الإنشقاقات والنكبات التي عصفت بالأمة الكلدانية وكنيستها والمآسي التي حَلَّت بها عِبرَ الزمَن / الجزء الرابع عشر

أحوال الكنيسة الكلدانية النسطورية في القرن التاسع

 

39 – البطريرك ايشوع برنون 823 – 828م

يقول صليبا في (المجدل ص 66) وماري (المجدل ص 75) بأنَّ مسقط رأس ايشوع برنون كان قرية “بيث كَبّاري” التي تقع عند مصبِّ الخوسر بدجلة ما بين أطلال نينوى والموصل، تلقى العِلم وطيمثاوس الكبير في مدرسة باشوش بمنطقة المرج على يد مديرها الراهب إبراهين بن شنداد “برشندايا”، كما التحقا لدراسة الموسيقى لدى بابي الجبليتي  مؤسس المدارس الموسيقية آنـذاك. بعد ذلك نُسبَ للتفسير في مدرسة المدائن، وكان يعتني بماسويه الحفيد إبن يوحنا بن ماسويه استاذه. مال الى حياة الإعتكاف وترك بغداد قاصداً دير ايزلا الكبير بمنطقة نصيبين ومكث هناك فترة، ردَّ فيها على أفكار وتعاليم زميله طيمثاوس بشأن التجسُّد. أغاظت ردودُه الرهبان، فاضطرَّ بحسب قول ماري في الموضع المذكور أعلاه الى ترك دير ايزلا والمجيء الى ديرمارايليا بالقرب مِن الموصل، ودام مكوثه فيه ما يقرب مِن ثلاثين عاماً.

 

كان هنالك خلافٌ في الرؤية بشأن التجَسُّد بين طيمثاوس وايشوع برنون، وليس عِداءً أوحقداً يكُنُّه الأخيرُ للأول كما يدَّعي البعضُ مِن المؤلفين المُحدثين،  فطيمثاوس الكبيرُ كان مُتزمتاً بالنسبة للعقيدة التي تتبنّاها الكنيسة المشرقية الكلدانية النسطورية، ولا يقبل بالأفكار الإنفتاحية للعـلماء اللاهوتيين الآخرين،  وقد رشق بالحرم بعـضَ اولئك العـلماء، فيما رفع الحرمَ عنهم خلفُه ايشـوع برنون  (طالع الفصل العاشر عن طيمثاوس الكبير) وكما يُقال فإنَّ الإختلاف في الرأي لا يُفسدُ للودِّ قضية ، وهكذا فإنَّ مارطيمثاوس رشَّح ايشوع برنون لميطرابوليطية نصيبين ولكن العائق أمام هذا الترشيح كان رفضُه مِن قبل أهالي نصيبين. ولم ينسَ زميله ايشوع برنون، فقد أوصى قبل موته بانتخابه بطريركاً خلفاً له. ونُفذت وصيتُه بالفعل بتأثير الرجال المسيحيين المتنفذين في البلاط العباسي، وفي مقـدِّمتهم الطبيبان جبريل بن بختيشوع وصهره ميخائيل والأمينان يعقوب ووهب. وانتُخبَ ايشوع برنون بطريركاً عام 823م. وفي فترة شغور الكُرسي بين وفاة طـيمثاوس وانتخاب ايشوع برنون، أدار الشؤون الكنسية عبدا بن عون الجوهري العبادي الحيري، وكان وجيهاً كبيراً في أسفانير إحدى ضواحي قطيسفون .

وفور استوائه على الكُرسي البطريركي، أراد ايشوع برنون تغيير النهج التزَمُّتي الذي كان يعتمدُه سلفُه طيمثاوس مِن حيث الأفكار المُعتقدية، فثارت ثائرة الأساقفة الشديدي التعصُّب بالعقيدة المذهبية النسطـورية، وقرَّروا إسقاط إسمِه مِن سِفر الآباء. واشتدَّ الخلافُ بينه وبين الأساقفة الذين أجمعوا على عزله، حينها تدخَّلَ الأطباءُ المسيحيون لدى الطرفين، فتراجع البطريرك أمام إصرار الأساقفة وسوِّيَ الخلاف. لم يمتد عهدُه سوى نحو خمس سنوات حيث وافاه الأجل في الأول مِن نيسان لعام 828م، وجرى دفنُه في “دير كليليشوع” الذي كان قد جَدَّده مار طـيمثاوس.

 

لقد ألَّف ايشوع برنون بحسب ما ذكره الصوباوي في (فهرس المؤلفين / ترجمة د . يوسف حبي ص 48) كُتباً عديدة مِنها: كتاب اللاهوت، وشروح في الكتاب المقدس. وكتب ليتورجية وقانونية أما الكتب التي وضعها ضِدَّ طيمثاوس فقيل بأنه أوصى تلاميذه قبل وفاته بحرقها. في السنة الاولى لبطريركيته عقد ايشوع برنون مجمعاً، سَنَّ فيه قوانين متنوعة في الفرائض والأحكام بلغ عددُها 130 قانوناً وقيل بأنه لم يُعمَل بها بسبب موقف واضعها مِن طيمثاوس الأول .

 

40 – البطريرك كيوركيس الثاني 828 – 830 م

تقول عنه المصادر التالية (إبن العبري / التاريخ الكنسي2 ص 188 ــ بطرس نصري/ ذخيرة الأذهان1 ص 389 ــ توما المرجي/ كتاب الرؤساء ص 145 – 146 ــ ماري / المجدل ص 76 ، صليبا / المجدل ص 68 – 69) بأنَّه شِرزاد إبن أحد أشراف قرية “جانس” الواقعة شمال شرقي عين سفني بمسافة 10 كم على نهر الكومل، وكان يُلقب بـ”الصبّاح” أو الصيّاح. يذكر توما المرجي (كتاب الرؤساء ص 146) <بأن شرزاد بن مبروخ كان ذات يـوم ذاهباً للصيد فشاهد ميطرابوليط حِدياب “مارن عمه” وما كان مِنه إلا ونزل عن حصانه ليأخذ بركتَه، ودار بينهما حديث ثمَّ افترقا، ولكنَّ شرزاد بعد هذا اللقاء تحرَّكت في داخله النعـمة ودفعـته لإختيار الحياة الرهبانية، فدخل الى دير بيث عابي بمنطقة المرج، متأثراً بما شاهد مِن المُعجزات والخوارق التي كان يُجريها الربُ على يدي الميترابوليط “مارن إمه”. وكان شِرزاد قد عرض أمرَ رغبته في الدخول الى الديرعلى المطران مارن امه ) فنال مِنه البركة وتنبّأَ بما ينتظره مِن مُستقبل ٍعظيم في الكنيسة. وأبدل الديرُ اسم شرزاد بكيوركيس، واهتمَّ بتعليمه الأنبا ايشوعداد، ولم يلبث أن أُنيطت به رئاسة الدير، وفي فترة رئاسته الطويلة، تطاول شخصٌ واستولى على إحدى ضِيَع الدير، فقـصد كيوركيس الطبيبَ جبريل بن بختيشوع وأهابَ به ليُنصفه مِن ذلك المُغتصب. أثَّرت شخصية كيوركيس على جبريل ورأى فيها الإستقامة والحكمة، فقابل مار طيمثاوس وسأله أن يرسمَه مطراناً على جـنديسابور، فكان له ما أراد، وجلس كيوركيس على كُرسيِّ جنديسابورمدة تربوعلى العشرين سنة. وبعد وفاة البطريرك ايشوع برنون، رشَّحَ الطبيبان جبريل وصهره ميخائيل كيوركيسَ مطران جنديسابور للكُرسي البطريركي رغم تقدم عمره الذي تجاوز القرن وتضعـضعت صحته، فرُسم بطريركاً عام 828م ووافته المنية عام 830م، ودُفن في دير الجاثاليق “دير كليليشوع” في بغداد. لم يذكر له التاريخ دوراً في علاقات المسيحيين والمسلمين، فقد كان امرُ هذه العلاقات بأيدي كبار المتنفذين المسيحيين. كان كيوركيس ورعاً وقديساً، وينسب إليه صليبا في (المجدل ص 69 ) آياتٍ عجائبية أظهرها الله على يديه، كشفاء المرضى وطرد الشياطين.

41 – البطريرك سبريشوع الثاني 831 – 835 م

يَروي المؤرخون (إبن العبري/ التاريخ الكنسي2 ص 190 ــ بطرس نصري/ ذخيرة الأذهان1 ص 390 – 391 ــ صليبا / المجدل ص 69 – 70 ــ ماري / المجدل ص 76 – 77) انخرط في سلك الرهبنة بدير ايزلا الكبير، رسمَه يوحنا ميطرابوليط نصيبين اسقفاً لحرّان، ولم يلبث أن نقله البطريرك طيمثاوس الأول الكبير الى مطرانية دمشق. وقد سبق لنا القول بأن الخليفة المأمون لدى زيارته لدمشق نزل ضيفاً عليه. وقد وعد المأمون بمكافأة سبريشوع في الوقت المناسب عرفاناً لِما لقيه مِنه مِن الحفاوة والإكرام إبان زيارته، فعند وفاة البطريرك كيوركيس الثاني، تذكَّر المأمون وعده وأبدى رغبته بتنصيب سبريشوع على الكُرسيِّ البطريركي، فرُسم بطريركاً عام 831م. نزل البطريرك الجديد بدير الجاثاليق الكبير المعروف بــ”دير كليليشوع”. قام بتجديد دير مارفثيون في العتيقة ناوياً أن يجعله مقرّاً لكُرسيِّ البطريركية في بغداد. لم يكن سبريشوع الثاني عالماً، بل كان زاهداً ومُلمّاً بأخبار الكنيسة وحافظاً لها. أبدى مسعىً بتجديد العلوم وتقويتها بين أوساط أبناء الكنيسة، فأصدر مرسومين لهذه الغاية يحُثُّهم فيهما على متابعة الدرس والإستفادة مِن كُتُب الآباء بالإطلاع على مخزونها، وخصَّ الرهبان بالدرجة الاولى، حيـث شيَّد مدرسة في دير مارفِثيون وعهد الى رهبان ديرصليبا المُسمى بـ”دير صرصر” وخصَّصَ لهم الأرزاق. وتلى هذه المدرسة تأسيس ثلاث مـدارس اخرى هي: مدرسة ديركليلـيشوع ومدرسة دارالروم ومدرسة ديرماركبرئيل بالموصل المعروف بـ”الدير الأعلى”. ويقول بطرس نصري (ذخيرة الأذهان1 ص 391) يُعتقد بأنه كان لتلاميذ هذه المدارس دور بل حقٌ ونفوذ في انتخاب البطريرك. ولم يتوانَ سبريشوع الثاني عن بناء الضِيَع، وفي سبيل توفير نفقات المدارس والكنائس والإعتناء بالغرباء كان يُقسِّر على نفسه. وافى الأجلُ سبريشوع عام 835م ودُفن الى جانب أسلافه في ديركليليشوع .

 

42 – البطريرك إبراهيم الثاني المرجي 837 – 850م

يذكر توما المرجي (كتاب الرؤساء ص 143) بأنَّ إبراهيم كان مِن مواليد قرية  “بيث ادري” بمنطقة المرج بالقرب مِن شملث “شرمن”. وهو إبن شابور المُتعّبِّد للشمس هو وأهالي قريته، وكان هذا الأمرُ يُسببُ ألماً لميطرابوليط حِدياب “مارن عمه”  دفعه الى لعن القرية فأصابها الخراب وقتل شابور وانتقل السكان الناجون الى شملث… يظهر أن إبراهيم كان مؤمناً ومال الى الحياة الرهبانية، فانخرط في دير بيث عابي الشهير وتلقى العلم فيه، وبعد مرور مدة رُسم اسقفاً لحديثة الموصل. نقتبس بتصرُّف مما كتبه القس بطرس حَداد في (مجلة بين النهرين ص 140 تاريخ 5 /12 / 1990) بعد وفاة البطريرك سبريشوع الثاني، احتدمَ الخلاف والتنافس بين المُتنفذين الذين بحكم مراكزهم في الدولة العباسية، أصبحت الشؤون الكنسية مرهونة بإرادتهم، والفريق الأقوى هو المُنتصر. فهنالك الطبيب سلمويه بن بنان وأخوه إبراهيم أمين الخزينة وحارس ختم الخليفة، وقفا الى جانب إبراهيم ورشحاه للبطريركية  وأيَّدهما في ذلك أهلُ الحيرة وكُشكُر، بينما وقف بختيشوع الطبيب وأهلُ الأهواز الى جانب آبا ميطرابوليط جنديسابور الذي حظيَ بموافقة  الآباء الأساقفة وتوَجَّه الى المدائن ليُرسَمَ هناك حسب التقليد الكنسي. ولكن ليس كُلُّ ما يتمنّاه المرءُ يُدركُه، ففيما كان آبا في طريقه الى المدائن، كانت مفاجأة ٌبانتظاره حيث قام حاكمُ بغداد وتوجَّه بأمر الخليفة المُعـتصم ليوقف الرسامة ويعتقلَ آبا ذاته، وجرى كُلُّ ذلك إكراماً لسلمويه طبيب المُعتصم المُفضَّل. وكان هذا التنافسُ سبباً في شغور الكرسي البطريركي نحو سنتين حتى فُرضَ إبراهيمُ بطريركاً بأمر المُعتصم، وقد أحدثَ هذا الفرضُ شرخاً في صفوف أبناء الكنيسة، دام سنين طويلة. ولدى وفاة آبا إستقـرَّت الرئاسة لمار إبراهيم.

واختلف المؤرخون حول كفاءة البطريرك إبراهيم، ففي حين يمدحه صليبا(المجدل ص 70) بقوله <كان عاقلاً متواضعاً كثير الرحمة قليل العِلم، وان الامور استقامت له ودبَّرَ تدبيراً حسناً> بينما يقول إبن العبري (التاريخ الكنسي2 ص 190 ــ ماري / المجدل ص 78) <إنَّه سلَّم الامور بأيدي أفرام بن اخته وحوريشاه إبن عمِّه وحنوخ تلميذه الذين تصرَّفوا بالشؤون الكنسية المالية على هواهم، وأساؤوا الى التلاميذ، وعكفوا على جمع الأموال، حتى أنَّ حنوخ هرب مع مبلغ مِن المال واعتنق الإسلام.  وسارت الامور على أسوأ حال، ولم يكن للبطريرك عزم للتدبير ولا  طاقة  لإيقاف المساويء عند حدِّها> أما توما اسقف المرج والمؤرخ الشهير وقد شغل أمين سرالبطريرك إبراهيم الثاني فترة مِن الزمن، فإنَّه يُطريه مدحاً وثناءً. تُوفي إبراهيم الثاني بعد 13 سنة مِن تولّيه الرئاسة، ودُفن بدير يزدفنة في الحيرة. وقيل بأنَّ رفاته أُهين في عهد المتوكل، حيث أُخرج مِن قبره ورُميت عظامُه في النهر، وإنَّ نوراً إستمرَّ يُضيئُها لعدة أيام.

 

بعد رحيل البطريرك طيمثاوس الكبير ورحيل الخلفاء العظام المنصور والمهدي والرشيد والمأمون، فترَ كثيراً الإهتمام بالعلوم، مِما أدّى الى تقلُّص نفوذ العلماء والأطباء. ومِن الناحية الكنسية، فإنَّ البطاركة الذين أعقبوا طيمثاوس الأول كانوا كباراً في السِنِّ ضحيلي العِلم، ولم يتمتع أيٌّ مِنهم بشخصيةٍ قوية، وكانت فتراتُ رئاستهم قصيرة المدة، فكانت هذه العوامل إشاراتٍ لدخول الكنيسة الى مرحلةٍ صعبة في مسيرتها، بعد المجد والإزدهار اللذين عرفتهما في عهد طيمثاوس.

 

الخليفة العاشر القاسي

10 – الخليفة المُتوكِّل 847 – 861م

يروي المسعودي في (التنبيه والاشراف ص 313 – 314) بأنَّه جعفر أبو الفضل بن الرشيد. إتَّخذ لقب المتوكل. كانت امُّه خوارزمية وتُدعى “شُجاع” إختلف بسياسته كلياً عن سياسة أسلافه، حيث قام بنبذ مذهب المُرتزقة واضعاً حداً للمحنة وعائداً للسنة باسلوبٍ تدريجي، وكانت البداية بدحض الأفكار والإجتهادات المُخالفة، وبإبعاد الموالي الأتراك عن شؤون الدولة، وبذلك استتبت له الامور، فأقدم على تنظيم ولاية العهد بين أبنائه الثلاثة، فكان حظه عظيماً في الدنيا نال مِنها مُبتغاه، مؤثراً الهزلَ والأُنس والمضاحك وهي من الامور التي لا يليق بالملوك بل تشينُهم، حتى أنَّ السيوطي (تاريخ الخلفاء ص 346) قال: <الخلفاء الثلاثة أبو بكر الصديق ( ر) في قتل أهل الردة، وعمر بن عبد العزيز في رّدِّ المظالم، والمتوكِّل في إحياء السنة وإماتة التجهّم> وقيل بأنَّ نوبات غضبٍ كانت تنتاب المتوكل بكثرة، يَصُبُّ جامها على المسلمين والمسيحيين. وأدَّت إحدى سورات غضبه الى القتل ومُصادرة الأموال، حيث يقول المؤرخ صليبا في (المجدل ص 71) <إنَّه قتل كثيراً مِن الكتاب، واستصفى أموالَهم وهدمَ منازلَهم، ولقيَ أهلُ الذمة مِنه الشدائدَ وكُلَّ أذى ومكروه> وفي عام850م أمر المتوكِّل بهدم قبر الحسين بن علي في كربلاء، وعيَّنَ قاضياً مِن أبناء السنة، ومَنعَ تدريس الكلام أو تعليمه، وأن يَكون القرآن والسنة أساساً للسلوك والتعليم. وفي العام ذاته أصدر الخليفة أمراً ضِدَّ المسيحيين واليهود، بدفع ٍمِن الفقهاء المُتزمتين السنيين الذين كان يعصرهم الحسدُ والغيرة مِن المسيحيين لإشغالهم مناصب مرموقة في الدولة، ولأنَّ المتوكِّل كان يحتاج الى دعم هؤلاء الواشين ومُساندتهم له، ولإرضائهم أصدر هذا القرار الجائر الذي يقضي بتنفيذ قوانين بالية ومنسية ضِدَّ المسيحيين، سـنَّها أسلافه أحياناً تحت ظروفٍ مُحرجة، علماً بأنَّ القرآن لا يأمر بها ولا يقبل بها الخُلق الإسلامي الصحيح، وكان تبريرُ الخليفة لإتخاذه هذا الأمر هو العودة الى الأحكام التي فرضها العُمران الأول أوالثاني بحقِّ الذميين.

 

ويعتقد الناقدون المتأخرون، كما يقول المسعودي في (مروج الذهب4 ص 86) بأنَّ تلك القوانين أصدرها أصحابُ المتوكل ذوو التأثير الكبير عليه، وبتأثير ٍمباشر مِن الفتح بن خاقان التركي، الذي كان مُولّى الخليفة وأغلبَ الناس عليه وأقربهم مِنه . وكانت تلك الأحكام أو القوانين على نوعين، وكُلُّ نوع ٍ يشتمل على ستِّ مواد. ومواد النوع الأول الست وُضعت لحماية الإسلام وهي تتفق وروح الشريعة الإسلامية، وأية مُخالفةٍ لها تضر بالعهود”الدُعائية” الممنوحة لحماية المسيحيين وهي التالية: <كُلُّ تهجُّم ٍ، وإن بالأقوال، على المُسلميـن أو على القرآن أو على النبي، واهتداء مُسلم ٍ،  وظُلم يُقترَف ضِدَّ مُسلم ٍ أو أمواله، وكُلّ صلةٍ بامرأةٍ مسلمة للزواج أو للفجور،  ومساعدة أعداء المسلمين>.

 

أما مواد النوع الثاني فيُرَجَّح صدورُها عن الفقهاء، وقد اعتبروها غير مُخالفة للعهود المزعومة وهي كما ذكرها المؤرخ صليبا في (المجدل ص 71) .

 

>  منع قرع النواقيس وتلاوة المزامير عـلناً .

>  عدم عرض الخمور والخنازير والصلبان أمام الأنظار .

>  عدم إقامة بناياتٍ أعلى مِن بيوت المسلمين .

>  عدم الإحتفال العلني بالمآتم .

>  منع ركوب الخيل واستعمال السُرج لركوب البغال والحمير  .

>  منع المسيحيين مِن استعمال أسماء أو ألقابٍ اسلامية .

 

بالإضافة الى إجرآتٍ اخرى مُشينة. إنَّ هذه المثالب المُرتكبة ضِدَّ المسيحيين، إضطرَّت الكثيرَ مِنهم الى اعتناق الإسلام ليتخلَّصوا مِن التعسُّف ومُصيبة الذلِّ. كانت تلك المواقف والإجرآت نابعة مِن نفوس ٍ موبوءة بداء التعصُّب الديني المقيت والحسد المُميت، وكان هذا المرض يُعاود بين فترةٍ واخرى، وقد أصاب بعد العرب المغولَ ثمَّ العثمانيين.

 

43 – البطريرك تيودوسيوس الأول 853 – 858م

بعد وفاة البطريرك إبراهيم الثاني في 16 أيلول عام 850م ، تدخَّل المسيحيون العلمانيون كالعادة غير مفسحين المجال للأساقفة لإختيار مًن يتصف بالمؤهلات اللائقة بالمنصب البطريركي، إلا أنهم رأوا قي الأمر عُسراً. وعندما أجمع الأطباءُ بختيشوع ويوحنا بن ماساويه واسرائيل بن زكريا الطيفوري وكان الأخير طبيب الفتح بن خاقان أمين سر الخليفة المتوكل، على اختيار يوحنا مطران دمشق، أُصيب الأخير بالشلل قبل أن تُجرى رسامتُه. فاختاروا ميخائيل الكُشكُري اسقف الأهواز، وهذا أيضاً بسبب عارض ٍ مفاجيء طرأَ في حلقه أفقده الحياة. فأوكلوا دور الإختيار الى الكُتاب، إبراهيم بن أبي نوح الأنباري وعثمان بن سعيد مسؤول بيت المال، فاختارا إبراهيم اسقف كُشكُر، ولكنَّ هذا أيضاً داهمه مرضٌ أودى بحياته. وبعد ذلك اختاروا ايشوعداد اسقف الحديثة ولكنَّه رُفضَ مِن قبل الناخبين. عندها يقول المؤرخون (إبن العبري/ التاريخ الكنسي2 ص 192 – 194 ــ صليبا / المجدل ص 72 ــ ماري / المجدل/ ص 78) أُنيط أمر الإختيار ببختيشوع الطبيب، فاختار مطران جنديسابور الباجرمي الأصل “تاذاسيس” أو”تيودوسيوس” وكان لفترةٍ مِن الزمن اسقفاً للأنبار، وحظيَ الإختيار بتأييد الخليفة.

وكانت المؤامرات تُحاكُ في الخفاء، فما كاد ينقضي شهر على رسامة البطريرك الجديد، حتى تغـيَّر رأيُ الخليفة بالبطريرك وببختيشوع ذاته، وذلك نتيجة ايقاع منافسي  بختيشوع به بزعامة إبراهيم بن أبي نوح الأنباري أمام المتوكل. فأمر الخليفة بسجن البطريرك وسحب حظوته مِن الطبيب بختيشوع. وكان منافسو بختيشوع قد أوغروا صدر الخليفة ضِدَّه، وأغروه بالإستيلاء على أمواله الطائلة مدفوعين مِن غيرتهم القاتلة، حين يرون بذخه المُفرط  ومجيئَه الى البلاط كُلَّ يوم في عربةٍ فاخرة مِن الأبنوس، وقد أباح لنفسه الزواج مِن إمرأتين في آن ٍ واحد، أنجبت الواحدة إبناً سمّاه جبريل والثانية إبناً آخر دعاه يوحنا، وهذا سيصير مطراناً على الموصل. فلم يكن غريباً على المتوكل الجشع أن ينتقم مِن بختيشوع طمعاً بأمواله. ويقول المؤرخ المونوفيزي إبن العبري(التاريخ السرياني ص 158) <إنَّ بختيشوع كان يُمضي أول الليل في الأكل والشرب واللهو، وكان يقوم في منتصف الليل ويعكف على الصلاة ثمَّ على قراءة الإنجيل حتى انبلاج الفجر. وفي الصباح كان يتوجَّه الى البلاط. وظهرت نوايا المتوكل فيه إثرَ وليمة كبرى أقامها له الطبيب في منزله الخاص، فاستولى على جميع أمواله. وعاش بختيشوع في الفقر والعوز الى أن وافته المنية في البحرين سنة 870م> وقيل بأن ما تبقى في منزل بختيشوع مِن الحطب والفحم والخمر، اشتراه حسين بن مقلد بستة آلاف دينار، ومن ثمَّ باعه باثني عشر الف دينار. أما أثمان ممتلكاته والأموال التي صادرها المتوكل أضافت الى موجودات الخزينة عشرة ملايين درهم.

 

وأمر المتوكل بتنفيذ الأحكام التي جدَّدها عام 850م ضِدَّ المسيحيين، فهُدِمَت بعض الكنائس والأديُرة، وطرد الكهنة والشمامسة مِن سامراء، وطبِّقت على المسيحيين عدة إجراءات مُجحفة ومُذِلة، حيث يقول المؤرخ القلقشندي في (صبح الأعشى1 ص 415 ، القاهرة 1919) بصددها ما يلي: <وقد أدَّت هذه الإجراءات الى اجتياز عددٍ مِن الكُتّاب المسيحيين الى الإسلام وبلوغهم أعلى المناصب في الدولة، أمثال عيسى بن فروخنشاه، وأحمد بن اسرائيل الأنباري والإخوة بني مخلد مِن ديرقوني…  وكانت مُساهمة الجاحظ المتزمت الكبير بالغة التأثير للحط مِن كرامة ومكانة المسيحيين مِن خلال كتاباته المُغرضة والإفترائية، وبخاصةٍ في كتابه “الرد على الـنصارى”  واقتدى به المُنقلب على المسيحية “علي بن سهل الطبري” الكاتب السابق لدى المازيار بن قارن بن بندار هرمس، الذي أقامه المأمون حاكماً على منطقة جبال طبرستان، ثمَّ أعلن العصيان عليه، ولكنه غُلب على أمره في عهد المتوكل، وأُخذ الى سامراء وقتل. وكان بنو خاقان هم مؤجِّجي نار هذا التعصُّب الديني المقيت جاعلين مِن المتوكل العوبة بأيديهم.

 

ظلَّ الوضعُ بالنسبة للمسيحيين على حاله مِن السوء في كافة مناطق البلاد حتى عام857م الذي توفي فيه طبيب المتوكل ذو الأفضلية الاولى لديه يوحنا بن ماسويه. فأمر الخليفة أن تُقامَ لطبيبه الجنازة بأبهى مظاهرها. فاُخبرَ بخلوِّ سامراء مِن الكهنة والشمامسة إذ قد طردوا مِنها منذ زمن.  وظهرت الدهشة على الخليفة كمَن تفاجأَ بالأمر، فإذا بموقفه يتغيَّر كلياً. فأمر بالإفراج عن البطريك تيودوسيوس فوراً، ومِن الجدير بالذكر، بأنَّ البطريرك مكث مُلقىً في السجن لمدة ثلاثة أعوام ونصف في بغداد أولاً ثمَّ في سامراء، لإتهامه بالمُوالاة للروم، ولدى استنطاقه أمام الخليفة مرة ً نفى عن نفسه هذه التهمة،  فسأله الخليفة القسم ، لكنَّه رفض قائلاً “إنَّ رؤساء الدين لا يُقسمون” والى جانب أمر الإفراج عن البطريرك أمر الخليفة بأن يُدعى الكهنة والشمامسة للقدوم الى سامراء والبقاء فيها.. وعقب الإنتهاء مِن مراسيم دفن يوحنا بن ماساويه، تقدم الأطباءُ والكُتّاب المسحيون مِن المتوكل بطلبِ السماح للبطريرك للعودة الى مقرِّه في بغداد. فأصدر أمراً الى حاكم بغـداد بأن يُجرى للبطريرك استقبال كبير لائق بمقامه.

 

وفي عام 858 م قصد الخليفة المتوكل زيارة دمشق، وصادف وجودُ ميطرابوليط نصيبين فيها آنذاك، فهيَّأَ للخليفة استقبالاً رائعاً دهش له الخليفة. ولدى سؤال المتوكل أمين سِرِّه الفتح بن خاقان عن منظم هذا الإستقبال الفخم، قال له، إنَّه سرجيس ميطرابوليط نصيبين الكلداني، فأمر باستقدامه لديه،  فمنحه للحال عشرة آلاف درهم.  وأراد الخليفة أن يُكافئَه بشكل أكبر، وفكَّر أن يأمر بإقامته بطريركاً بدلاً مِن ديودوسيوس، ولكنَّ أمين سرِّه الفتح بن خاقان، قال له بأنَّ مثل هذا الأمر لا يقبله المسيحيون. فطلب الخليفة إبلاغه عند وفاة البطريرك تيودوسيوس الحالي . وكان هذا الحدث عاملاً آخر في تثبيت موقف الخليفة الجديد مِن المسيحيين. وتحوَّلت أحوال المسيحيين الى الأفضل، وشرع كبارُ رجال نصيبين بالوفود الى الميطرابوليط سرجيس بمناسبة نيله الحظوة لدى الخليفة. ويقول ماري في (المجدل ص 80 والأب فييه / المسيحيون السريان… ص 100) بأنَّ البطريرك تيودوسيوس لم يلبث أن مات في السادس مِن تشرين الثاني لنفس العام 858م، وبذلك صار الطريق مُمَهداً أمام الميرابوليط سرجيس لتولّي الكُرسيِّ البطريركي. وتمَّ دفن البطريرك تيودوسيوس في دير كليليشوع اسوة بأسلافه.

44 – البطريرك سرجيس الأول 860 – 872م

إنَّه باجرميُّ الأصل مِن بيث كَرماي أُقيمَ مطراناً على نصيبين، وقد ذكرنا بأنَّه استغلَّ وجودَه بدمشق أثناء مرور الخليفة المتوكل بها، فاحتفى به  بإعداده له استقبالاً عظيماً، فوعده الخليفة بمكافأة أرقى مِن المنحة المالية التي نفحه بها وفي أول مناسبة سانحة. فكانت وفاة البطريرك تيودوسيوس مُناسبة مؤاتية، فأوعز الخليفة بأن يخلفه سرجيس، وبالرغم مِن الأمر الملكي، فإنَّ بعض أساقفة الكنيسة أعربوا عن احتجاجهم، رافضين أن يتقلد مطرانُ نصيبين منصب البطريرك، إذ كان يُنظر الى كُرسيِّ نصيبين الميطرابوليطي، بأنه كُرسيٌّ قد سبَّب في الماضي متاعب جمة للكنيسة، إذ لا يزال في ذاكرتهم ما ارتكبه برصوما النصيبيني في القرن الخامس مِن تطاول على الجاثاليق بابوي وتسبُّبِه بمقتله، وما قام به يوحنا الداساني مِن تآمر في أواخر القرن السابع ضِدَّ البطريرك حنانيشوع الأول ( الأعرج ) وتمكَّن مِن عزله، هذا كان سبب احتجاج الأساقفة وتردَّدهم في الموافقة على سرجيس مطران نصيبين الذي رشَّحه الخليفة.

ومع كُلِّ ما شعروا مِن استياء بخصوص هذا الترشيح، لم يكن بمقدورهم إلا الرضوخ لرغبة الخليفة. ورُسم سرجيس بطريركاً في 31 /7 / 860م. وبالرغم مِن أن سرجيس اعتلى الكرسي البطريركي بإرادة السلطة الحاكمة، فإن المؤرخين قد أحجموا عن ذِكر علاقاته بها. ما عدا المؤرخ صليبا في (المجدل ص 73) حيث يقول بأنَّه < رسم عدة أساقفة لمختلف المراكز المسيحية، وقام بتجديد هيكل مار يونان>. إلا أن ماري في (المجدل ص 53) فيقول: <إنَّ الناس فرحوا برئاسته، وانه لم ينحدر الى دير قوني، بل عاد الى بغداد ثمَّ ذهب الى “سُرَّ مَن رأى” ليكون قريباً مِن السلطات في إدارة شؤون كنيسته، وان النصارى تخوَّفوا لدى موته مِن دفنه في دير يزدفنه في الحيرة لِما جرى لإبراهيم المرجي، فحُمِلَ الى دير كليليشوع في بغداد>.

وبرز في هذا العهد مِن المسيحيين، دُليل بن يعقوب كأمين سِرِّ الأمير التركي”بغا الصغير” الملقب بالشرابي، وكان الطبيب إبن سرجويه أيضاً بين خاصته. أما حُنين بن اسحق فقد بلغ في هذا الزمان الى الذروة في حقلي العِلم والطب، وكان مسيحياً ملتزماً وجريئاً الى الإسلام. وكانت هذه الظاهرة الجديدة التي اعتمدها المُسلمون مدعاة مدح ٍ مِن قبل الملكي “قسطاً بن لوقا” لأنها تُمثل وسيلة العقل والمنطق للتدليل على صحة ديانتهم. وقد تضمَّن ردُّ حُنين على المسلم بن المنجم شيئاً مِن العنف مُفحِماً إياه ومؤكداً له، بأنَّه متمسِّكٌ بديانته المسيحية ويعتبرُها الديانة الصحيحة، وقطع بذلك حبلَ التواصل بينه وبين بن المنجم بهذا الشأن. ولكن الغيرة القاتلة تدفع بصاحبها الى فعل كُلِّ شيءٍ لإيذاء المُغار منه، وهذا ما فعله بختيشوع واسرائيل الطيفوري عندما إتَّهما حُنين بأنه مِن أنصار مُحطمي الأيقونات، وسعيا به الى المتوكِّل الذي أحال أمره الى البطريرك سرجيس. ويدَّعي المينوفيزي إبن العبري في (تاريخ مُختصر الدول ص 252) بأنَّ البطريرك قام بحرم حُنين ويقول بالنص: <إنَّ حنين “قطع زنّارَه” وتعني هذه العبارة أنَّه أسلمَ، لأنَّ الزنّار كان العلامة الفارقة المفروضة آنذاك على المسيحيين. وانصرف الى داره ومات مِن ليلته فجأة، وقيل أنه سقى نفسه سُمّاً، والغريب أنَّ هذا الإدعاء الإفترائي مِن إبن العبري، لم يتطرَّق إليه المؤرخون المسلمون أنفسهم، والكُلُّ يُقرِّون بأنَّ العالم النحرير والطبيب الشهير حُنين مات مسيحياً عام 873 م.

 

11 – الخليفة المُنتصر 861م

ولكنَّ اللهَ إن أمهَلَ المُعتدي فلا يُهمِلُ عقابَه عاجلاً أو آجلاً. وهكذا فإنَّ الخليفة المتوكِّل الجائر وأمينَ سِرِّه الفتح بن خاقان الخبير بالتآمر، تعرضا للإغتيال في الحادي عشر مِن كانون الأول لعام 861م على أيدي”المُنتصر” إبن المتوكل ومناصريه. واستولى محمد بن جعفر المتوكل الذي إتَّخذ لقب “المُنتصر” على الخلافة، ولكنَّ الحُكمَ لم يَطُل به سوى ستة أشهر، ويُقال بأَنَّه مات مسموماً،  بتدبير مِن إخوته الذين اعتبروا موقفه مِنهم عدائياً، وكان قد بلغ مِن العمر خمسة وعشرين ربيعاً. وتسارعت الأحداث نتيجة صراع الأمراء العباسيين على الخلافة. فاحتلَّ منصب الخلافة عام 862م بعد موت المُنتصر أحمد بن محمد بن محمد المُعتصم.

 

12 – الخليفة المُستعين بالله 862-866م

إنَّه احمد بن محمد حفيد المُعتصم، وكُنِّيَ بـ”أبي العباس” كانت أُمُّه صقلبية وتُدعى خوارق. وكان الضغط الذي مارسه على المُستعين مُنافسوه كبيراً لم يستطع مقاومته، فاستقال ناوياً المكوث في بغداد والعيش فيها، بيد أنَّ المُنافسين ظفروا به واغتالوه في تشرين الأول عام 866م وهو في الخامسة والثلاثين مِن عمره. ولشُدَّ ما كانت حيرة الأمناء والكُتّاب المسيحيين مِن الصراع المُستعر بين هؤلاء الأمراء للإستيلاء على السُلطة.

 

13 – الخليفة المعتز بالله 866-869م

يقول السيوطي (تاريخ الخلفاء ص 359) والمسعودي في (التنبيه والاشراف ص 316 ومروج الذهب4 166)  <بعد اغتيال المُستعين بالله بويع بن جعفر المتوكِّل بالخلافة عام 866م واتَّخذ لقب “المُعتز بالله” كانت أُمُّه رومية واسمها قبيحة. حاول المُعتز بالله أن يسير على النهج الياسي لوالده المتوكل، إلا أنَّ الإخفاقَ كان ملازماً له في كُلِّ محاولاته، بسبب انعدام حزمه وضعف رأيه وانهماكه في الملاذ واللهو. وكان سيَّ التصرف مع مُساعديه المحيطين به مِن المسلمين والمسيحيين. وكان إبراهيمُ بن ايوب الأبرش طبيبُه المسيحي الخاص، ووضع إبنه اسماعيل تحت عنايته. ولتمادي المُعتز في أعماله المُشينة، أُرغمَ على تقديم استقالته عام 869م ، واودعَ زنزانة ً فتضوَّرَ جوعاً ومات عن عمر أربعةٍ وعشرين عاماً.

14 – الخليفة المُهتدي بالله 869-870م

يقول السيوطي (تاريخ الخلفاء 361) والمسعودي في (التنبيه ولاشراف ص 318) <بعد إرغام المعتز على الإستقالة، بويعَ محمد بن هارون الواثق  واتَّخذ اسم “المُهتدي بالله”  لقباً له . وكُنِّيَ  بـ”أبي اسحق” كانت أُمـُّه رومية وتُدعى “قرب” ويُقال وردة. وقال المسعودي عنه في (مروج الذهب4 ص 183) (( إنَّه كان ورعاً، وكاد أن يكون في بني العباس مثل عمر بن عبد العزيز في بني أمية هدياً وفشلاً قصداً وديناً ))  ويُضيف بالقول: <إنَّه جلس في قبة المظالم للعام والخاص، وأمر بالمعروف ونهى عن المُنـكر، وحرَّمَ الشرابَ ونهى عن القيان وأظهـر العدل> ويقول السيوطي (تاريخ الخلفاء ص 363) كان المُهتدي بالله صارماً الى حَدِّ الإزعاج والإستياء. إنَّه استطاع تصفية الكثير مِن خصومِه، إلاّ أنه لم يصمد أمام خصمه الأكبر”التركي موسى بن بغا الكبـير” حيث تمكّنَ الأخيرُ مِن اقتحام سامراء في الثلاثين مِن كانون الأول عام 869م واعتقل الخليفة المُهتدي، وبعد فترة غير طويلة دارت معركة بين مقاتلي التركي موسى وبين أنصار المُهتدي، فانهزم جيش الخليفة، فقضيَ على الخليفة عصراً على خِصيتيه ومات. أما المسعودي فيقول في (مروج الذهب4 186) بأن الروايات حول موت المُهتدي بالله فقد تباينت. والى الجزء الخامس عشر قريباً

 

الشماس د. كوركيس مردو

في 1/3/2015

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *