الإنشقاقات والنكبات التي عصفت بالأمة الكلدانية وكنيستها والمآسي التي حَلَّت بها عِبرَ الزمَن الجزء السابع والعشرون

 

 

البطريرك واولجايتو

إلتقـى البطريرك يَهبَلاها بالملك اولجايتو مرتَين، أبدى له فيهما إكراما واحتراماً ظاهريَين، أما فعـلياً فكان يميل الى مساعدة المُسلمين، وأرادوا يوماً ان يستولوا على الدير والكنيسة وأوقافهما في مدينة تبريز، ولولا تدخل الأمير” ايرنجين” خال الملك للحؤول دون ذلك، بمنعـِه للملك مِن السماح لهم بهذا التجاوز الإعتدائي الصارخ لكان الأمرُ قد انقضى. ومع ذلك كان لزاماً على البطريرك أن يـُسايرَ اولجايتو، فقصد مدينة”أشنو” في اذربيجان عام 1305 وأمضى الشتاء هناك، ورجع الى ديره ومِنه ذهب الى المُعسكر في “موغان ” ورافـق الملك الى تبريز، ثمَّ عاد الى الدير. وأراد البطريرك أن يُمضيَ شتاء عام 1306م في قلعة أربيل، فقصدها وقام ببناء مركز كبير فيها، ولكي يقضي الصيف في الدير غادر القلعة في شهرأيار. وشرع الملك بإعادة فرض الجـزية على المسيحييـن، ولم يَنجح البطريرك رغم محاولاتِه لثـنيِه عَـن قراره، ويظهر أنه كان بحاجةٍ الى المال لبناء مدينة السلطانية على حدود بحر قـزوين التي كان أخوه غازان يطمح الى بنائها.

يبدو ان البطريرك طاب له قضاء فصول الشتاء في قلعة أربيل، فراح يتردَّد إليها عاماً بعد عام، وعلم البطريرك بأن الملك لا زال في موغان وكان الوقت شهرأيار ، فذهب لزيارتِه، وكالمعتاد أبدى له الملكُ الإحترام . وفي أحد الأيام خرج الملك اولجايتو الى الصيد وأتى الى دير مراغا ، فاستقبله رئيسُ الدير والرهبان بحفاوةٍ بالغة، ولدى تجواله في الدير، دخل الى غرفة الرئيس وسأله عن المعتقـدات المسيحية، فكان الرئيسُ لـبِقاً في الجواب وأحسَنَ الملكُ جَوابَه وفرح به كثيراً، ودخلَ الى قـلاية البطريرك ولم يكن البطريرك متواجداً آنذاك، وسُرَّ بالرهبان وأغـدق عليهم بـعطايا سخية. وانتهز هذه المناسبة رئيسُ الدير وكلَمَه بشأن الجزية، فوعده الملك بإلغائها. وما إن سمع البطريرك في اليوم التالي حتى أسرع الى الدير ولكن الملكَ كان قـد غادر، فأبدى أسفـه لغيابه. ولكنه دون أن يدع الوقت يفوته أسرع يرافقه الأساقفة ورئيسُ الدير للحاق بالملك فالتقوه عند نَهر”جغاتو” وقابلوه في ذلك الموضع. سُرَّ الملكُ بهذا اللقاء وأكرم البطريرك وزوَّده بتوصيات وأوامر لـَه وللمسيحيين. ولم ينسى الملك أن يدعو البطريرك للمجيء الى تبريز ، فأكرمَه وأعفـى المسيحيين مِن الجزية، ونصحَه أن يُمضي الشتاءَ في الدير، أما هو فقد ذهب الى موغان ليُمضيَ الشتاء. وأمضى البطريرك شتاء وصيـف عام1309 م في الدير . وفيما كان مار يَهبَلاها في طريقه الى قلعة أربيل في تشرين الثاني 1309م داهـمَه مرض مفاجيء كادَ يقضي عليه، إلا أن رحمة الرب أنقذته، ودخل القلعة سالماً.

محنة البطريرك الكُبرى

في عهد كلِّ ملكٍ مِن الملوك الإيلخانيـن وبخاصةٍ الذين يقعون مِنهم في شرك الإسلام، يظهر مُـسلـمٌ مُتنفذ حاقد على المسيحييـن، يقوم بأعمال لا يقبل بها الإسلام الصحيح! فهو سطحيّ الفهم بحقيقة الإسلام الذي يجنح للسماح والسلم أكثر من العدوان والعنف. ففي بدايات عهد الملك المغولي غازان ظهر الأميرُ المَنغـولي”نوروز” الشيعي المُتزمِّت أذاق المسيحيين الأَمَرَين، وفي عهـد أخيه الملك اولجايتو ظهر مُسلمان وقد ملأَ قيحُ الحقد والكُره صَدرَيهما على المسيحيين هما “ناصر الدين و طوغائين ” اللذان عَمِلا على إعـادة الأحقاد والضغائن بين المُسلمين والمسيحيين في أربيل بهدف قيام المسلمين بإبادة المسيحيين والإستيلاء على أموالهم ومُمتلكاتهم، وكان ناصرُالدين المُحَـرِّضَ الأكبر بإذكائه نارَ الحِقد والكراهية والإنتقام في قلوب المسلمين داعياً إياهم للإستعـداد للقتال وجالباً الأسلحة الى البرج الساكن فـيه والواقع عند مدخل القلعـة، ومِن ناحيةٍ اخرى لم يكن ناصرُالدين ليهدأ له بالٌ بمناسبةٍ وبدون مناسبة إذا لم يقُم بإيغار صدر الملك سوءاً على سكان القلعة المسيحيين مُتهِـماً إياهم بالعصيان عليه وجعل الملك أن ينظر إليهم كعُـصاة. كُلُّ هذا كان يجري بغفلةٍ عن عِلم المسيحيين ولذلك لم يتداركوا فضحَ الفِتنة قبل تفاقـُمِها بالذهاب الى المعسكـر وشرح موقفهم المُسالم للملك، فكان صدورُ قـرار الملك باحتلال القلعة مُفاجئاً للبطـريرك الذي كان ذاته موجوداً في القلعة ولم يُصدِّق وقوع مثل هذا الأمر حتى احتمالاً.

لقد سبق السيفُ العذلَ، حيث صعـد الى القلعة بعضُ الأمراء يوم الأربعاء التاسع مِن آذار لعام 1310م، وطلبوا مِن البطريرك النزولَ معهم فأخذوه الى دير مارميخائيـل ترعيل، وتحَدَّثَ إلى البطريرك الأمير”سوتي” الذي كان يكُنُّ حُباً كبيراً له قائلاً: بأن الأمر يقضي بوجوب نـزول الجـبَليين المسيحيين القياجيين مِن القلعة وبقاء الآخرين فيها. وبعد التداول في الأمر، تقـَرَّر أن يـَدعـوهم البطريرك للنزول ، فأرسل البطريرك عبديشوع اسقفَ حنيثا وأرسل الأميرُ سوتي الأميرَ ساطي بك ، لكي يتفاوضا مع القياجيين للنزول فلم يُذعنوا، فأرسل  البطريرك ثانية ًوفداً مؤلفاً مِن مطرانَين ورئيس دير مار ميخائيل ترعيل وبعض الرهبان، وتفاوضوا معهم إلا أنَّ النتيجة كانت الرفض أيضاً، فدارت معركة بين المجرم ناصرالدين وأنصاره المتمركزين عند البرج وبين القياجيين المسيحيين، أسفـرت عن قتل عددٍ مِن الطرفين. عندها أسرع الأميرُ سوتي وأمر جيشه بالإحاطة بالقلعة، وتمَّ الحجز على البطريرك والذين معه. وغدَت أربيل ساحة قتال ، وطال السيفُ كُلَّ مسيحي وُجدَ بالمدينة، وتـَعَـرَّضَت الكنائسُ الأربع للتدمير، وهَمَّ المسلمون باقتحام القلعة ، فأرسل البطريرك رسالة ً على عجل الى ميطرابوليطـ  أربيل الملتجيء في قرية بيث صيادي طالباً مِنه الإسراع في إبلاغ المعسكر بخطورة الوضع، وقطع المسافة في أربعة أيام وأعلمَ المعسكر بكُلِّ ما يَجري فأرسِلـَت رسالة تنديد شديدة الى الأمير سوتي، جعلته ينقلب على البطريرك فأساء معاملته، ولم يَمنع المسلمين مِن سلبِ كُلِّ ما لديه وقتل ِ مَن معه. وفي هذه الأثناء أصدر الملكُ أمراً بوجوب عقد الصلح بين المتخاصمين ، فاستُقدِمَ البطريرك وطـُلِبَ مِنه وبلهجةٍ قاسية أن يأمرَ سكان القلعة بالنزول . كانت نوايا المسلمين غير سليمة حيث هجموا على النازلين مِن القلعة وقتلوهم جميعاً، وأصعدوا البطريرك الى القلعة بطريقةٍ احتيالية، فنهبوا كُلَّ ما وجدوه في القلاية البطريركية. ولإضطرار سوتي على مغادرة الموضع، لم يبقَ فيه غير الأكراد واهالي المدينة.

 

وفي اليـوم التالي تجَدَّد القتال وضُربَ الحصار حَول القلعة ، والبطريرك وثلاثة أساقفة وعدد مِن الرجال في داخلها يعانون مِن ضرورات العيش والبقاء، الجوع والعطش وقضاء الحاجة. والمسلمون لا يفتأون مُواصلة أيغار صـدر الملك على البطريرك مُتهٍمينه بالوقوف الى مَن سمّوهم بالمتمردين ظلماً وافـتراءً وما زالوا به حتى أصـدر أمراً بتشديد الحصار على القلعة وشَنِّ الحرب عليها، ومِن بيث صيادي كان يوسفُ ميطرابوليطـ أربيل يُراقب هذا المشهد المأساوي، ولم يبـقَ لديه في قـوس صبـره مَنزعً، فأسرع بالذهاب الى المعسكر ثانية ً مصطحـباً معه تلميـذين مِن تلامـذة البطريركية، فـتركوا بيث صيادي في السادس مِن أيار لعام 1310م وراحوا يـَقـطعـون الجبال والوديان بسير ٍحَثيث، فوصلوا همدان بعشرة أيام ولكنَّ الملك كان قد غادرها الى السلطانية، فتابعـوا المسير إليها، وما إن تحَقـَّق الميطرابوليطـ مِن أن الأمر قـد صَـدَرَ بالإبادة، حتى بذل أقصى مساعيه لـدى الأمراء مؤكداً لهم براءة البطريرك مِن التهم المسندة إليه كذباً، فتوَفـَّرت القناعة لـديهم بكلامِه ، فأبلغوا الملكَ بذلك ، فأناطـَ الملكُ الأمرَ بأمير الامراء ” جوبان ” وهذا بدوره تحَقـقَ شخصياً مِن كلام الميطرابوليطـ وصَدَّقه، فبادر الى إلغاء الأوامر السابقة، إلا أن المسلمين كانوا للميطرابوليطـ بالمرصاد وتمكنوا مِن خَطـفه ليأخذوه الى أربيل، وما إن أحَسَّ الأمير جوبان بذلك حتى استـَرَدَّه مِنهم وأدخَله الى الملك، فروى للملك الأحداث بأدقِّ تفاصيلها. فأمر الملكُ بإبلاغ امراء أربيل كتابياً ليقوموا بإنزال البطريرك بإكرام أولاً ثمَّ مسيحيي القلعة، وقبَيل وصول هذا الأمر، سبق المُجـرمُ والمُتآمر طوغائين وأبلغ البطريرك بأمر النزول. وفي 26 حزيران وكان يوم الجمعة نَزل البطريرك وبمَعِـيـتِه الأساقفة والكهنة الذين كانوا معه في القلعة. ثمَّ عاد طوغائين وأمر البطريرك بالصعود الى القلعة ثانية ً لكي يأمر سكانها بالنزول. إنصاع البطريرك للأمر، ولبّى المسيحيون طلبه فنزلوا صباح السبت، وكان عددُهم 150 رَجلاً ما عدا النساء والأطفال، ولم يكن لديهم سلاح لدى خروجهم مِن القلعة، وكان المسلمون يتربصون خروجَهم ، فانقـضُّوا عليهم ، قـّتلوا الرجال وسبوا النساء والأطـفال. وخرج البطريرك رغم محاولة المسيحيين منعـه، إلا أنه تسلـَّقَ السور هو والأساقفـة الثلاثة وبعض الكهنة والرهبان، وكان المجرمُ الخائن طوغائين باستقباله وهو يـضحـك، وأخذه الى خيمَتِه باحترام، إلا أن البطريرك وَجَّهَ إليه توبيخاً مريراً ووصـمَه بالخيانة والغدر.

 

ولم تُشفي غليلَ المُسلمين هذه المجزرة ُالبشعة التي ارتكـبوها بحقِّ المسيحيين، فعقدوا العـزمَ على قتل البطريرك، لكنَّ الميطرابوليطـ كان قلقاً جداً بصدد هذا الأمر، فأبلغ الأميرَ ” كيجك ” تخـوَّفه مُلتمساً مِنه أن يرسلَ شخصاً مِن قبله الى أربيل ليوقفَ شرَّ المتآمر طوغائين. لكنَّ مبعوث كيجك وصل مساء السبت وكانت المجزرة قد نفِّذت في الصباح. ثم وصل موفدُ أمير الأمراء جوبان حاملاً الأمرَ الملكي الذي حَرَّره جوبان بنفسه، فألقـى السلام على البطريرك وطوغائين، وأبرز لهما الأمرَ الملكي بشأن البطريرك، فارتعَـبَ المُجـرمان طوغائين وناصر الدين وامتقـعَ لونُهما وأخذ مِنهما الخوف وبـخاصةٍ كون الموفد أبصر البطريرك. وقاما بتوديع الموفد لـدى غـروب الشمس وسارا معه مسافة ميل خارج المدينة قاصداً قـرية عمكاوا ( عينكاوا الحالية ) . وكان وصولُ الميطرابوليطـ والموفـد معه صباح الأحـد 27 حزيران أي بعد يوم مِن حدوث المجزرة ، فشعـرا بألم ٍ كبير لدى معاينتهما لتلك المآسي الشنيعة، لكنَّ ما أدخل الى قلبيهما العـزاء هـو سلامة البطريرك والأساقفة والكهنة الذين كانوا يـُلازمونه في هذه المحنة الشديدة. فقـصدا الى البطريرك ورويا له ما إتخذه أميرُ الأمراء مِن إجرآتٍ رادعة وإن جاءَت متأخرة، فـفرح البطريرك بهـما وخَصَّهـما والأمير الكبير ببركتِه.

ومنذ الصباح التالي ذهـب الموفدُ الأميري الى طوغائين، وبالرغـم مِن مُمانعة طوغائين لصعـوده الى القلعة ، صَمَم هو على الصعود ولكنَّ طوغائين لم يسمح له بإصعاد الطعام أو الشراب لسكان القلعة. ولدى نـُزوله في المساء أخذ مَعـه ثلاثة رجال مِن القلعة، فكان المسلمون يراقبونه، وتمكَّنوا مِن اختطاف واحدٍ مِن الرجال الثلاثة وقتلوه وأسروا الإثنَين الآخرَين . وذهب الموفد الى طوغائين وسلمَه مفاتيح القـلعة. وازدادت الأمور تأزُّماً وتملَّك الموفد إرتباكٌ شديد الى الحد الذي جعله لا يدري ماذا يفعل، فعـدد المُحاصِـرين كبير وسكّان القلعة سيضنيهم الجوع لعدم وجود ما يأكلون، وإن هو أنزلهم يخشى أن يقوم المسلمون بخطفهم وقتلهم . وبعد تفكير بالأمر رأى أن ينزل أولاً النساء والأطفال، ثمَّ ينزل الرجال في الليل . وكان بين سكان القلعة خونة أبلغـوا ناصر الدين بالمخطـَّطـ، وأحدث ذلك خلافاً بين صفوف سكان القلعة. ونزل قسمٌ مِنهم بأمان وذهبوا الى عمكاوا، ولكنَّ المسلميـن لاحقوهم بعد يومَين واختطـفوهم وقتلوهم . فأحدث ذلك رَدَّ فعل مرير في نفس الموفد ونزل مِن القلعة يائساً مِن إنقاذ الباقين، فتركَهم مُعَـرَّضين لمصير مجهول، فالكثير مِنهم قضـوا جوعاً وعطـشاً، ودفع اليأسُ بالآخرين الى رمي أنـفـسهم مِن على السور فكانت سيوف المُحاصِرين المسلمين تمَزقهم أشرَّ تَمزيق. وأخيراً صَعـدَ المسلمون في الأول مِن تموز 1310م بقيادة طوغـائين وناصرالدين الى القلعة ، وأعـملوا السيفَ في رقاب المسيحيين دون رحمة ناهبين كُلَّ شيء، وأنهـوا بـذلك الوجود المسيحي . فكانت تلك مأساة ً تشيب لها الولدان .

 

وفاة البطريرك

ذهب البطريرك والأساقفة ورجال الأمير كيجك الذين أرسلهم لينقذوه الى قرية بيث صيادي، ومكثوا فيها بضعة أيام تمَّ فيها جَمع مبلغ مِن المال دفعـوه لموفـَد الأمير جوبان ولرجال كيجك المائة والأكراد الذين رافقوهم . وفي الثامن مِن تموز توَجَّهوا الى المُعـسكر ، وحَلَّ البطريرك ضيفاً على زوجة الأمير كيجك، فلقيَ مِنها احتراماً كبيراً، وأوعزت الى بعض الرجال ليرافقوه الى المُعـسكر. وكان لقاؤه الأول مع أمير الأمراء جوبان فأدى له واجب الإحترام، وأكرمَه الملكُ أيضاً لدى دخولِه إليه، ولكنَّ الملكَ عـزف عن الحديث مَعَه، فخرجَ البطريرك مَهموماً لعدم اكتراث أيٍّ مِنهم بالأحداث المأساوية البشعـة التي جرت في أربيل. وبعد مرور شهـر عاد البطريركُ الى ديره القريب مِن مراغا وقد عَـزم على عـَدم الذهاب الى المعَسكر بعد ما جرى وهو يُرَدِّد < لـقـد سَئمتُ مِن خدمة المَغـول > . ومكث البطريرك في الدير طوال شتاء عام 1311م . ولما عَـلِمَ بقدوم الأمير ” ايرناغين ” الى تبريز، قصَـدَ إليها وكان الوقت صيفاً والتقـى الأمير، فبالَغ الأميرُ بإكرامِه وأجزلَ له هو وزوجته كريمة الملك تاكودار ــ أحمد بن الملك هولاكو العـطايا بسخاء، ونفحَ الأميرُ وزوجته البطريركَ بمبلغ قدره (60 ألـف درهم) وزَوَّده الأميرُ بخيول للركوب، ووهبه قـرية كوقفٍ لكنيسة مار شليطا.

 

 أستقرَّ البطريرك في الدير طوال شتاء وصيف عام 1312م، وأخيراً لطفَ به الملك، فخَصَّصَ له مبلغاً سـنوياً للعيش قـدره “5 آلاف دينار” كما وهـَبه بعضَ القرى في مُحيط بغداد . وقـضى البطريرك مار يَهبَلاها الثالث بقية حياتِه في ديـره القريب مِن مراغا حتى وافاهُ الأجلُ ليلة الأحد المُوافق للخامس عشر مِن تشريـن الثاني لعام 1317م، ودُفـِنَ في نفس الدير. بـَلـَغ عدد المطارنة والأساقفـة الذين رسمهم في عَهد رئاستِه التي دامَت 36 عاماً 75 فـرداً.

 

وأخيراً إنتهت حياة البطريرك العـظيم مار يَهبَلاها الثالث وانتهَت معها قصَّتَه التي كانت بنظر المؤرخين صادقة ًوأصيلة، قال عنه تيسيران (خلاصة تاريخية . . . ص 90) < كان يَهبَلاها وديعاً عـَطوفاً، ولشديد رغـبَتِه في مُسالمة الغير، عقد مع مُمَثلي الكنائس الاخرى أحسن العلاقات. أطرى مَحامِدَه إبن العِبري مفريان اليعاقبة بقوله : <إنـَّه كان رَجلاً مطبوعاً على الخير وعلى محبَّة القريب (التريخ الكنسي ج3 ص 453) ويُقِرُّ إبنُ العِبري أيضاً بتعامُل مار يَهبَلاها معه ومع طائفتِه بعـَطـفٍ ومحبَّةٍ، وسار على هذا النهج حتى بعد وفاة المفـريان وهو في طريقه عام 1286م الى مراغا، بدليل تعـميمه أمراً الى مُختلف الكنائس بإقامة حِدادٍ عليه تخفيفاً لحزن طائفتِه . إنَّ هذا الإنعـطاف الطبيعي في رَجل ٍ مغـوليٍّ إستقى ثقافته في الصين، قد أظهـرَه مار يَهَبَلاها للمُرسَلين الغربيين اللاتين القادمين الى الشرق وإن لم يكُن ذلك يروق لأساقفتِه النساطرة، وهذا ما أدلى به المُرسَل الدومنيكي ريكولدو دي مونتيكروجي الذي قابل البطريرك في بغداد عام 1290م . ومع ذلك لم نلاحظـ  خلال سردنا لقصتِه أيَّ خلافٍ بينه وبين أساقفتِه، ما عدا قيام اسقفين بالإفتـراء عليه في باكورة عَهدِه. ولم نرَ في قصَّته دوراً جالباً للإنتباه قام به المطارنة أو الأساقفـة، وهو دليل واضح بأن البطريرك كان قد وضع لهم حَدّاً لا يسمَح لهم بتجاوزه. وكُلُّ ما كان يقوم به الأساقفة هو مُرافقتهم له لـدى اضطراره لمقابلة الملك أو أحد الأمراء، أو لدى استقبالِه الملكَ عند زيارتِه للمقرِّ البطريركي أو قيام بعضهم بالدفاع عَنه في محنتِه كما فـعـل يوسف ميطرابوليطـ أربيل في مجزرة قلعة أربيل.

يقول الكاردينال تيسيران (خـلاصة تاريخية… ص 101 – 102) <كان للبطريرك مار يَهبَلاها الثالث رغـبة في الإتحاد الإيماني مع روما، ولم يكن يتخلف عن انتهاز الفرص ليُرسل مع سفراء الإيلخان الى الغرب رسائله الى الحبر الأعـظـم، ويُخاطبُه بهذه العبارة < الذي إليه مِلء الثقة فيما يتعلق بالأسرار اللاهـوتية> ويدعو الى الله < أن ينشُرَ ظلَّ قداستِه على جَميع الخلائق وأن يجمعَ إليه كافة المُعَـمَّذين بغـزير نعـَمِه>  وفي رسالته الى البابا ” بنديكتوس الحادي عشر” المعـروفة فقط بترجَمَتها اللاتينية كما نشرَها رينالدي، ونسختها الأصلية موجودة في خزانة الأوراق الفاتيكانية، توضيح بأجلى بيان مع الظروف التي كُبت فيها، لصميمية العلاقات المُتداولة بيـن البطـريرك وبين المُرسَلين اللاتين والحَبر الروماني. وقد كُتِبت يوم الإثنين الذي يلي أحد العنصرة 18 أيار 1304م مِن مراغا، وكان يَهبَلاها قد عاد إليها بالأمس الأحد وقد استقبل فيه بعد القـداس جماعة الزائرين القادمين للسلام عليه، ومِن بينهم كان مُرسَل دومنيكي يظن أنه ” يعقوب آرلس – سور- تج Jacques d’Arles – Sur Tech ” رئيس الدير المحلي، وهو الذي أبلغ البطريرك انتخاب البابا الجديد الدومنيكي ” نيكولا بوكاسيني Boccassini” وكان هذا المُرسلُ الذي كان البطريرك يدعوه رَبان يعقوب، يرغبُ أن ينال مِن البطريرك صورة ايمانه ليحمِلها بشخصه الى الرئيس العام القديم للإخوة الواعظين، مع بيان مِنه عَن خدمات الإرساليات في الشرق، عسى أن ينال بذلك إنعاماتٍ اخـرى للمُرسلين. إلا أنَّ انعطاف البطريرك مار يَهبَلاها لم يـَستطع التأثير على استعداد الإكليروس النسطوري الذي استمَرَّ على مُقاومة المُرسَلين اللاتين في مُحاولاتهم لإستمالتِه. وفي الحقيقة كان التَزَمت النسطوري المستحكِم على أذهان أساقفة كنيسة المشرق الكلدانية أحد العَناصر الأساسية القوية في تدهور هذه الكنيسة، ونرى هذا التزمُّت لا زال على عُنفوانه في عقول الكنيسة الإنفصالية الإنعزالية النسطـورية منذ عام 1551م والتي تخبطَت في تغيير اسم كنيستِها حتى استقرَّت في العقد الأول مِن الألفية الثالثة على اسم (كنيسة المشرق الآشورية) الذي لا يمُتُّ الى كنيسة المشرق بأية صِلة وإنما هو انتحال وتزوير.

 

وعَـن سيرة مار يَهبَلاها نقتبس بتصَرُّف ما ورد في ( ذخيرة الأذهان ص 21 – 22 ) يحـُقُّ لنا القولُ وبدون ترَدُّد بأنه لم يأتِ بين جَثالقة (بطاركة) الكنيسة المشرقية الكلدانية مَن جاراه في الغيرة على سلامة شعبه وخيره المادي وبِنائه الروحي، وبذل الجهد الجَهيد في توطيد علائق المَحَبة والتوافق بين بني امَتِه والمملكة، وقال المؤرخ الكلداني عمرو الطيرهاني في إطرائه لشخص البطريرك ومناقبِه ومفاخره بعِـباراتَه هذا نصُّها < ونالَ يَهبَلاها الثالث مِن العِـزِّ والجاه والسُلطان ما لم ينلهُ أحدٌ مِن قبلِه حتى أنَّ ملوك المَغول والخائبة وأولادهم كانوا يكشفون رؤوسهم ويتبرَّكون قدّامَه. نفذ حُكمُه في جميع المَمالك بالشرق. وارتفع شأنُ المسيحيين في أيامِه الى عِـزٍّ عـظيم وجـاهٍ كبير، وفي أواخر حياتِه إنهبطوا الى وَضع ٍ ذليل رديءٍ ولا زال مُستمِرّاً الى هذا التاريخ >.

 

أما ما قيل عَن سبب انحطاطـ الكنيسة الكلدانية النسطورية بأنه كان النزاع بين أساقفتِها مِن جهة وفتورالألفـة بينهم وبين البطريرك مِن جهةٍ اخرى فهذا ليس صحيحاً، قد يكون له شيء مِن التأثير، ولكنَّ السبب الحقيقي كانت الخلافات السياسية التي برزت بين ملوك المَغول وبخاصةٍ القطيعة التي حَدثت بين الملك غازان والملك طوغون تيمور حَفيد قوبلاي خان، فمِن جرّاء هذا التأزُّم الخطير أصبح التواصلُ بين الكنيسة الأم وبين أتباعِها في الصين والمقاطعات الآسيوية الداخلية صعباً للغاية، أعاقَ المُرسَلين الكلدان النساطرة مِن الوصول الى تلك المناطق النائية والتي كانت آنذاك بحاجةٍ شديدة الى تنويرهم وشَدِّ أزرهم لتَثبيت الوجود المسيحي المُهلهل. وكان حظ الإكليروس في الصين أفضـل مِنه في المقاطعات الآسيوية الداخلية، حيث ظـَلَّ مُحتضَناً مِن قِبل المسؤولين الحكوميين وعلى رأسهم الإمبراطور ذاتُه الذي كان يولي اهتماماً بالطقوس الكنسية النسطورية وبضرورة مُمارستِها. بيد أنَّ استمرار الإضطرابات في البلاد تحوَّلت الى ثوراتٍ مُنتظـمة في أغلبية المُقاطعات حتى تمخضَت عَـن ولادة سلالةٍ اخرى عُرفت بسلالة “مينغ” استطاعت عام 1369م تقويضَ كُلِّ ما كان قد اعتمَدَه المَغولُ مِن النُّظم في فرض سيطرتِها، وكان لهذا التبدُّل الجذري في نظام الحُكم تأثير سلبي على التلاشي التدريجي للديانة المسيحية، حيث تراجعت أمام الديانات المحلية الوثنية وانتهت الى أثر بعد عَين في نهاية القرن الرابع عشر.

 

أما في المناطـق الآسيوية الداخلية فقد اختفت مِنها الجماعاتُ المسيحية بسبب مرض الطاعون الذي ضرب مَنطقتَي بيشيبيك وطقماق عام 1338 و1339 بالإضافة الى أنواع الإضطهادات التي تعرَّضت لها وكان آخرها الإضطهاد الـوحشي الذي نفذه القائد الإسلامي المتزَمِّت تيمورلنك حيث قضى على كافة الفِرَق المسيحية. وفي هذه الفترة تعـَرَّضَ عددٌ كبيرٌ مِن مسيحيي بلاد فارس وما بين النهرين الى القتل نتيجة الإضطرابات والفوضى التي رافقت العهد الجلائري، فراح ضحيتها الألوف المؤلفة مِن المسيحيين الكلدان النساطرة والطوائف الصغيرة الأخرى. والى الجزء الثامن والعشرين قريباً

 

الشماس د. كوركيس مردو

في 1 / 6 / 2015

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *