الإنشقاقات والنكبات التي عصفت بالأمة الكلدانية وكنيستها والمآسي التي حَلَّت بها عِبرَ الزمَن / الجزء الثلاثون

 

 

نساطرة قبرص الكلدان

نبذة قصيرة عن جزيرة قبرص

قبرص جزيرة شهيرة، كان الفاصل بينها وبين آسيا الغربية والشرق الأوسط البحر المتوسط، لعبت دوراً متميِّزاً في التاريخ. ومنذ عام 1192 وحتى عام 1489م حكمتها سلالة ذات اصول فرنسية، تكيَّفت واقتبست الكثير من الفكر الشرقي وتبنَّت عادات سكّانه. تطوَّرت العلاقات بينها وبين الشعب الأرمني والشعوب البيزنطية فجرى التصاهر بين الطرفَين. غدت قبرص الملاذ الأكبر للمسيحيين الشرقيين الهاربين من بلدانهم الأصلية التي كانت تعمُّها الإضطرابات وحكوماتها منهمكة بالحروب، فضلاً عن الذين وقعوا أسرى بأيدي قوات الإمبراطورية الرومية من الكلدان النساطرة مواطني المملكة الفارسية عام 581م إثر انتصارها الكبير بقيادة قائدها الشهير مرقيان على القوات الفارسية الساسانية بقيادة آذورماهان. ويقول الأسقف المونوفيزي يوحنان الأفسسي في (تاريخه ص 382 و 407) قُدِّرعددُهم بسبعين ألفاً تَمَّ إسكانُهم في جزيرة قبرص. ويعزو السمعاني (تاريخ السمعاني 3/2 ص 432) بأن أحفاد اولئك الكلدان النساطرة هم الذين عادوا الى الكثلكة في منتصف القرن الخامس عشر وبالتحديد عام 1445م على عهد البابا اوجينوس الرابع.

 

وقد شكَّل الكلدان النساطرة في قبرص جالية لا بأس بها يرعاها اسقف يرتبط بميطرابوليطية طرسوس، وبما أنَّ رئيس كنيسة روما الجامعة وباعتباره خليفة بطرس الرسول، يتحتم عليه البحث عن الزائغين عن الإيمان القويم، ومنهم الجماعات المسيحية الشرقية التي أجبرتها الظروف للإقامة والعيش في قبرص، فكانت أنظار كنيسة روما متَّجهةً نحوهم منذ عام 1222م حيث أصدر البابا هونوريوس الثالث في الثاني من شباط لنفس العام أمراً بابوياً مُوجهاً لبطريرك اورشليم ورئيس أساقفة قيصرية ومطران بيت لحم والمُرسلين العاملين في جزيرة قبرص، يقضي بالعمل على إعادة المنفصلين الى الطاعة لميطرابوليط اللاتين في العاصمة القبرصية “نيقوسيا” وإبلاغهم بأنَّ التأديبات الكنسية القانونية ستطالهم في حالة الرفض إن تطلَّب الأمر. وبذل أعضاء الإكليروس المهتمون بالأمر ذوو الميل الى الإتحاد الإيماني بكنيسة روما جهداً كبيراً لإنجاح المحاولة إلا أنهم اصطدموا بمقاومةٍ عنيفة من قبل الكلدان النساطرة والروم المونوفيزيين، مِمّا أدَّى الى حُرمانهم من الموارد المخصصة لمهماتهم الكنسية. فارتبكت عليهم الأمور فترة من الزمَن، إلا أن الكلدان النساطرة في قبرص واصلوا مسيرتهم اعتيادياً حتى قيام البابا يوحنا الثاني والعشرين في 1/10/1326 بالكتابة الى بطريرك اورشليم مُعطياً إياه الأمر بإزالة الهرطقتين النسطورية والمونوفيزية اليعقوبية من الجزيرة القبرصية وبالوسائل المُناسبة ولكن دون أن يُشير إلى هذه الوسائل. ويبدو أن إحدى تلك الوسائل كانت بمبادرةٍ من ايليا مطران نيقوسيا الذي استطاع عام 1340م أن يجمع كُلَّ كبار رجال الإكليروس اللاتيني في قبرص ومكَّنهم من الإلتقاء برؤساء الكنائس المختلفة وحشدٍ من علمائها، ثمَّ قام بنشر إقراره بالإيمان.

في تقويم قديم للكنيسة الكلدانية النسطورية عثرعليه الخوري بطرس عزيز “المطران لاحقاً” فقام بطبعه على عِلاّته من حيث ركاكته اللغوية والخلط والإلتباس الوارد فيه ونشره عام 1909م/بيروت/ص 9. ورد فيه ما يلي بالنص: <كان يوجد فيها “ويعني قبرص” ميطرابوليط اسمُه “طيمثاوس” جِنسُه من بلد الموصل، وكان يوجد تحت يده اسقفان، أحدُهما ايليا جِنسُه من بغداد، والآخرإسمُه ماردِنحا جِنسُه من بلد الرُّها. وكانت تحت يدهم سبع كنائس ما تُعرَف أساميها حتى نذكُرها، ومِن القسوس كان يوجد ثمانون قسيساً، ومن المؤمنين خمسة آلاف وثلاثماية بيت، وكانوا جميعهم نساطرة، وذلك في سنة1380م. ثمّ صار مجمع اقليمي في جزيرة قبرص بأمر البابا الروماني بنديكتوس الثاني عشر في سنة 1340م، وكان ذلك على يد مار طيمثاوس ميطرابوليط تلك الجزيرة ومار ايليا اسقف تلك الجزيرة ومار دنحا رفيقه، وحضر فيه أيضاً رؤساء اليونان والروم والموارنة والأرمن واللاتين والنساطرة واليعاقبة، ثمَّ رفضوا شقاق النسطورية، واعترفوا برئاسة البابا الروماني كونه نائب المسيح على الأرض، وأقرّوا بايمان الكنيسة الرومانية، والنساطرة الموجودون في تلك الأماكن جزء منهم انضمَّ الى طقس اللاتين، والجزء الثاني انضموا الى طقس الموارنة، وتلاشت النسطرة من تلك البلاد> ولإزالة الإلتباسات والتخبّطات في هذا النص قام الخوري بطرس عزيز بتصحيح وتوضيح الحقائق. فأضاف شرحاً في الحاشية 1 من الصفحة التاسعة ذاتها هذا نصُّه:

< رجع النساطرة الى الكثلكة في قبرص مرتين: المرة الأولى في المجمع الذي عقده ايليا رئيس أساقفة اللاتين في تلك الجزيرة سنة 1340م في عهد البابا بنديكتوس الثاني عشر، كما نعلم من أعمال ذلك المجمع. والمرة الثانية بعد ذلك العهد بنحو مائة سنة، أعني سنة1445م في عهد اوجينوس الرابع الحبر الروماني، بسعي اندراوس اسقف كولوس الذي أقنع طيمثاوس مطران النساطرة بجحد النسطورية. ففعل وأرسل صورة ايمانه الى البابا المذكور يقول فيها: <أنا طيمثاوس الطرسوسي مطران الكلدان في قبرص و…> وعندنا منشور اوجينوس لسنة 1445 حيث يذكر هذا الرجوع ويأمر ألاّ يتجاسر أحد من الآن فصاعداً أن يُسمّي الكلدان نساطرة (كتاب العلاقات/ شموئيل جميل/ روما 1902 ص 8-12) ويذكر المؤرخ السمعاني في (المكتبة الشرقية 3،2، ص 434)<لما تغلَّب الأتراك على اللاتين في قبرص، انقرض منها النساطرة واليعاقبة>.

 

79 – البطريرك ايليا الخامس 1497-1501م

يقول عنه المؤرخون في (كنيسة المشرق في سهل نينوى/ حبيب حنونا ص 183) والكاردينال تيسيران في(خلاصة تاريخية للكنيسة الكلدانية ص 147) والقس بطرس نصري في (ذخيرة الأذهان ج2 ص 87-88) كان ناطوراً للكُرسي في عهد سلفه شمعون الرابع الباصيدي فخلفه عملاً بقانون الوراثة، يقول الأنبا شموئيل جميل (كتاب العلاقات ص 589 – 600) وخلال رئاسته القصيرة جداً وبناءً الى التماس توما اسقف الملَّبار في الهند أرسله إليه، اختار رُهباناً ثلاثة من دير مار أحّا ودير مار يوحنا القريب من الجزيرة، ويقول البعض أنه اختارهم من دير اوجين ومهما يكن فهم: داود وجرجيس ومسعود. ورسم داود مطراناً للهند باسم يَهبَلاها وجرجيس اسقفاً باسم دِنحا ومسعود اسقفاً باسم يعقوب مُعاونَين له، وأرسلهم الى الهند عام 1503م، ولدى وصولهم تفاجأوا برؤيتهم ليوحنا مطران ملَّبار مُبدياً فرحه بقدومهم إذ لم يكن يعلمون بأنَّه لا زال على قيد الحياة. ووردت الى البطريرك رسالة باللغة الكلدانية مؤرخة عام 1504م من الأساقفة يُعلمونه فيها بأن عدد المسيحيين في الهند يُقدَّر بنحو 300 الف نسمة، وقد شَيَّدوا الكثير من الكنائس والأديُرة، ومن بين هذه الأديُرة دير كبير على اسم مارتوما يُطِلُّ على ساحل البحر، ويتوزع المسيحيون في سكناهم على ما يزيد عَن عشرين مدينة وبلدة. توفي البطريرك ايليا الخامس عام 1505م ودُفن في كنيسة مسكنتا بالموصل.

 

80– البطريرك شمعون الخامس دنحا 1502-1503م

تقول المصدر التالية (ذخيرة الأذهان ج2/بطرس نصري ص 88-89) و(كنيسة المشرق في سهل نينوى ص 183) و(اثر قديم في العراق/دير الربان هرمزد ج1 ص 35) بأن شمعون الرابع دِنحا كان ناطور كُرسي أخيه البطريرك ايليا الخامس، فتولّى السدة البطريركية خلفاً له بحسب قانون الوراثة، وبالرغم مِن طول رئاسته، ليس لدينا أخبار عن نشاطه وما تحقَّق على عهده. وقد اشتهر في عهده بعض الأدباء بينهم الراهب ابراهيم الكرخسلوخي الذي نظم شعراً وألَّف الكثير من القصائد. والقس صليبا إبن قرية المنصورية الذي نظم قصيدة في الشهيدة شموني وأولادها. تَمَّت وفاة شمعون الرابع دِنحا في الثامن من آب 1538م ودُفن في دير الربان هرمزد.

 

81 – البطريرك شمعون الخامس 1503-1538م

واستناداً الى المصادر التالية (مجلة بين النهرين لعام 1992م/العدد79/ص 70) و(خلاصة تاريخية للكنيسة الكلدانية/الكاردينال تيسيران/ترجمة القس سليمان الصائغ ص 147) و(ذخيرة الأذهان ج2 ص 87) و(كنيسة المشرق في سهل نينوى/حبيب حنونا ص 183) حيث تقول بأنَّ شمعون الخامس هو إبن عَمِّ شمعون الرابع وكان ناطوراً لكُرسيِّه فأسند له المنصب البطريركي وفقاً للقانون الوراثي عقب وفاة إبن عَمِّه البطريرك عام 1538م. وتُضيف هذه المصادر بأن الكنيسة الكلدانية النسطورية نَعِمَت في عهده بسلام مشوبٍ بالهدوء والأمان، وتوقفت الإضطرابات التي كانت سائدة في هوزستان وآثورستان أي في منطقة بابل. كان ايكليروس شمعون الخامس يتكوَّن من7أساقفة و500 كاهن و1500 شمَاس يقومون بإدارة وخدمة الكنائس التي يرتادُها شعب مُكوِّن من ستة عشر الف بيت. تُوفي البطريرك شمعون الخامس عام 1551م ودُفن في دير الربان هرمزد.

 

82 – البطريرك شمعون السادس بَرماما 1538-1558م

يتحدَّث عنه المؤرخون: حبيب حنونا في (كنيسة المشرق في سهل نينوى ص 183) والكاردينال تيسيران في (خلاصة تاريخية للكنيسة الكلدانية ص 147) والقس بطرس نصري في (ذخيرة الأذهان ج2 ص 89-90) وكوركيس عوّاد في (أثر قديم في العراق/دير الربان هرمزد ص 36) بأنَّ شمعون السادس بَرماما كان ناطور الكُرسي على عهد عَمِّه البطريرك شمعون الخامس ويُدعى آنذاك ايشوعياب، وبعد وفاته اعتلى السُّدة البطريركية تلقائياً استناداً الى قانون الوراثة الذي سنَّه البطريرك الخامس من أبناء العائلة الأبوية شمعون الرابع الباصيدي. كان أقوى شبيه له بحرصه على استمرار الرئاسة الكنسية العليا حكراً على أبناء عائلته وعشيرته، فلم يُقدِم على رسم رئيسٍ للأساقفة مِن خارج أبناء العائلة لكي يضمن عدم إمكانية قيام أيِّ طرفٍ آخر مُناويء مِن رسم بطريرك، لأن رئيس الأساقفة وحده له هذه السُلطة والصلاحية، ولذلك حصر هذه الدرجة بفردٍ واحدٍ لا يتجاوز عمرُه الثمان سنوات. أما البطريرك عبديشوع الرابع مارون خَلَفُ البطريرك يوحنان سولاقا، فقد ذكر في إحدى قصائده، بأنَّ بَرماما رسم مطرانَين عُمر الواحد منهم 12 عاماً والثاني 15 عاماً، فلم يسع الأساقفة إلا التنديد بتصرفه اللاعقلاني المخالف للشرع الكنسي واستهجانه، وإذ لم يكترث بَرماما باستنكارالأساقفة، حينها تحرَّكوا لإيقافه عند حَدِّه.

 

وتَستطرد المصادرُ أعلاه مُنَدِّدةً بسوء تصرُّفاته المُنافية للشرع المسيحي، حيث أباح الطلاق وأعطى السماح بالزواج بأكثر من امرأةٍ واحدة. علاوةً على جريمته برشوة باشا العمادية (حسين بك الكُردي 1543-1574) بمبلغ كبير من المال قدره  10.000 دينار لقتل المثلث المراحم البطريرك يوحنان سولاقا الكاثوليكي (ذخيرة الأذهان ج2 ص 143). إنَّ الحدث الجسيم وأعني به انشطار الكنيسة الكلدانية النسطورية الى قسمَين وما تلا ذلك من تناحر وصراع مؤلم بين الطرفين سنترك الخوض بتداعياته المُرَّة وتفاصيله المؤثرة حتى تَطرُّقِنا الى تاريخ السلطنة العثمانية. ومن بين المؤلفين الذين ظهروا في عهده القصير، كان القس عطايا بَرآثيلي. كتب عشرين قصيدة حول حياة المسيح الرب الأرضية وحياة القديسين وعن سِرِّ التوبة.

والى جانب ما تقدَّم ذِكرُه في الأجزاء الثلاثة الأولى عن الإنشقاقات التي ناءَت امَّتُنا الكلدانية وكنيستُها تحت كلكلها، وبخاصةٍ في الجزء الثالث الذي أشرنا فيه الى انشطار كنيسة المشرق الكلدانية الى شطرين بفعل البِدعَتَين النسطورية والأوطاخية، أكبرهما نسطوري والأصغر مونوفيزي، فأدّى ذلك ليس الى تَصَدُّع في بنيان شعب الكنيسة القومي بل الى تهَدُّمِه وثمَّ إهماله وإعطاء كُلِّ فريق أهمية قصوى لمذهبه الى حَدِّ تحوُّل أخُوَّة الطرفَين الى العداوة المشوبة بالحِقد والكراهية دفعتهما الى التصادم ليس إعلامياً فحسب بل الى إقرانه بصراع دموي وايقاع تحريضي ببعضهما البعض لدى ملوك وحكّام البلاد بدءاً بالفرس الوثنيين فالعرب المُسلمين فالغزاة المغول الإيلخانيين وفروعهم الأخرى انتهاءً بالقساة العثمانيين.                                                                                                                                

وكانت الإرساليات الكاثوليكية ومنذ القرون الوسطى وبالتحديد منذ القرن الثالث عشر، قد شدَّت الرحال للقدوم الى بلادنا وبلدان الشرق الأخرى، بهدف تصحيح المسار الخاطيء لأبناء أمتنا وكنيستنا الذي تبنّاه أسلافنا عن طريق التوريط او الإقتناع وبالأحرى الفرض من قبل السلطة السياسية، مُحاولين إعادتنا الى مذهبنا الأصيل مذهب كنيسة روما حيث تواجد الكُرسي الرسولي لمار بطرس هامة الرُّسُل، والذي اعتمده آباؤنا وأجدادُنا منذ إنشاء كنيستهم في القرن الميلادي الأول، وتمَّ التأكيد عليه في مجمع ساليق الثاني المعروف بمجمع اسحق المنعقد عام 410م على عهد ملك الفرس الساسانيين  يزدجرد الأول.                                                                                                                          .

 ولكن انشطاراً ثانيا حدث في كنيستنا الكلدانية النسطورية في منتصف القرن السادس عشر على عهد البطريرك “شمعون السادس 1538-1558م” المُلقَّب “بَرماما” المتحَدِّر من السلالة العشائرية لآل أبونا المعروفة باحتكارها للمنصب البطريركي وحصره بأبناء العشيرة منذ عهد البطريرك ” شمعون الرابع الباصيدي 1437-1477م” الذي سَنَّ قانون توريث المنصب البطريركي وجعله حكراً بأبناء عشيرته الأبوية دون غيرها، منطلقاً من مغزى الإنتخابات العفوية التي لعبت الصدفة دورَها في اختيار الآباء المُنتَخِبين لأحد آلآباء المتحَدِّر من هذه العائلة للرئاسة الكنسية العليا، معتبراً ذلك دافعاً له لحصر الرئاسة في أبناء عائلته، ملغياً بذلك القانون الكنسي التقليدي الذي دأب أحبارُ الكنيسة من مطارنة وأساقفة على تطبيقه منذ القرن الرابع في اختيارهم لقائد روحي يجدون فيه مؤهلات القيادة ليرعى شؤون كنيستهم وشعبهم، وإن حدث أحيانا تدخُّل من السلطة العليا الحاكمة بتأثير داخلي أو خارجي لفرض مُرشَّح مُعيَّن خارج إرادة الآباء، فيرضخون لإنتخابه امتثالاً للأمر! ولكن في الغالب كان يجري انتخاب الجاثاليق أو البطريرك بحسب القانون الذي أصدره عدد من مجامع الكنيسة وأكَّدت عليه مجامع لاحقة، مُشدِّدة على أن يُراعى الإعتبار والأولوية للآباء الذين يتمتعون بروحانية مسيحانية حقيقية وتتوفَّر فيهم الكفاءة والمقدرة الإدارية للقيام بأعباء الرئاسة العليا للكنيسة، بصرف النظرعن أصلهم وفصلهم.

 

ففي الرسالة السادسة للجاثاليق العظيم مارآبا الكبير كما أشار إليها في تاريخه (الأب لابور ص 187) يُبيِّن مارآبا بوضوح تام كيفية تطبيق القوانين الخاصة بانتخاب الجاثاليق بعد وفاته، حيث يَستبعِد من هذا المنصب كُلَّ مِن رُشق بالحرم، ومَن كان مذنباً أومُحباً للمال بجشع، أنانياً مَيّالاً الى اللذة. أما عملية الإنتخاب فتتم كالتالي: بعد وفاة الجاثاليق يجتمع أساقفة الأبرشية الكبرى “أبرشية الجاثاليق” ويدعون مطارنة الأبرشيات الأربع الكبرى آنذاك أو على الأقل ثلاثة منهم على أن يُرافق كُلَّ مطران ثلاثة من أساقفته، ثم يبدأون المشاورات للإتفاق على واحدٍ من بينهم يتحلّى بصفاتٍ حميدة، يكون خالياً من الخبث والأنانية، ثابتاً على الإيمان الحق، دائم السهر عليه، غيوراً متقيِّداً بالقوانين، ويجب أن ينال غالبية أصوات الآباء الناخبين.

إن شمعون الباصيدي لم يُعط أية أهمية للقوانين الكنسية، ولا فَكَّر بما سيُسفرُعنه قانون توريث المنصب البطريركي من تبعيات خطيرة لهذا الإجراء التعسُّفي، ولم يعبأ باعتراضات آباء الكنيسة من المطارنة والأساقفة الذين توقعوا مُسبقاً ما سيُلحقه بالكنيسة من تداعيات سلبية إذ سيزيدها انحساراً وتخلُّفاً، وهو بالنسبة إليهم يُمثِّل ضربة قاصمة ومصادرة لحقوقهم الشرعية. وقد تحقَّقت مخاوف الآباء، باحتلال أفرادِ عديمي الإستحقاق والأهلية للمنصب البطريركي وهما العنصران الواجب توفُّرُهما في شخص القائد العام للكنيسة! وللأسف فقد تعَهَّدَ البطاركة خلفاء الباصيدي بتطبيق نهجه والتمسك بقانونه الوراثي، ومن أجل ضمان سريانه،أقدموا على خفض عدد الميطرابوليطين رؤساء الأساقفة في الكنيسة الكلدانية النسطورية بصورة تدريجية مدروسة.

وفي آخر المطاف ولدى تولّي المنصب البطريركي ايشوعياب “ناطور الكرسي أي ولي العهد” باسم البطريرك (شمعون السادس بَرماما) قام بمنح درجة رئيس الأساقفة لفردٍ واحدٍ من أبناء عائلتِه لا يتجاوز عُمرُه الثماني سنوات دون أحدٍ غيره، فبقيت الدرجة حكراً عليه لكي لا يُحاول أحدٌ آخرُ القيام برسم بطريركٍ من خارج أبناء هذه العائلة! عِلماً بأن رسامة البطريرك لا يمكن أن يُجريها إلا رئيس أساقفة! وسنعود الى تَبِعات هذا الإجراء الذي أدّى الى انشطار الكنيسة في منتصف القرن السادس عشر في حينه. كان البطريرك برماما أقوى شبيه لسلفه البطريرك الباصيدي بحرصه على استمرار الرئاسة الكنسية العليا حكراً على أبناء عائلته وعشيرته، فلم يُقدِم على رسم رئيسٍ للأساقفة مِن خارج أبناء العائلة لكي يضمن عدم إمكانية قيام أيِّ طرفٍ آخر مُناويء مِن رسم بطريرك، لأن رئيس الأساقفة وحده له هذه السُلطة والصلاحية، ولذلك حصر هذه الدرجة بفردٍ واحدٍ لا يتجاوز عمرُه الثمان سنوات. أما البطريرك عبديشوع الرابع مارون خَلَفُ البطريرك يوحنان سولاقا، فقد ذكر في إحدى قصائده، بأنَّ بَرماما رسم مطرانَين عُمر الواحد منهم 12 عاماً والثاني 15 عاماً، فلم يسع الأساقفة إلا التنديد بتصرفه اللاعقلاني المخالف للشرع الكنسي واستهجانه، وإذ لم يكترث بَرماما باستنكارالأساقفة، حينها تحرَّكوا لإيقافه عند حَدِّه.

كانت تصرفات البطريرك شمعون برماما استبدادية ومنافية للقوانين الكنسية، إذ لم يكن يأبه بمؤهلات آباء الكنيسة من الأساقفة ولا يحفل بآرائهم حول مصيرها. وإذ وصل السيلّ الزُّبى ولم يبقَ في صبر الأساقفة مَنزعٌ، فكَّرَ لفيف منهم مِمَّن يمتلكون ضمائر حية في البحث عن سبيل لإيقاف تدابير البطريرك المُجحفة بحقِّهم وحقِّ شعبهم المُستعبَد الواصل الى حالة الضنك من العيش. وقبل أن يتخذوا أيَّ إجراء عادوا الى القوانين الكنسية القديمة وثَبُتَ لديهم بأن القوانين التي مارسها بطاركة آل أبونا منذ عهد البطريرك شمعون الرابع الباصيدي الذي سنَّها غير شرعية وجائرة ولا سيما عندما مورست بتعسُّفٍ من قبل البطريرك شمعون السادس برماما. فقرَّروا الإمتناع عن تقديم الطاعة للبطريرك ومقاطعة عائلة آل أبونا الإستبدادية، والسعي الى إقامة بطريرك شرعي للكنيسة بموجب قانون الإنتخاب. والى الجزء الواحد والثلاثين قريباً.

 

الشماس د. كوركيس مردو

في 18 / 6 / 2015

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *