الأفـكار السياسية : براءة إخـتراع أم مـُـلـْـك صِـرف حـتى النخاع ؟



شاهـدنا بعـضاً من أفلام وثائـقـية صَـوّرتْ قـبل 200 سنة شعـوباً كانـت نائية ومعـزولة تماماً عـن التمدّن والحـضارة ، دلـّـتْ عـلى أنّ الإنسان القـديم ( عـند تلك الشعـوب ) كان لا ينـتج بل يمد يده ويأكـل مما تــُـيَـسِّـر الطبـيعة له من أثمار وبقـول وخـضار النباتات ثم ضـمَّ الديدان والحـشرات إلى غـذائه ثم تـطـور إلى إصـطياد الحـيوانات ، وفي مجـتمعات أخـرى إنـتـقل الإنسان إلى مرحـلة جـديدة فـبذل جـهده في الأرض وأعـدّها وزرعها ثم إنـتـقـل إلى مرحـلة التـفكـيـر الإقـتـصادي فـصار يزيد الإنـتاج ويـوفـر المال ويستـثمره من أجـل تأمين مستـقـبله المجهول ، فعـلى مر الأزمان لم ولن يتـوقـف نشاط ذهـن الإنسان في مخـتـلف حـقـول المعـرفة والإنـتاج في كـل مكان .

إنّ الأفـكار العـلمية التـطبـيقـية المطروحة في كـل مرحـلة تـكـون مُـلكاً لصاحـبها إلى حـين ثم تـصبح مُشاعة ، فـبراءة الإخـتـراع حـق وإمتياز خاص يُمنح بشكل رسمي للمخـترع ويُـمنع الآخـرون من صناعة أو إستخـدام أو بـيع أو عـرض ذلك الإخـتراع دون موافـقة صاحـبه ، ولكـن بعـد طرح المُـنـتـَـج في السوق وتـداوله لفـترة زمنية يصبح مألوفاً ولم يعـد يثير الدهـشة في كـل بقاع الدنيا ، وبمرور السنين قـد يظهر في الساحة مَن بإمكانه الإتيان بمثـله ويـبدأ ذلك الإمتياز بالتلاشي ويصبح مباحاً لمَن يشاء ، فاليوم لا يُـمنع أحـد من إنـتاج المصباح الكهـربائي رغـم أن مخـترعه هـو توماس أديسون ، كـما ليس ممنوعاً عـلى أحـد أن يصنع راديو أو دراجة هـوائية أو غـيرها دونما حاجة إلى مراجعة أو إستـئـذان مخـترعـيها الأوائل . وهـكـذا المُـلـْـكـيّة الفـكـرية هي حـق إمتلاك شخـص ما لأعـمال الفكـر الإبداعـية ولكـن بعـد فـترة تـرفع الحـواجـز والقـيود وتـصبح مشاعة مثـل صورة موناليزا وتمثال أسد بابل التي يمكـن لأي فـنان اليوم أن يقـلدها ويـبـيعها أو ينـتـقـدها دون الرجـوع إلى مصدرها الإيطالي والكـلداني ، والشيء ذاته ينـطبق عـلى النـظريات الفـكـرية والفـكـر الديني فهي متيسّرة امام الناس بسهـولة أكـثر بل مجاناً ولا تسْلـَم من التعـليقات فاليوم يُـنـتـقـَـد الفـكـر الديني وآخـرون عـلمانيون يَـدْرسونه ويُـدَرّسونه وينـشرونه كـما يحـلو لهم عـلناً وأمام رجال الدين ( أصحاب الفـكـر الديني إنْ جاز التعـبـير ) الذين يطـّـلعـون عـلى تلك التـفـسيرات فـيمرّون عـليها مـرّ الكـرام أو يُـبدون وجهة نـظرهم بأسلوب حـضاري يستـنـد إلى حجج منطـقـية أو تأريخـية أو فـلسفـية بعـيداً عـن أروقة المحاكم ودون خـصام وشتائم بـين الطرفـين . وهـكـذا يمكـن لكل منا اليوم أن ينـتـقـد نـظرية العـقـد الإجـتماعي دون أن يـثير حـفـيظة جان جاك روسو أو عـشيرته ، كما يُمكـنـنا إظهار سلبـيات جـمهورية أفلاطون أو نـتـبنـّاها نـظاماً إدارياً أو سياسياً رائعاً لبلـدنا ولا نرى حاجة إلى إبلاغ ورثـته ، بل لا نأبه بهم ومعهم كل اليونانيّـين لو زعـلوا ، وبَديهيّ أن المدغـشقـريّـين ليس لهم حـق الإعـتراض .

إن االمناهج السياسية الدكـتاتورية منها والديمقـراطية ، الأصولية والليبرالية وحـتى المكـياﭬـيلية هـي مجـموعة أفـكار يقـتـنع بها صاحـبها وقـد يقـتـنع بها آخـرون أو يرفـضونها ، ثم ماذا ؟ إنها أفـكار مكـتوبة عـلى صفـحات الأوراق موضوعة عـلى الرفـوف أو مخـزونة بأجـهزة التسجـيل أو متيسّرة في المواقع الإلكـترونية ومَن يريد قـراءتها فـليقـرأها ومَن لا يريد مطالعـتها فـهو حـر غـير مُـجـبَـر ، وقـد تـدَرّس في تلك الجامعة أو لا تلقى رواجاً في كـلية أخـرى ، وفي كـل الأحـوال فهي لم تـعُـد مُـلكاً وحَـصراً وأسيرة عـند البعـض ومحـروم منها البعـض الآخـر بل هي متاحة للجـميع إنْ كان للإطـّلاع عـليها فـقـط أو للإقـتـداء بها أو لنـقـدها أو لتـفـسيرها أو لنشرها وربما لحـجـزها أيضاً . ومن بـين هـذه : حِـكايات ماركس وأقـوال لينين ومراحـم ستالين ( إيه وبعـدين ؟ ) هـل أورَثـوها لفلان وفـستان ، هـل سُـجِّـلتْ في دوائر الطاﭙو بإسم علاّن ، هـل صارت مُـلكاً صِـرفاً لشخـص كـقـميص عـثمان ، يتخـذها حجة في كل زمان ومكان ، ولا يمسُّـها أحـد حـتى أهـل البـيت والخلان ؟ إنها آراء وليست إخـتراعاً ، أقـوال وليست آياتٍ ، نـظريات وليست قـوانين قـد تــُـقـبَل أو تــُـرفـض أو تــُـناقـش أو تــُسدَل عـليها الستارة . إنّ كل واحـد منا له الحـق في عـرض رأيه بها بأسلوب عـصري سواءاً كان مضاداً أو موازياً وسواءاً كان هـناك مَن يتـفاعـل معه أم لا ، وليست مُـلكاً صرفاً لأحـد ، والمسألة برمّـتها ليست عـضلات مفـتولة لـذا فإنها لا تـتـطـلـّـب منازلة عـلى حـلبة ولا صراعاً في ميـدان ، ولكـن المسألة هي كلام ومنطق وتبادل آراء في قاعات الثـقافة والحـوار ولكـل ساحة رجالها فأعـضاء الـﭙـرلمان في أروقـتهم السياسية  والمتـزلجـون في مرتـفـعاتهم الثـلجـية  والملاكـمون في قاعاتهم الرياضية  ، هـذا عـلى صعـيد الأفـكار .

أما عـلى صعـيد الأفـراد ! فإذا وصفـْـنا الأخ ﭽـينـﮒ ﭽانـﮒ ﭽـونـﮒ الصيني مثلاً أو الصديق الآخـر ﭽان ﭽاي ﭽـي الـﭬـيـيتـنامي وقـلنا أن الحـروف (( ﭽـ – ﮒ )) التي تـكـرّرتْ في الأسماء تلك ليست حـروفاً عـربـية ، فإن قـولنا هـذا ليس إهانه أو ذماً كـما ليس تجـريحاً وتشهـيراً بل هـو تصوير الحـقـيقة وبسط المفـردات عـلى طاولة البحـث بهـدف تحـليلها والإستـفادة منها ، فـلماذا يزعـل أخـونا ستـيخانوس باكـوس يوخانوس إبن عـم خـياط الشروال الذي يلبسه إستيفانوس فـيتعـثـر وهـو يمشي عـلى ضوء الفانوس ؟ وإذا ذكـرنا شيئاً عـن المنبّه الشرطي في تجـربة العالم الروسي ﭙاﭬـلوف فـما هـو مبرّر إنعِـقاﭺ أخـواننا الطاجكستانيّـين أو الأرمينيّـين ؟ هـل يُـتـوَقع بل هـل يُـعـقـل ذلك من أناس يُـفـترض بهم أن يكـونوا منـتصبي القامة سويّـي التـفـكـير سليمي المنطق معـتـزّين بكـرامتهم واعـين لِما تحـت فـروة رؤوسهم ؟ المثل الألقـوشي يقـول : قاي قـذليه صارُخ لـْـدوقا – لماذا إحـترق شعـيرك عـلى الصاﭺ – والمقـصود به ما الذي أثارَك والموضوع لا يخـصك ؟ إنّ الذين يزعـلون في موضوع يجهلونه ، ولا يعـرفـون أين تـدور أفلاكه إنما يمثـلون تمثيلية رائعة أمام مَن لم يـدرسْ الإخـراج  حـقاً إنه تـرف الحـرية . إنّ أقـصر وأوْضحْ طريقة لكـشف المعادن هي حـين تـحـكـّـها بـالورق المزجَّج ( كاغـد جام ) الخـشن وستعـرف أنّ زنجاراً يتـناثر من بعـضها  ، واللمعان يتلألأ في غـيرها ! وسوف تـتأكـد أنّ التـنـكة الفارغة تعـطي صفـيراً يسمعه الناس عـند مهـبّ الريح .

إنّ العِـقـد تـَـقـَـطـّعَ وتبعـثـرتْ فـصوصه بسبب رداءة الخـيط والخـرز ، وكـما ذكـرنا سابقاً أن الـ ( Main Switch السويـﭻ الرئيسي ) إنـطفأ ولا فائدة ترتجى من السـويـﭽات في الغـرف ، فـما الذي يثير البعـض وهُـم ليسوا بآكـلين ولا شاربـين ولا مشاركـين ولا متحِـدين ولا منفـصلين ولا مدعُـوّين ولا متهـمين ولا مهـتمّـين ولا بائعـين ولا مشتـرين ، لا بل البعـض الآخـر متـلوّنين ناكـري أصالة شعـبهم ولم يقـرؤوا كـتاباً واحـداً للأولين ؟

بقـلم : مايكل سـيـﭙـي / سـدني

You may also like...