقدر ب 14 ليرة تركية. الا ان احدا لم يجرؤ على مساعدته بالرغم من مرضه فمات في قرية مار اوراها على نهر الزاب وهكذا كانت نهاية هذه العائلة المنكوبة . وبعد خمسة ايام من مقتل نمرود وافراد عائلته جاء الى قوجانس مارشمعون بنيامين ومعه ثلة من جنود قوقاز الروس وعدد من اتباعه فاخذوا يطلقون رصاص الفرح في الهواء ابتهاجا في الوقت الذي كانت جثث اولئك المنكوبين من افراد عائلة نمرود منتشرة في اروقة قوجانس تنهش بها الطيور الكواسر. انتهزت امراة من ال نمرود بقيت على قيد الحياة هذه الفرصة فاخذت تهاجم مارشمعون وتشتمه بغية استفزازه ليامر بقتلها لانها فضلت الموت على الحياة بعد مشاهدتها لتلك الجريمة البشعة التي ارتكبت على مراى منها …..
لقد ذكر المغفور له مالك لوكو شليمون اسماء القتلة وانتماءاتهم العشائرية واسماء ضحاياهم في مذكراته التي صدرت في شيكاغو بفضل الجهد الجبار لابنه المهندس مالك يونان بن مالك لوكو الذي ترجمه الى اللغة الانكليزية بعد جهدٍ كبير تحت عنوان 
Assyrian struggle national survival.
الاسباب التي ادت الى ارتكاب هذه الجريمة يمكن تلخيصها فيما يلي :
1 / للتخلص من المنافسين على الكرسي البطريركي
2 / لازاحة المعارضين لسياسة اقحام الاثوريين في الحرب العظمى الاولى قبل ان تسري فكرة الرفض بين العشائر وهتاك العديد من شهود عيان منهم عزيز اغا البازي الذين حضروا ارتكاب المجزرة ولكنهم رفضوا الاشتراك فيها وقالوا: ان الامر الصادر اليهم كان يقضي بابادة رجال هذه العائلة. ويؤكد ذلك التقرير السري البريطاني عن الحادث الصادر في حينه
. 

لدى وصول نبأ مقتل نمرود ورجال بيته بسبب إخلاص نمرود وأمانته لوطنه الى السلطان التركي، أمر السلطان بتهيئة جميع القبائل الكردية المعادية للبطريرك ومن كُلِّ صوب، وفي ذات الوقت خرجت قوة تركية نظامية من الموصل. وبدعم من القوات الكردية في منطقة البروار. عسكر الجميع في طرف وادي” ليزان” ورجال تياري السفلى من الطرف الآخر. وهيّأ القائمقام آغا الجال للوقوف بوجه التياري وتْخوما. سوتو أغا اورومار العدو القديم للكلدان النساطرة “الآثوريين” الذي بدأ بشن الحرب على جيلو وتْخوما. كان هذا الإستعداد قد خُططَ له قبل نهاية حزيران. في ذلك الوقت سقطت ليزان بأيدي الأتراك. قوات أغا الجال حوربت من قبل التْخوميين. إصطحب بابو ملك تْخوما 60 مقاتلاً وذهب لنجدة باز، وصدِّ قوات سوتو عنها وعدم تمكينهم من القيام بنهبها انظر ص 691 من كتاب (ܡܟܬܒ ܙܒܢܐ ܕܒܝܬ ܢܗܪܝܢ مَخْتَو زَوْنِي دْبيثْ نَهْرين ترجمته هي ” تاريخ بلاد النَهْرين”) المطبوع في شيكاغو عام 1979م لمؤلفه شموئيل كليانا.

 منذ بداية حرب الأكراد ضِدَّ قوجانس، سُلبت قوجانس ونُهبت من جميع الجهات. كان قتالاً مريراً ودامياً جرى في كنيسة مار ساوا. استولى الأتراكُ على الجسر، وبوصول المقاتلين التْخـوميين أُستُعـيدَ من أيدي الأكراد، واستمرَّ القتالُ ثمانية أيام بدون انقطاع. مار بنيامين دخل الى” لخزكاوار” تلقى الكثيرَ من الوعود والتقدير من روسيا، وتسلَّمَ كمية قليلة مِن البنادق. وبعد مدة قصيرة، انسحب الجيشُ الروسي من “كاوار” الى “أرضروم” ميدان القتال. وما إن علمت الجماعات الكردية بانسحاب روسيا حتى بدأوا بالهجوم على الجماعات الآثورية الجبلية. استدعى أغا الجال مقاتليه من منطقة نيروا وريكان، وقام بهجوم مفاجيء على التياري ووصل الى رأس تاحي “مهالي” محلة آل اورايا بمنطقة كَلي الطلنة. تمَّ الإستيلاء عليه وأُحرق. تعدّى صوت القتال حدود منطقة الملك كيوركيس، فانتفضَ واصطحبَ معه عدداً من المقاتلين بما يُقدَّر بنصف عدد المقاتلين التْخوميين لمساعدة التياري، وبطريقةٍ قتالية خِداعية نفذوا هجوماً على الأكراد الذين لاذوا بالفرار الى كوماني.

في ذلك الزمان المضطرب بسبب الحرب والقتال ضِدَّ الآثوريين، كان هرمزد شقيق ماربنيامين يدرس في مدرسة اسطنبول، نُقِلَ من مدرسة السلطان الى الموصل لهذه الغاية  ، حيث كتب حيدر بيك رسالة وأرسلها الى مار بنيامين يقول فيها: < إن شقيقك هرمزد أصبح الآن بين يديَّ، فإذا لم تتوقفوا وتستسلموا لأمري سوف يُعدم شقيقُكَ، وإذا توقفتم سوف يتحرر من الأسر. عندها دعا مار بنيامين رؤساء العشائر واجتمع بهم في “طال” وقرأ على مسامعهم رسالة الشرير حيدر بيك. وبعد التداول في مضمون الرسالة، كتب البطريرك جواباً على رسالة حيدر بيك قائلاً: < امتي هي أمانة برقبتي، وبكُلِّ ما أستطيع سأُحافظ عليها، ولا أُضحي بها من أجل شخص واحد وإن كان هذا الشخص شقيقي > وما إن وصل هذا الجواب الى حيدر بيك الشرّير حتى أمر بإعدام هرمزد شنقاً. وفي ذلك الإجتماع الذي أقَـرَّ الرسالة اقترح أغا بطرس قائلاً: ليس لنا مَن يُلبّي احتياجاتنا. الطريق الى ايران مفتوحة، وبسهولة يستطيع أبناءُ امتنا الجبليون تركَ الوطن والتوجُّه الى ايران: الرؤساء اقترحوا على مار بنيامين بأن يخرج 60 رجلاً الى الطريق نحو ايران أملاً بتلقي المساعدة من روسيا. فكانوا في النهار يتجسسون الجبال وفي الليل يواصلون السير، وقد امتدَّ بهم حتى وصولهم سلامس من 24 حزيران حتى 20 آب 1915م.

طوال شهري الصيف الأخيرَين لم يسمعوا شيئاً من البطريرك، ولم يتوقف الأكرادُ المجاورون والمسنودون من السلطان التركي عن خلق الإضطرابات وبخاصةٍ سوتو اورامار حيث كان يُهاجم جيلو وباز حتى اضطرَّ أهل جيلو للهرب الى ديز فتمَّ سلب جيلو. خرج بابو ملك تْخوما لإستقبال القس دانيال كاهن باز وبمعيته مقاتلون فدائيون مشهورون. كتب رسالة الى أغا سوتو قال فيها: < إذا كنتَ حقاً إبن اومارو كما تقول؟ أشعِل النار في باز! وإذا لم تضرب الباز، إسأل والدتكَ مَن هو أبوك؟ وذيَّل الرسالة” أنا بابو ملك تْخوما” وبعد قراءة أغا سوتو للرسالة لم يقترب من الباز ثانيةً. وتحالف مع الدستوكيين قائداً إياهم للسطو عن طريق الكمائن لسلب أغنام الكوندِكثا ومزرعايا في زوماني. اكتُشِفَ أمرُهم من قبل الجواسيس فدار القتال بين الطرفين على قمة جبل الميدانيين، وكان عددُ الغزاة بزعامة أغا سوتو كبيراً مقارنة بعدد مقاتلي تْخوما، وعند احتدام القتال استطاع الأكرادُ التسلقَ الى أسوار مزرعايا والقبضَ على ايشاي بن سليمان إبن 18 عاماً ذي قلبٍ كقلب الأسد، كان يُقاتل الى جانب والده فقتل. ردَّ المزرعانيون على الأوراريين بهجوم معاكس فلاذوا بالفرار مخلفين سبع جُـثث معلقة على الأسوار. والى الجزء الخامس والثلاثين قريباً.

الشماس د. كوركيس مردو

في 23 /7 / 2015

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *