الإنشقاقات والنكبات التي عصفت بالأمة الكلدانية وكنيستها والمآسي التي حَلَّت بها عِبرَ الزمَن الجزء التاسع عشر  

أحوال الكنيسة الكلدانية النسطورية في القرن الحادي عشر

 

54 – البطريرك يوحنا “يوآنيس”الخامس بن عيسى 1000 – 1011م

يقول المجدليان (صليبا ص 95 ــ  ماري ص 110 وبطرس نصري/ذخيرة الأذهان ص 45) كان مسقط رأسه كرخ جدان. وإذ كان لا زال طفلاً مات والداه، فتولّى تربيته خالُ امِّه. وعندما كبُرَ مارسَ بيعَ البقول في بلدته كرخ جدان، وجلبَ النفط  مِن المعدن على بهيمةٍ اشتراها.  وخطب إبنة َ إحدى العوائل التي تعرَّفَ عليها، إلا أنَّه عَدِلَ عن الزواج، ودخل الى ديرالكُرسي في كُشكُر”واسط” وبعد أن أمضى وقتاً في الرهبنة، رَسمَه البطريرك ماري بن طوبي اسقفاً للسِّن “شِنّا” ولم تمضِ فترة حتى رّقَّاه الى كُرسي مطرانية فارس. وفي (المجدل ص 595) يذـُمُّه صليبا بقوله عنه <كان سيِّ الخُلق، عجولاً، مُحبّاً للدراهم>. وتوَصَّلَ الى الكرسي البطريركي عن طريق غير شرعي، إذ قبل التحاقه بكُرسي مطرانية فارس في جنديسابور، علم بوفاة البطريرك ماري، فتوجَّهَ فوراً الى شيراز، وقابل الأميرَ بهاءالدولة وقدَّمَ له ما أرضاه، فأمر بتعيينه بطريركاً. وما إن وصل بغداد حتى رُسم في 26/ 10/ 1001م رغم أنف الأساقفة والإكليروس والمؤمنين. وقيل بأن مطران أبرشية الموصل تعمَّدَ أن يصل الى بغداد بعد انتهاء الرسامة، فتعرَّضَ لعقاب البطريرك الجديد، فارضاً عليه لبس المسوح والركوع فوق الرماد زمناً عند باب القلاية البطريركية، وألزمه بدفع غرامةٍ قدرها مائة دينار. أما في دار الخلافة فقد تَمَّ استقبالُ البطريرك بحفاوة ومُنح المرسوم التقليدي.

وكانت المنافسة على النفوذ بين السنة والشيعة متأصِّلة ًومتواصلة في الدولة العباسية، والخلاف بينهما مُحتدماً دوماً، وقد تفاقم في هذه الفترة. ويلقى الشيعة الدعم مِن البُوَيهييين، ويقف الأتراك خلف السنة، وقد تشجَّعَ السنة للمواجهة إثر الإنتصار الذي حقَقه في الهند السلطان التركي سوبكتكين. وكانت ممتلكات المسيحيين واقعة نصب أعيُن بعض الطامعين مِن المسلمين، يتربَّصون أيَّة فرصةٍ مؤاتية لنهبها وتدميرها. وكانت التهمة التي أُلصقت بأبي منصور الدراجي المسيحي  بممارسته الفحشاء مع امرأةِ خبّاز مسلم، والمسلم نفسه وُجد مقتولاً، بمثابة فرصةٍ سانحة إتخذوا مِنها ذريعة ً للهجوم على كنيسة مار توما اليعقوبية المونوفيزية، فنهبوها ودَمَّروا أثاثها. ولم يتردَّد أحدُ الغوغائيين بإضرام النار فيها، فانهار سقفها وسقط على الناس المتواجدين داخلها، فكان عدد القتلى مِن جرّاء ذلك بحدود خمسين شخصاً، جُلَّهم مِن المسلمين. وبعد انجلاء الموقف وُجد انجيل بين الأنقاض لم تلتهمه النار، فعُزيَ الأمرُالى اعجوبة!. وفي خضمِّ هذه الفوضى جرى نهبٌ وسلبٌ لكنائس نسطورية ويعقوبية اخرى، حتى تصدَّت السلطة الحاكمة لردع هؤلاء الثائرين والحد مِن أعمالهم الإجرامية.

 

يقول بطرس نصري في (ذخيرة الأهان ج1 ص 450 – 451) ونَنقل عَنه بتصرُّف وباختصار: كُلما كانت المنافسة قائمة بين الشيعة والسنة، كانت كذلك بين النساطرة واليعاقبة، فبين كُلِّ فترةٍ واخرى كانت المُشاحنات تُـثارُ بين الجانبين. وقد توتَّرت علاقاتُهما بعد ركود طويل عام 1004م عند قدوم مطران تكريت اليعقوبي”أغناطيوس برقيقي” الى بغداد، لكي يُشرف على إعادة بناء الكنيسة التي التهمها الحريق. وقيل بأنه لقي استقبالاً حافلاً تقديراً لعمِّه “توما بزازا” الذي كان يشغـل منصب سكرتير كبير لدى حكام الدولة الكبار، كما تلقى هدايا كـثيرة. أغاظـ هذا الأمر البطريرك النسطوري يوحنا الخامس وحظر على رعاياه النساطرة اللقاء بالمطران اليعقوبي، وعاد الى تطبيق المرسوم الذي يُخوِّل الإقامة الدائمة في بغداد للبطريرك النسطوري كرئيس مسيحي وحده دون رؤساء الطوائف الاخرى الذين يُسمح لهم بالمجيء الى بغداد بين فترةٍ واخرى لقضاء مُهمةٍ آنية. وبعد هذه الواقعة، يُقال بأن البطريرك يوحنا حاول الإستيلاء على كنيسةٍ يعقوبية في صوب الكرخ، إلا أنَّه لم يُوَفَّق .

إن الشعب النسطوري ضاق ذرعاً بتصرُّف بطريركه يوحنا المُتَّسم بالظلم والطغيان بحيث لـم يَعُد باستطاعـته السكوت على تصرفاته غير اللائقـة بمنصبه، فقد تمادى جداً بقبول الرشوة على الرسامات وبشكل علني الى جانب تَخريبه للبيَع وإغلاقه لمعاهد العِلم”الإسكولات” ومَنعه لأعمال الإحسان وغير ذلك مِن الأعـمال ، فلم يَرَ رعاياه بدّاً مِن الثورة عليه. عـندها اضطرَّ لترك مقرِّه والهروب الى القـطاع الغربي، وبقي هنالك حتى تعهَّد َ بتغيير سياسته غير اللائقة بمكانته، وبإعادة الامور الى مسارها الصحيح! وكان رَدُّ فعل الكثير مِن أبناء رعيته النساطرة على تصرُّفه التعسفي، التحوُّلَ مِن النسطرة الى المذاهب المسيحية الاخرى ولا سيما الى الملكيين “الكاثوليك” كما فعل الطبيبُ علي بن عيسى تلميذ إبن الطيِّب، وكان الطبيب علي بن عيسى أشهر أطباء العيون آنذاك، فقد انتقل الى طائفة الملكيين، وأخذ يُناصب البطريرك العداءَ جهراً. ويقول المجدليان (صليبا ص 96 وماري ص 113) بأن الأجلَ وافى البطريرك يوحنا الخامس في الثامن مِن كانون الثاني عام 1011م، ودُفن في بيعة اصبغ بـدارالروم. ولم تمضِ على موته إلا سنة واحدة، حتى لحقه الى اللحد بَهاءالـدولة حاميه عن عمر قصير هو إثنان وأربعون عاماً، وخلفه إبنُه “سلطان الدولة” الملقب بأبي شجاع .

 

يَقول المؤرخ عمرو (المجـدل ص 95) في عهد ماري بن طـوبي تَنصَّر أحدُ ملوك الأتراك مع عددٍ كبير مِن أتباعِه قدِّرَ بنحو مِئتَي ألف فرد، وكذلك يُشيرُ الـمؤرخ ماري في (المجـدل ص 112) الى تنصُّر ما سمّاهـا بالامة التَتَرية وعـلى رأسها الملك “اون خان” الذي عُرف بيوحنا القسيس، وقد شُرِّفَ بلَقب القس بعد تَنصُّره إكراماً لتَدَيُنه، وقد جرى هذا الحدث بجهـود مارعَبـديشوع مطران مرو الكلداني النسطوري، ولذلك اعتمَد هذا الملك المذهبَ النسطوري، واستطاع فـَتحَ الكثيرمِن البلدان وأخضعـها لسُلطانِه، واتَّخذ مِن مدينة سوس العيلامية قاعدة ً لمُلكِه، وقد خلفـَه أربعة ملوك تَبنَّوا الإسمَ ذاته وهو”يوحنا القسيس” وآخر هؤلاء الملوك قتله جَنكيزخان بعد أن استولى على مملكتِه. ويقول بطرس نـصري (ذخيرة الأذهان ج1 ص 451) بأن أحد هؤلاء الملوك قد راسلَ البابا اسكندر الثالث في أواسط القرن الثاني عشر.

 

55 – البطريرك يوحنا السادس بن نازوك 1012 ــ 1020م

تحدَّث عنه باقتضابٍ صليبا (المجدل ص 96 – 97) وبإسهابٍ ماري (المجدل ص 113 – 116) كان معَلثيَّ الأصل، مالَ الى الحياة الرهبانية، فدخل الى دير ايشوعياب في منطقة بانوهدرا، وبعد فترة انتُخبَ رئيساً على الدير ذاته. رأى فيه البطريرك ماري بن طوبي ما يؤهله للدرجة الاسقفية، فرسمه اسقفاً على الحيرة. وعندما توفيَ البطريرك يوحنا الخامس بـن عيسى، اجتمع أساقفة الكنيسة، وأجروا قرعة ً لإنتخاب بطريرك جديد فكانت مِن نصيبه، واختير بطريركا بطريقةٍ شرعية.  وقصد البطريرك المنتخب الى دار الخلافة وحصل على مرسوم العهد.  وتَمَّت رسامته في 19 / 11 / 1012م .

 

ونقتبس مما قاله ماري (المجدل ص 115) وكذلك ما أشار إليه بطرس نصري  (ذخيرة الأذهان ج1 453) ولم تمض ِ إلا مدة قصيرة على رسامة البطريرك الجديد يوحنا السادس، حتى اصطدمت بداية ُرئاسته بما عكَّرَ صفوّها، وجلبَ الحزنَ له ولشعبه المسيحي، حيث استغلَّ المسلمون وبغيظ ٍ مكبوت قيام المسيحيين بتشييع جثمان زوجة أحد الامناء المسيحيين، حيث نقلوا الجثمان مِن دارها الى دارالروم بموكبٍ كبير، تخلله ترتيلُ المزامير وحمل الصلبان والشموع. وما إن اقترب الموكبُ مِن مشهدِ ابي حنيفة، حتى كان المسلمون واقفين له بالمرصاد، فبادر أحدُهـم بالبصق على الجنازة، وكانت تلك إشارة لكي تنهالَ الجموع المُسلمة برمي الموكب بالحجارة وبسيل مِن الشتائم، ولم يكتفوا بذلك بل لاحقوا المسيحيين الى داخل دار الروم، وعملوا في الكنيسة والمقر البطريركي وحتى البيوت المسيحية نهباً وتخريباً، وألقوا باللائمة على المسيحيين باتهامهم أحدَ المسيحيين بقتل مسلم ٍ مِن بينهم، مِمّا زاد في غضبهم واندفاعهم في السلب والنهب… ولتهدئة المسلمين أعلن الخليفة العودة الى تطبيق “إجراءآت عمر” على المسيحيين وهي: ارتداء الغيار ومنعهـم مِن ركوب الخيل، وإجبارهم إعتاق العبيد والإماء المسلمين مِن دورهم. ويقول إبن العبري(التاريخ السرياني ص 206) بأنَّ البطريرك أُستُدعيَ الى البلاط، لإبلاغه بهذه الإجراءآت والتعهُّد بالإلتزام بها وبإعلانها مِن على المنبر في الكنائس.

 

وكان لسلطان الدولة البُوَيهي وزيرٌ يُدعى فخرالدولة عُدَّ الأبرز والأشرسَ في عِدائه للمسيحيين، مارس هو وأعونُه أشدَّ صنوف الضغط والإرهاب ضِدَّهم، استولى على أموال مواطني منطقتَي ديرقوني والنهروان. وواصل عمله الإجرامي هذا حتى نال عقابَه في شيراز بالإعدام في مطلع عام 1017م. وما بين عامّي 1015 – 1017م عَـمَّت بغداد اضطراباتٌ أثارتها الحركة السنية المُعادية للأقليات التي كانت تُعاني مِن جورها مُعاناة بالغة. وقد استفاد مِن عودتها المشؤومة بعض الإنتهازيينَ المتصيدين في المياه الآسنة.  ولغرض الإنتقام مِن المسيحيين إتَّهمهم بعضُ الحاقدين مِـن المُسلمين بأنهم وراء نشوب حريق خلف جامع الرصافة، إلا أنَّ الخليفة القادر لم يُصدِّق هذه الكذبة المُدبَّرة، فأمر بعدم ايذاء المسيحيين الأبرياء. وإذا كانت أحوال المسيحيين في بغداد ومناطق بلاد الرافدين الاخرى بهذا المستوى مِن السوء، فإنَّ أحوال مسيحيي مصر وسوريا كانت أسوأَ بكثير. إنَّ عدد الكنائس والأديُرة التي هُدمت بلغ 40 الفاً. وقد أُلزمَ المسيحيون بحمل صُلبان خشبية وزنُ كُلٍّ مِنها خمسة أرطال، وفرض على اليهود تعليق رأس عِجل كبير في رقابهم، وكانت هذه الأحكام المُجحفة سبباً لتخاذل الكثيرين مِنهم واعتناق الإسلام، وتُعتبر الوسيلة الثالثة بعد السيف والجزية والخراج لإضطرار الذميين للتحوُّل الى الإسلام. وعندما تسلَّمَ إبنُ سهلان منصبَ وزير البلاط إستقبله البطريرك بحفاوة وإكرام، واستهجن الوزيرُ ما كان يُعانيه المسيحيون مِن الحَيف والغبن والظلم .

قدوم أغناطيوس برقيقي مطران تكريت اليعقوبي الثاني الى بغداد عام 1007م، اختلف عن قدومه الأول عام 1004م مِن حيث الإستقبال، فقد احتُفي به بالأول بتقدير كبير إكراماً لعـمِّه أولا ولعلمه ثانياً كما ذكرنا. أما في القدوم الثاني فقد أعلنت جماعتُه اليعقوبية الثورة عليه بزعامة العالِم والفيلسوف بن زرعة، لأنَّ تصرُّفاته كانت قد مالت الى السوء كثيراً، حيث استولى على أموال كنائس تكريت وبغداد والقرى المونوفيزية. وللتخلُّص مِن الموقف المُحرج الذي وضع برقيقي نفسه فيه، أشهر إسلامَه وقطع زنّاره واختار له اسم “أبو مسلم” وتزوَّج، وبدأ يُناصب جماعتَه العداءَ السافر مُلصقاً بهم شتى الإفتراءات والتُهم. وعن طريق الصُدفة التقى يوماً البطريرك بهذا الجاحد في دار وجيهٍ مِن وجهاء المسيحيين، فاعتقد الجاحد”أبو مسلم” بأنَّ الواجب يقضي عليه بدعوة البطريرك الى الإسلام، فاستهجنَ الحاضرون مِن مسلمين ومسيحيين هذه الجسارة الخالية مِن الحياء، وأثارت لديهم الإستياء ولا سيما المُضيف صاحب الدار، حيث رافق البطريرك بحفاوةٍ وإكرام مشوبين بالإعتذار الى خارج الدار. ويقول ميخائيل اليعقوبي في    (تاريخه3 ص 134) بأنَّ الخليفة القادر استقبل  برقيقي الجاحد  بفتور ظاهر خالي مِن الإكرام. أما البطريرك اليعقوبي أفرام الأول برصوم فيقول عنه في (اللؤلؤ المنثور / الطبعة2 ص 453 – 454) <وفي النهاية اضطرَّ “أبو مسلم” للعيش في الذل والهوان، وانتهى الى الإستعطاء ولكنَّه ندم أخيراً على فعلته الشنعاء وعاد الى التوبة، وكتب “قصائد في التوبة” لا زالت باقية.

وافت المَنيَّة ُالبطريرك يوحنا السادس في 21/ 7/ 1020م بعد نحو ثمان سنوات مِن بطريركيته، تخللتها أصعب المصائب التي عانت مِنها الكنيسة الكلدنية النسطورية. وأكثر ما نغـَّص حياته هو حالة التخاذل لدى العديد مِن المسيحيين مِن جرّاء المصاعب والمِحَن التي تعرَّضوا لها.

 

56 – البطريرك ايشوعياب الرابع بن حزقيال 1020 – 1025م

يقول عنه المؤرخ ماري (المجدل ص 117 – 118) كان مِن بلدة ديرقوني، وبعد إكماله لتعليمه في مدرسة مارماري، رُسمَ كاهناً، وعُرف بحسن السيرة. ولم يلبث أن رسمه البطريرك عبديشـوع الأول اسقفاً على القصر والنهروان. وكما فعل يوحنا الخامس بن عيسى في توصُّله الى سُدة الرئاسة الأولى البطريركية عن طريق إرضاء بهاءالدولة بالمال، كـذلك فعل ايشوعياب الرابع بن حزقيال، إذ ما إن تُوفيَ البطريرك يوحنا السادس بن نازوك، حتى تحرَّك بسرعة قبل موعد الإنتخاب ورتَّب أمرَه مع أصحاب السلطة، وبخاصةٍ مع أبي غالب المُلقب بذي السعادتَين، نفحه بمبلغ كبير، فأصدر أمراً بأنَّ كُلَّ منافس لإيشوعياب على الرئاسة  سيكون مصيرُه الموت غرقاً. فلم يجرأ أحدٌ لترشيح ذاته. وبعد أشهر قليلة أي في نهاية عام 1020م رُسمَ ايشوعياب بطريركاً ولو أن عدداً مِن المطارنة والأساقفة عمد الى الهرب. وامتنعوا عن ذكر اسمه في كنائس أبرشياتهم. وأبرز مَن وقف ضِدَّه كان ايليا مطران نصيبين المعروف بابن السِّن “بر شِنّايا” الذي إتَّهمَه بالسيمونية أي شراء المنصب الكنسي بالمال “نسبة الى سيمون الساحر”. ويُضيف ماري  (المجدل ص 117) وكذلك يقول بطرس نصري(ذخيرة الأذهان ج1 ص 454) تميَّز َ عهدُه القصير<بما جرى مِن المخالفة والتحزُّب، ما يَقبُحُ ذِكرُه ولا يَحسُنُ شرحُه>  وتُوفيَ ايشوعياب في 14 / 5 / 1025م . وأُجريت مراسيمُ دفنه ليلاً، إذ كانت الأحوال مضطربة واللصوص يسرحون ويمرحون في بغداد يعيثون فيها فساداً ويُمارسون السلب والقتل، حتى أنهم أحرقوا بعضَ المناطق في الكرخ.

 

ويذكر بطرس حداد في (مجلة بين النهرين ص 145 تاريخ 5 / 12 / 1990م) واستمرَّ الإضطرابُ والفوضى بسبب الخلافات القائمة في البلاد، وطال النهبُ دارَالروم، ولم تهدأ الامورُ إلا قليلاً بعد وصول “جلال الدولة” نجل بهاءِ الدولة الى بغداد في 7 / 10 / 1027م، فمال الوضعُ الى الإستقرار نوعاً ما. وتشجَّع الأساقفة للإجتماع بعد ثـلاث سنـواتٍ مِن شغور الكرسي البطريركي، وأجروا رياضة ً روحية لمدة ثلاثة أيام، ثمَّ اتفقوا على إدراج ثلاثة أسماء، وجرى الإقتراع التقليدي، فكان اسم ايليا اسقف الطيرهان هو الذي خرج مِن إناء الإقتراع، فاصبـح المرشح لكرسي الرئاسة.

 

57 – البطريرك ايليا الأول 1028 – 1049م

يقول ماري (المجدل ص 118) بأنَّه كان مِن مواليد “كرخ جدان” أما علومُه فقد استقاها في مدرسة المدائن، وتخرَّج بدرجةٍ عالية مِن العلم والثقافة، ورُسم كاهناً. لقد مدح المؤرخون (ماري/ المجدل ص 118 – 119 ــ إبن العبري/ التاريخ الكنسي2 ص 286 – 288) سيرتَه الفاضلة وعِلمَه الغزيراللذين أهَّلاه ليُرسمَ اسقفاً لأبرشية الطيرهان، وبعد وفاة البطريرك ايشوعياب الرابع فازعن طريق القرعة بالترشيح للسدة البطريركية، فرُسم بطريركاً في 16/ 6/ 1028م. لم يُضفِ حضورُ جلال الدولة الى بغداد الهدوءَ على  ساحتها، فلم يزل الشغبُ والفوضى مسيطرين عليها، وأعمالُ النهب والسلب متواصلة ًوازدادت بعد وفاة الطبيب والكاتب والشاعر أبو سهل النيلي عام 1029م “قيل أنه إبن بلدة النيل الواقعة جنوبي بغداد بين الحلة والنعمانية” ويصف إبن العبري في (تاريخ مختصر الدول ص 315) الخليفة القادر بالله بقوله <كان حليماً كريماً دَيِّناً،  وكان يخرج مِن داره بغير زِيِّه الرسمي ويزور قبور الصالحين>. وافته المنيَّة في عام 1030م عن عمر ناهز السابعة والثمانين أمضى مِنها في الخلافة إحدى وأربعين سنة.

كان البطريرك ايليا الأول في شبابه وقبل أن يُقام اسقفاً ، قد وضع اسلوباً نحوياً شبيهاً بالإسلوب العربي ، وأراد إدخاله الى نحو اللغة الكلدانية ، ولكنَّه مُني بالفشل . لم تكن القرارات التي أصدرها الآباء البطاركة في مجامعهم منذ عهد البطريرك الكبير طيمثاوس قد أدرجَت في كتاب المجامع ، فقام مار ايليا الأول بإدراجها  . يقول صليبا في ( المجدل ص98 ) بأن ايليا تُوفي في 6 / 5 / 1049 م ودُفن في كنيسة السيدة بدار الروم وفي آخر عهده أصبح مُقعَداً حتى أنَّه رسم اسقفاً للرحبة وهو جالس في محفة ، ثمَّ صار ضريراً في الأخير .

 

كتب ايليا مقالاتٍ تناول فيها الحق المدني، الإرث،  وموانع الزواج.  ووضع بحسب قول المؤرخ صليبا مجموعة أحكام تضمنَّت إثنين وعشرين فصلاً في اصول الدين، ولا يُستبعَد أن تكون هي القضايا الكنسية التي ذكرها الصوباوي في (فهرسه/ ترجمة الأب يوسف حبي ص 226) كما نُسبت إليه رُتبتان كنسيتان إحداهما رُتبة تقديس المذبح والثانية رُتبة السجود في عيد حلول الروح القدس على الرسل “عيد العنصرة – الفنطيقسطي” فضلاً عن إضافته “ܢܨܠܐ ܫܠܡܐ ܥܡܢ نُصلـّي السلامَ معنا” الى كاروزوثا الرمش “المناداة”.

وكلما اضطربت الأمور في الدولة العباسية، كان فيها المسيحيون هم الضحية، حيث يُعاد فرضُ القوانين العمرية البالية، وقد سبق وقلنا بأنها فرضت في عهد الخليفة المُتوَكِّل في القرن التاسع، وها هي تُفرض في القرن الحادي عشر مع بداية عهد الخليفة القائم بأمرالله عام 1031م. ومع استمرار سيادة الفوضى  واشتداد الصراع بين المتخاصمين،  حَلَّت بالبلاد المجاعة ُ والأوبئة.  وجاء في  (تاريخ الرُهاوي المجهول/ الترجمة العربية ج2 ص 25) بأنَّ ديونيسيوس البطريرك المونوفيزي هرب مِن ” بلاد الهراطقة ويقصد بها بلاد الروم، وقصد الى بلاد المُسلمين، حيث حَلَّ في أول الأمر في دياربكر، ثمَّ اتَّخذ مِن دير الزعفران مقراً له، وهو ديرمارحْنانا القريب مِن ماردين. والى الجزء العشرين قريباً.

الشماسد. كوركيس مردو

في6/4/2015

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *