الإصحاح الثالث عشر للبشير متَّى / التعليم بالأمثال عن الملكوت

” في ذلك اليوم خرجَ يسوع مِن البيت، وجلس بجانب البحر. فازدحمتْ عليه جموعٌ كثيرة، حتى إنَّه رَكِبَ سفينة وجلس، والجَّمعُ كُلُّه قائمٌ على الشاطيء. فكلَّمهم بالأمثال على أُمور كثيرةٍ قال: هُوَذا الزارع خرجَ ليزرع. وبينما هو يزرع، وقع بعضُ الحَبِّ على جانب الطريق، فجاءَت الطيور فأكلته. ووقع بعصُه الآخر على أرضٍ حَجِرةٍ لم يكن فيها تُرابٌ كثير، فنبتَ مِن وقتِه لأنَّ تُرابَه لم يكن عميقاً. فلما أشرقت الشمس احترق، ولم يكن له أصلٌ فيبِس. ووقع بعضُ الآخر على الشوك فارتفع الشوكُ فخنقَه. ووقع بعضُه الآخر على الأرض الطيِّبة فأثمرَ، بعضُه مِائة، وبعضُه سِتّين، وبعضُ ثلاثين. فمَن كان له أُذنان فليسمع! ” (متَّى13: 1-9) يُقابلها (مر4: 1-9 ولوقا8: 4 – 8).

أعزّائي القراء. قد وصلتُ الآن الى الإصحاح الثالث عشر الذي يحتوي على سبعة أمثالٍ عليَّ شرحُها لكم على قدر استطاعتي، إذ مِن الضروري جداً استيعاب فهمِها لنُدرك قصدَ وحي الروح القدس عن رسالة رَبِّنا يسوع المسيح في السنوات الثلاث الأخيرة مِن حياته الأرضية بحسب ما دَوَّنَها الإنجليُّ متَّى، وكذلك لكي نتعرَّف على خِطَط الله وتَعامُلهِ ليس مع خاصتِه بني اسرائيل فحسب، بل مع العالَم بأسره. وما وَرَدَ في هذا الإصحاح هوتوضيحٌ بل رَدُّ فِعلٍ إذا صحَّ التعبير لِما ورد في الإصحاح  السابق له “الثاني عشر” مِن رفض رؤساءِ بني اسرائيل الدينيين الكتبة والفريسيين المتكبِّرين ذوي الإعتداد بِبرِّ أنفسهم. والى جانب رَفضِهم للوارثِ الحقيقي للمواعيد، جَدَّفوا على الروح القدس فكان حكم الرَّبِّ عليهم شديداً.

يقول البشير متَّى والبشير مرقس: بأنَّ يسوعَ التقى الجموعَ خارجَ البيت، ولكثرة الجموع اضطرَّ للدخول الى السفينة وجلس. أما لما طلبَ التلاميذ أن يُفسِّر لهم مثلَ الزارع، فتمَّ ذلك داخل البيت بعد أن صرف الجموع. فما هو قصدُه بالبيت؟

1 – قد يقصد يسوع بالبيت “جماعة المؤمنين” وفي الواقع هم تلاميذه الذين اختارهم والذين سيُكوِّنون لاحقاً واجهةً “للكنيسة المقدسة” وخروجه من البيت كان للإلتقاء بالجماهيرغير المؤمنة ولا زالوا خارج عضوية الجماعة المؤمنة ولم يولدوا كأبناءٍ لله بعد. كان دافعه للخروج إليهم حُبّاً بوعظهم وتعليمهم بقرب البحر الذي يُشبه العالَمَ المليءَ بالإضطراب، وغرضه إدخالهم الى الجماعة المؤمنة عن طريق دخوله الى سفينة بشريتنا وتحدُّثه إليهم عن ملكوت الله من خلال الأمثال.

وإنْ كان بحُبِّه الكبير يُكلِّم الجماهير، إلاَّ أنَّه لا يثق بأحدٍ من خارج البيت للإطلاع على أسرار ملكوت الله ومعرفة مذاق الأمجاد الأبدية. حيث بعد صَرفِه للجماهير يجتمع بتلاميذِه على انفرادٍ داخل البيت، ويُكلِّمهم بأمورسامية ومجيدة لا ينطق بها إلاَّ معهم. وعادةً تحظى الجموع بحضور يسوع بينهم خارج بيتِه، لأنَّهم خارج البيت. ولحُبِّه الكبير للبشر يخرج تاركاً البيت وينطلق بعيداً ليلتقي بأولئك الذين لا يُمكنهم الحضورَ إليه.

2 – وقد يقصد الربُّ يسوع بالبيت بأنَّه السماء باعتبارها مسكن الله، فإن عجِز البشرُعن الصعود الى السماء للإلتقاء بخالقهم نزل هو إليهم عن طريق تجسُّدِه. يخرج من البيت ليلتقي ببني البشر من خلال بشريتهم، وبذلك لا يخافونَ مِنه كديّان فيفِرّون مِن أمامِه، بل يصل صوتُه الى سمعهم مِن خلال خشبة الصليب مُعلِناً استعدادَه لجذبهم بالحبِّ الى بيتِه “السماء” كاشفاً لهم أسراراً كعريسٍ يُناجي عروسَه. لا يُكَلِّمُها عن أسراره جهاراً بين الجماهير، بل أثناء علاقة الحُبِّ الشخصي في اللقاء الحاصل بينهما تحت سقفهما الواحد المُشترك.

3 – وربَّما كان خروجُه مِن البيت تعبيراً عن تَركِه لبيت اسرائيل واستيائه من العلاقات الطبيعية التي كانت تربطهم به ” هُوَذا بيتُكم يُترَكُ لكم قفراً ” (يوحنا23: 38) وجلوسه عند البحر يُشير الى تحوُّلِه نحو البشرية بأسرها، الى جميع الشعوب والأمم (رؤيا17: 15). كان لِبيت اسرائيل موقع خاص لدى الرب. وقد صبرَعليهم صبراً مُتعِباً مُنتظِراً منهم ثمراً يليق بمكانتهم وامتيازاتهم واختياره إياهم شعباً خاصاً له، ولكنَّهم تنكَّروا لتعبه معهم (إشعيا5: 1 – 7). فلم يَعُد الربُّ ينتظر ثمراً من الكرْم الإسرائيلي القديم. بل ينتظر ثمراً مِن زرعِه الذي يزرعه! كما أنهى انتساب اسرائيل كشعبٍ له، ولكنَّه يرضى بالإنتساب إليه أُولئك الذين يعملون بمشيئتِه عن طريق كلمتِه (متَّى12: 49 – 50)

إنَّ ما يُريده الله لنا هو “الخروج” كخروج بني اسرائيل مِن أرض العبودية في مصر الى أرض الموعد المُفعمة بالخيرات. يا لتوق يسوع لإخراجنا مِن عبودية الخطيئة الى حُرية مجدِ أبناء الله! وإذ رأى أنَّ خروجنا عسيرٌ بل مستحيلٌ، خرج هو من أمجاده سابقاً إيانا ليُخرجنا مِن طبيعتِنا الفاسدة، لنلتقيَ به، وفيه ننعم بالطبيعة الجديدة على مثالِه. خرج الكائن في كُلِّ مكان والذي لا يحُدُّه مكان، وجاء إلينا مُتَّخِذاً جسداً كجسدِنا، يبحث عَنا نحن المطرودين مِن حضرة الملك العظيم لأنَّنا مدينون ومُتمَردون. لكنَّ الآتيَ باسم ذلك العظيم والراغبَ في مُصالحتنا معه، خرج إلينا وتحدَّث معنا خارج المملكة، ومتى أصبحنا أهلاً للحظوة بالمقابلة، يأتي بنا الى الحضرة الإلهية، هذا ما فعله المُخلِّص يسوع المسيح.

مثل الزارع

هُوَذا الزارعُ خرج ليزرع

الربُّ يسوع المسيح هو الزارع. لا ينفك أبداً من الخروج دوماً لإلقاء بذور حُبِّه الكبير في أرض قلوبنا، لتُثمر فيها أشجار حُبٍّ يتوق الله أن يجني ثمارها وهو يقول: ” قد أتَيتُ الى جَنَّتي يا أُختيَ العروس، وقطفتُ مُرّي مع أطيابي، وأكلتُ شهدي مع عسلي وشَرِبتُ خَمري مع لبني. كُلوا أيها الأخِلاَّءُ اشربو واسكروا أيُّها الأحِبّاء ” (نش5: 1). في الفِردوس القى الربُّ بذوراً جيدة فجاء الشريرُ وزرع بينها الزوّان، واجتهد بإغواء حواء لتقبل بثمر الزوان فانصاعت لإغرائه وأقنعت آدم كذلك، فخسرا ثمارَ الربِّ، واستطابا ثمارَ الشريرالعصيان والمرارة، فطردا من الفردوس. وبعد زمن عاد الله واختار من نسلهما شعباً له، فوقع في عبودية المصريين، فأمر الله موسى ليُخرجَهم من أرض العبودية، ووضع لهم الناموسَ يحوي بذوراً إلهية، إلاَّ أنَّ قلوبَهم لم تُنهِ ارتباطها بعبادة الأوثان المصرية، فنحتوا لهم عِجل أبيس الذهبي، رافضين الناموس، فأنبتت ثمارُعبادة العِجل شجرة تذمُّرٍ وابتئاسٍ متواصل. وفي مِلءِ الزمن خرج إلينا الله الكلمة مُتخِذاً مِنا جسداً بشرياً وحلَّ بيننا، زارعاً فينا بذورَ روحِه القدوس. وكانت نهاية خروجه أن يُساق خارج اورشليم حاملاً عارَ خشبة الصلب، وكان ذلك ليُعَلِّمَنا الخروج بالصليب من دائرة “أنانيتنا ” أي نبذ كبريائنا الذاتية، والإنطراح عند صليبه الخلاصي والإرتواء من ينبوع دمِه الزكيِّ الطاهر كسمادٍ لبذور حُبٍّ تُثمر ثمراً جيِّداً فينا. ولهذا نَبَّهَنا بولسُ الرسول وهو يقول: ” ولذلك تألَّمَ يسوعُ ايضاً في خارج الباب ليُقدِّس الشعبَ بذاتِ دمِه. فلنخرج إليه إذاً في خارج المخيَّم حاملين عارَه ” (عب13: 12 – 13).

البذور

في العهد القديم ومنذ زمن موسى والأنبياء الذين أعقبوه حتى ملاخي آخرهم، كانوا يتلقون الكلمة من الله، وينظرون إليها كنعمةٍ مِنه تسندهم في حياتهم، ويُخبرون بها شعبَهم كما تسلَّموها مِن الرب. أما السيد المسيح يسوع فهو الإله الكلمة بذاته. رغبته تكمُن في أن يُدفنَ في قلب الإنسان المؤمن، لكي يجعل من ذاتِه شجرة حياةٍ طيِّبة في داخله. لا يُقدِّمُ لنا شيئاً لنا بالإستعارة كما كان يفعل أنبياء العهد القديم، إنَّه يُقدِّم حياتَه كسِرٍّ لحياتِنا. وقيامتَه مثالاً لقيامتِنا، وانتصارَه على العالَم وسيِّده باكورةً لإنتصارنا. وبمَجدِه يكمُن سِرَّ تمَجُّدِنا، إنَّه الباذرُ والبِذارُ معاً!.

غاية يسوع مِن الأمثال

” فدنا مِنه تلاميذُه وقالوا له: لماذا تُكلِّمهم بالأمثال؟ فأجابهم: لأنَّكم أُعطيتُم أنتُم أن تعرفوا أسرار ملكوت السموات، وأمّا أُولئكَ فلم يُعطوا ذلك. لأنَّ مَن كان له شيءٌ، يُعطى فيفيض. ومَن ليس له شيءٌ، يُنتزَعُ مِنه حتَّى الذي له. وإنَّما أُكلِّمُهم بالأمثال لأنَّهم يَنظرون ولا يُبصِرون، ولأنَّهم يَسمعون ولا يسمعون ولا يفهمون. وفيهم تَتِمُّ نُبوءَةُ إشعيا حيث قال: تسمعون سماعاً ولا تفهَمون وتنظرونَ نظراً ولا تُبصِرون. فقد غَلُظَ قلبُ هذا الشعب وأصَمُّوا آذانَهم وأغمضوا عيونَهم لئلاَّ يُبصِروا بعيونهم ويسمعوا بآذانِهم ويفهموا بقلوبِهم ويرجِعوا. أفأشفيهم؟ وأمّا أنتُم، فطوبى لعيونِكُم لأنَّها تُبصِر ولآذانِكُم لأنَّها تسمع. الحَقَّ أقولُ لكم: إنَّ كثيراً مِن الأنبياء والصِدِّيقين تَمَنّوا أن يروا ما تُبصِرون فلم يروا، وأن يسمعوا ما تسمعون فلم يسمعوا” (متَّى13: 10 – 17) يُقابلها (مر4: 10 – 12 ولوقا8: 9 – 10).

لماذا تُكلِّمُهم بالأمثال: سأل التلاميذ هذا السؤال لأنَّهم لاحظوا بأنَّ يسوع قد أجرى تغييراً باسلوب كلامِه مع الجماهير، إذ كان عادةً يُخاطبهم بكلام واضح وصريح يُدهِشُهم ” ولمَّا أتَمَّ يسوعُ هذا الكلام أُعجِبَت الجموعُ بتعليمِه …” (متَّى7: 28) فأجاب وقال لهم: وإنَّما أُكلِّمُهم بالأمثال لأنَّهم ينظُرون ولا يُبصِرون وإنَّهم يسمَعون ولا يفهمون: أما أنتم فقد أُعطيتم أن تعرفوا أسرار ملكوت السموات ، وأما اولئك فلم يُعطو ذلك .تُرى، لماذا قال يسوع ذلك لِتلاميذه؟ قبل أن يرفض َاسرائيلُ المسيحَ لم يجري الكلامُ عن أسرار ملكوت السموات، فقد نادى يوحنا المعمذان باقتراب الملكوت، وكذلك فعل الربُّ يسوع في بداية تبشيره، ومن قبلهما تنبَّأ عنه دانيال وأنبياءٌ آخرون. ولكنَّ الآن صارَ يسوعُ يتكلَّمُ كلاماً كان مدعاةَ عجبِ التلاميذ، وعسيراً على إدراك الجموع! فماذا كان هدفُ يسوع مِن الأمثال:

1 – استخدامُ صوَرٍ للأحداث التي لها تماسٌ في حياتهم ولهم اطِّلاعٌ عليها كمثل الزارع الذي خرج ليزرع، فهذا العمل تعرفه الجماهيرُ جيداً حيث يجري أمام أنظارهم، ويُعطيهم مفهوماً تعليمياً يتَّفِق ورغبة الرَّب، وهو اسلوبٌ ليدفعَ السامعَ للتأمل بمغزى المثل الذي يُشيرُ الى حكمة الله.

2 – والمثل هو شرحٌ لتعليم يَعسُرعلى الفهم باسلوبٍ آخر والدليل على ذلك “كلمة مثل” كمثل الخمرة الجديدة في زقاق عتيقة، وكالرقعة الجديدة للثوب العتيق،، وربَّما يُضرَبُ المثلُ توضيحاً لإحدى الحقائق الروحية، ومِن المعلوم بأنَّ الأمثال التي ترمُز الى الحياة الواقعية لها تأثيرٌعلى السامعين يفوق تأثيرَ الوعظ. ويُعتبرُ المثلُ صيغةً خاصة من الكلام يستخدِمُ فيه قائلُه تشبيهاتٍ تُشيرُالى مقصدِه منها، فإن لم نعرف المقصدَ لن نُدرِكَ مغزى المثل.

3– إنَّ أمثال التشبيه التي ضَربَها الربُّ يسوع هي تعاليم تُعَبِّرعن حقائق روحية استخدمَها يسوعُ ليأخذَ السامعون العِبرة منها ويتأملوا في مخزاها من أجل فائدتهم الروحية. وهناك أمثال كقصةٍ توضيحيةٍ قصيرة كمثل السامري الصالح، وقاضي الظلم، والشاب الغبي… وتُمثِّل أجوبة توضيحية لأسئلةٍ ووقائع جاريةٍ بين البشر.

4 – فمخاطبة يسوع للجماهير بالأمثال ليست لإخفاءِ الحقائق الروحية عن بعض البشر، فرغبته تَكمُن في خلاص جميع الناس، ويُعتبَرُاسلوباً أكثرَ مدعاةً للسامع ليُفكِّرَ ويتأملَ لتترسخ المعلومة لديه بشكل أكبر وأوضح، وبذلك يتعمَّق بفهم أسرار الملكوت، ويُظهِر توقَه لمعرفة الحق. أما ذوو القلوب القاسية والمتكَبِّرون المُهتمون بالملذات الأرضية وتكديس الأموال لا يخطرُ ببالهم البحث عن الحق ليتحرَّروا مِن عبودية الخطيئة التي تؤدي الى الهلاك.

والخلاصة، فإنَّ الربَّ يسوع يشرحُ الحقائقَ الروحية عن طريق الأمثال التي يَرغبُ أن تَسمَعَها الجماهيرُالمُصغية إليه، ويرويها مُستمِداً إياها من الأحداث والوقائع المألوفة التي نلمسها ونعيشها بالفعل، ليدفعَنا للتأمُّل في طبيعة الكون العجيبة ونُدركَ مِن خلالها قدرة الله الفائقة. إنَّ الأمثال ذات فائدةٍ كبيرة إذا تأمَّلَ المرءُ فيها وتعمَّق في مفهومِها، يجد فيها معانيَ كان يجهلُها، وهذه المعاني تُعزِّزُ فيه الثقة واالرجاءَ والإيمان بيسوع المسيح الذي أحبَّ البشرية جمعاء وافتداها بموته وقيامته!

ولأنَّ مَن كان له شيءٌ يُعطى ويَفيض: ويَقصُدُ يسوعُ بهذا القول: الإنسانَ الأمينَ الباحثَ عن الحق، حيث سيزيدُه فهماً وإدراكاً في استيعاب أسرار الملكوت التي ستنكشف أمامَه بوضوح كلَّما ارتفع مستواه الإيماني ونَعِمَت نفسُه بالسلام الداخلي. وبخلاف ذلك، وهذا كان ما فعله التلاميذ، ولذلك قال يسوع عنهم: ” أنا أظهرتُ إسمَك للناس الذين وهبتهم لي من بين العالم. كانوا لك فوهبتهم لي وقد حفظوا كلمتَكَ. وعرفوا الآن أنَّ جميع ما وهبتَه لي هو مِن عندِكَ وأنَّ الكلام الذي بَلَّغتنيه بَلَّغتُهم إياه فقبلوه وعرفوا حقاً أنّي مِن لدُنِكَ خرجتُ وآمنوا بأنَّكَ أنتَ أرسلتَني. ” (يوحنا17: 6 – 8).

فإنَّ مَن ليس له شيء، يُنتزَع مِنه حتى الذي له: أي إنَّ الإنسان الخاليَ من الأمانة المُعانِدَ الرافضَ للحق، يُحرمُ من الفهم الذي يمنحه المسيح، وحتى لو كان يتمتَّع بشيءٍ من الذكاء والحكمة البشرية والقليل من الفهم الروحي والنور الإلهي فيما مضى، فتنتزَع مِنه فيكتنفه ظلام روحي. ” فإن كان النور الذي فيكَ ظلاماً، فيا له مِن ظلام! ” مَتَّى6: 23) وهذا ما جرى لرؤساء الدين والكتبة والفريسيين اليهود والجزء الموالي لهم من الشعب،  كان لديهم الناموسُ والأنبياء الذين تنبَّأوا كُلُّهم عن مجيء المسيح، ولكنَّ كبرياءَهم وعنادَهم الأعمى أفقدهم التفسيرَالصحيح لِما ورد في الناموس والأنبياءُ، بينما زوَّدوا هيرودس بمعلوماتٍ صحيحة حين استعلمهم عن مكان ولادة المسيح فقالوا في بيتَ لحمَ.

ومع كُلِّ تصرُّفِهم الغبي مع يسوع الكلمة ابن الإنسان الآتي لخلاصِهم نَصَحَهم قائلاً: ” النور ُباقٍ معكم وقتاً قليلاً، فامشوا ما دامَ لكم النور لِئَلاَّ يُدرككم الظلام، لأنَّ الذي يمشي في الظلام لا يدري الى أين يسير. آمِنوا بالنور، ما دام لكم النور لتصيروا أبناء النور ” (يوحنا 12: 35 – 36 وإرميا13: 16). هنالك فرقٌ بين الجهل البحت والرفض المُتَعَمَّد للنورفي حالة ظهوره! أليس بإمكان الجاهل إذا أُرشِدَ الى الحق أن يتخلّى عن الجهل ويلتزم بالحق لفائدتِه؟ ولكنَّ الذي يكتفي بقليل ما لديه من الحق دون أن يسعى الى الأكثر، لا بل يستخدم ما لديه ليُقاوم ما يُريد الله أن ينوِّره به، فمثل هذا الإنسان يفقد الرجاء! وبسبب قساوة قلبِه يتحدَّى الحق. تُرى، ما أكثرَ مسيحيي اليوم يعيشون على هذا الطراز، ويتسابقون في عَرض آرائهم البعيدة عن الصواب، مُقاومين بحُمقٍ الحقائق الإلهية، فما أشدَّ عَباءَهم إذ ليس بوُسعهم التنعُّمَ بكلمة الله وسلامِه، وسيتعرَّضون لحساب عسير يوم الدينونة أُسوة ببني اسرائيل إذ لعدم ايمانهم تحقَّقَت فيهم نبوءة إشعيا النبي الذي قال عنهم: تسمعون سماعاً ولا تفهَمون وتنظرونَ نظراً ولا تُبصِرون. فقد غَلُظَ قلبُ هذا الشعب وأصَمُّوا آذانَهم وأغمضوا عيونَهم لئلاَّ يُبصِروا بعيونهم ويسمعوا بآذانِهم ويفهموا بقلوبِهم ويرجِعوا. أفأشفيهم؟ فيا لقساوة قلوبهم! فقد رأوا المسيح بأعينِهم وسمعوه بآذانهم ورفضوه، في حين أنَّ تلاميذه وهم مِن أبنائهم عرفوه وأحبّوه، فطوبى لهم! ويا ليتنا نحن المؤمنون بالمسيح الرب الإقتداء بتلاميذه لننال النعمة التي نالوها وبواسطتها نحن ايضاً نكون قادرين على تمييز حكمة الله على مِثالهم حيث جعلتهم ينظرون ويسمعون ما اشتهاه الأنبياء والصديقون القدماء أي المسيح ومجدَه، أيها الإخوة: ” في الإيمان مات اولئك جميعاً ولم يحصلوا على المواعيد، بل رأوها وحيّوها عن بعدٍ، واعترفوا بأنَّهم، غرباءُ نُزَلاءُ في الأرض ” (عِب11: 13 و رسالة بطرس الأولى1: 10 – 11).

الشماس د. كوركيس مردو

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *