الأفعى التي لدغت المسيحيين في الموصل عام 1959 ورقدت، ثم إستيقظت ولدغتهم مرة ثانية عام 2014، هل ستُقلع أنيابها بعد تحرير المحافظة، أم ستنفخ سمومها وتجهزعلى بقاياهم ؟؟؟

 

وقد أُعلنت بشارة إنطلاق عمليات تحرير مدينة الحدباء التاريخية والبلدات المتناثرة حولها، تعود بي الذاكرة إلى عقود خلت عندما إنبثقت ثورة  14 تموز عام 1958 بعد سقوط النظام الملكي، وحققت إنجازات كبيرة على الصعيد الزراعي والصناعي والتجاري والعمراني وفي كافة المجالات الأخرى، الأمر الذي أثار حفيظة بعض القوى المعادية لتطور وتقدم العراق، فبدأت ماكنة الإعلام المشبوهة بتهيئة الأجواء لإجهاض تلك الثورة الفتية.

وسنحت الفرصة حين إستغلت بعض التنظيمات القومية عقد مؤتمر لأنصار السلام في الموصل عام 1959، لإعلان التمرد على الحكومة المركزية في بغداد، بقيادة أمر موقع الموصل العقيد الشواف، بتشجيع وتمويل من بعض الحكومات العربية ودول غربية، فأخذت إذاعة محلية في المدينة تنشر البيانات العسكرية وتناشد بقية القوات المسلحة بالعصيان.

وبعد القضاء على تلك الحركة الإنقلابية، إنهارت الأوضاع الأمنية ووقعت أحداث دموية مؤسفة، إرتكبت خلالها جرائم بشعة لا تُقرها الشرائع السماوية ولا التقاليد الإجتماعية، وسرت شائعات بأن جماعات غوغائية وأخرى مشبوهة إخترقت الجموع الغاضبة المؤيدة للزعيم قاسم وقامت بتلك الأفعال التي إقشعرت لها الأبدان.

وحينما هدأت الأمور وعاد الإستقرار، دبَّ النشاط في تلك الأحزاب القومية من جديد، خاصة بعدما تغير المسار السياسي لقائد الثورة، فطفت على السطح مخلفات الماضي، وبدأت عملية إغتيالات واسعة في المدينة شملت القوى الوطنية المتهمة بالشيوعية والمسيحيين بشكل خاص، فقتل من قتل وهرب من الموت من هرب إلى بغداد ومدن أخرى، وكانت عائلتي من ضمن المهاجرين إلى العاصمة .

ومن سخريات القدر أن أجهزة الشرطة في المدينة كانت تتعاون مع القتلة، فتكتب تقاريراً ساخرة عن جرائم الإغتيال تقول” ألقينا القبض على الجثة والقاتل مجهول الهوية . ”

وهكذا دفع المسيحيون الموصليون الثمن باهضاً لعمل لم يرتكبوه وجريمة لم يقترفوها، غير كونهم الحلقة الأضعف في مجتمع متدين، فيه المتسامح وفيه المتزمت الذي يحترم الأقوياء ويضطهد الضعفاء من الديانات الأخرى.

وفي بغداد كان الزعيم قاسم قد إتخذ إجراءات متسرعة بإبعاد الضباط المخلصين، وفسح المجال أمام بعض الشخصيات المناهضة له للتغلغل إلى مراكز حساسة، حين أظهروا ولائهم له وتأييدهم المخادع لسياسته، فرفعوا شعارات مضلِلة من أجل الإلتفاف عليه وتهيئة الظروف الملائمة لإسقاطه. وهو الأمر الذي مهَّد الطريق لتنفيذ حركة 1963 التي وجهت ضربة موجعه للقوى الوطنية ذهب ضحيتها المئات، ووضع الألاف في السجون والمعتقلات ودخل الشعب العراقي في نفق مظلم ، لم يرى النور بعده ليومنا هذا .

وبعد سقوط النظام السابق عام 2003 ، تكرر ذلك السيناريو في معظم أنحاء الوطن، ولكن بأساليب متباينة ومن قبل جماعات تكفيرية ملثمة وأخرى متطرفة تحمل أجندات طائفية، قامت بقتل وتهديد وإختطاف وتهجير المسيحيين وإغتصاب دورهم وممتلكاتهم، في الوقت الذي يعلم فيه الجميع بأننا أصحاب الأرض الأصلاء ومكون مسالم لا ناقة لنا بما جرى من أحداث ولا جمل .

مع إحترامي لأبناء أم الربيعين الكرام وعشائرها الأصلية وإستثنائي من جرفهم تيار داعش، فخانوا العهد وغدروا بجيرانهم وأصدقاء طفولتهم وشركاء وطنهم، يبدو أن زلزال سقوط  محافظة نينوى عام 2014، قد أيقظ تلك الأفعى الخبيثة من سباتها بعد 55 عاما، لتلدغ بحقد ما تبقى من المسيحيين الصابرين وبقية المكونات المغلوبة على أمرها في مدينتهم التاريخية وفي بلداتها العريقة، من الذين رفضوا مغادرة أرض أباءهم وأجدادهم  طيلة العقود الماضية .

وفي خضم المشهد الأمني الغامض لعمليات التحرير والرؤيا الضبابية للمستقبل أمامنا، نخشى إستمرار ذلك الوحش الإسطوري بملاحقتنا وهو ما زال ينهش بكيان شعبنا منذ عقود وقرون، ونترقب بقلق بالغ ماذا سيحل ببلداتنا بعد عمليات تحرير نينوى في أجواء صراع قومي وطائفي وعرقي متجذر في الأرض، وإتفاق مكونات وأحزاب وتحالفات لتوزيع الأدوار وتقسيم الغنائم، إضافة إلى أطماع السلطان العثماني ومحاولته فرض إرادته وتحقيق أحلامه بمساندة عدد من الدول العربية وبعض الشخصيات العراقية المتنفذة، يرافق كل ذلك غموض الموقف الأمريكي . هذه التناقضات ربما ستفضي إلى مواجهات خطيرة خلال وبعد عملية التحرير ونشوب معارك جانبية لا سامح الله، تكون المكونات الصغيرة وقود نيرانها، فتضيِق الخناق على ما تبقى من المسيحيين القابعين على الحافات الأخيرة من وطنهم الشهيد، وقد تُعجِل في رحيلهم . وبذات الوقت أتمنى أن أكون مخطاً في تشاؤمي، فيتم تحرير مدينة الموصل وكافة بلداتها بسواعد القوات الأمنية دون خسائر بشرية ودمار الدور والبنية التحتية، فيعود كافة أبناء شعبنا الذين شردهم داعش إلى بيوتهم وأعمالهم ومزارعهم ليعيش الجميع بسلام وإستقرار وأمان.

لقد دخل شعبنا منذ عقود مرحلة الإنقراض من وطنه، وفي دول الإغتراب فقدان هويته، وفي مجتمعاتها إضمحلال تراثه وتلاشي تقاليده وزوال لغته، والمهجرون عالقون في المخيمات يبكون دماً ويعيشون مهانة، بينما نحن ما زلنا في نقاش طوباوي ممل، وتراشق إعلامي مخجل على ((( التسمية ))) ، أدت بنا إلى التشرذم والتشتت والضياع، لأن البعض ما زال يؤمن بنظرية مبتكرة حديثاً تقول ” بأننا أشقاء ولكن، إسمكم غير موجود في سجلات النفوس، ولا تملكون أرضاً في دوائر الطابو، لذا لستم شركاء لنا في إرثنا “، وفي الشعارات ” أنتم موجودون معنا “، بينما الكل يؤمن بأننا شعب مسيحي واحد بكافة مسمياته الجميلة وجذوره التاريخية العريقة التي نعتز بها جميعاً، وما يفرقنا لا يصمد أمام المشتركات الكثيرة بيننا . ” رحم الله إمرء عرف قدر نفسه “

 بقلم : صباح دمّان  

 17- 10-2016

 

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *