الأعتداء على اهالي برطلة سوف لا يكون الأخير في مسلسل الأعتداءات

habeebtomi@yahoo.no

العراق الاسم الحديث لبلاد الرافدين او (Mesopotamia) وهي التسمية اليونانية التي تعني بلاد ما بين النهرين و كما عرف سابقاً قبل تأسيس الدولة العراقية الحديثة بعد قيامها على اثر انحلال الأمبراطورية العثمانية ( الرجل المريض ) وكنتيجة مباشرة للحرب العالمية الأولى  ، وقبل ذلك كانت بلاد ما بين النهرين قبلة لهجرة الأقوام والأعراق من مختلف اصقاع الأرض في العالم القديم لما كان فيه من مياه وفيرة وخيرات كثيرة وما يتمتع به من تقدم عمراني وحضاري في تلك العصور المظلمة . ونتيجة  لتلك الهجرات المتعاقبة والحروب والأتصالات التجارية عبر الزمن تنوعت اللغات والثقافات والأقوام والأديان في هذه البقعة من الأرض التي اشتهرت بنهريها الخالدين دجلة وفرات .

من الحقب الطويلة التي مرت على العراق كان الحكم الأسلامي اعتباراً من الخلفاء الراشدين الى الحكم الأموي مروراً بالحكم العباسي والمغولي .. والعثماني وصولاً الى الحكم الملكي وأخيرا الحكم الجمهوري بتطلعاته القومية العروبية والدينية الإسلامية ، وقد دامت ولا زلت مستمرة تلك الحقبة التي يمكن ان نطلق عليها بالحكم الإسلامي منذ  1400 سنة .

ولكي نفهم طبيعة العلاقة بين المسلمين وغيرهم من المكونات الدينية في هذه القرون الطويلة يمكن ان نعود الى فترة الولادة والتكوين للديانة الأسلامية ، حيث قرأنا ان الجزيرة العربية قبل الأسلام كانت واحة اجتماعية تعددية تعيش  فيها مختلف الأديان والمعتقدات منها المسيحية واليهودية وعبدة الأوثان والاصنام .. اي كانت الحرية الدينية مكفولة للجميع وكانت الكعبة تمثل ملتقى هذه الأديان دون تمييز او إقصاء ، لكن بعد مجئ الديانة الأسلامية اصبحت تلك الجزيرة تستوعب الديانة الواحدة وهي الديانة الأسلامية لا غيرها ، فكان على اتباع تلك المكونات اللاإسلامية منهم من آمن بالدين الجديد او تركوا البلاد او تعرض رجالهم من البالغين الشباب للإبادة الجماعية كما حدث لقبائل اليهود في تلك الديار .

من هنا سوف تلقي تلك السياسة بظلالها على ما سيأتي من القرون ، حيث جرى التعامل مع السكان الأصليين في البلاد المفتوحة شمال افريقيا ومصر وسورية والعراق ، معاملتهم وفق احكام اهل الذمة إن هم ظلوا متمسكين بعقيدتهم الدينية ، ليكونوا بذمة وحماية المسلمين ، وهذه النظرية الأستعلائية جعلت من افراد قوات الجيش العربي الفاتح يتمتعون بمنزلة أعلى مرتبة من بقية مواطني البلد ، لا سيما الذين سمح لهم بالبقاء على معتقداتهم الدينية ، وهكذا مع تلك العقيدة في التفوق اصبح المسلم يستصغر غير المسلم ابن بلده ، وكمثال غير حصري فإن المسلم يستطيع ان يتزوج مسيحية او يهودية ويترتب عليها ان تتنازل عن عقيدتها الدينية ، بينما لا يحق لليهودي او المسيحي ان يتزوج من مسلمة إلا في حالة تغيير دينه الى الديانة الأسلامية .

إن هذه المعادلة غير العادلة وغيرها من الحالات غير المتكافئة في التعامل الأنساني والتي هي مدونة بأحكام اهل الذمة قد جعلت المكونات غير الأسلامية تشهد هبوطاً يكاد يكون دائمياً في اعدادها على مر العقود والأجيال وذلك تهرباً من تلك الأحكام ، وفي مقابل ذلك تزداد اعداد المسلمين طردياً مع نقصان تلك المكونات اللامسلمة .

 بعد هذه المقدمة المزعجة نقف على الأعتداءات التي تتواتر بشكل دائم على ابناء شعبنا المسيحي من الكلدان والسريان والآشوريين ويصل الدور الى الصابئة المندائيين والأيزيدية ، و تتراوح تلك الأعتدات بين الأعمال الأرهابية من قتل وتشريد ونسف كنائس واختطاف وقطع ارزاق ، وهذه الأعمال من اختصاص الأخوة السلفيين ، فيما اعمال الأعتداء اليومي والعنف الأجتماعي كالتفرقة في التعامل في دوائر الدولة وإسماع الكلمات الأستفزازية والجارحة والدعوة الى ثقافة الكراهية والحقد ضد الآخر وتكريسها في عقول الأجيال المسلمة المتلاحقة لقرون طويلة والتي تفيد بأن العرب المسلمين هم خير امة اخرجت للناس ..

في هذا السياق نقرأ في موقع عنكاوا مثلاً :

مسلحون يعتدون على اهالي برطله والاجهزة الامنية ترفض التدخل

مرة أخرى تتكرر عمليات الاعتداء ضد أبناء شعبنا في برطلة من قبل بعض الخارجين عن القانون. اذ قامت قبل عدة أيام بعض العناصر القادمة من خارج برطلة وهم في حالة من السكر الشديد بالاعتداء بالسلاح على مجموعة من شباب برطلة المسالمين.
ولم يكتف المعتدين بذلك بل قاموا بالاتصال بجماعات اخرى من خارج برطلة، لمساندتهم والغريب في الأمر أن هذه الجماعات جاءت بسياراتهم الخاصة إلى البلدة وسلكت الطريق الرئيسي مع أسلحتهم التي حملوها بشكل ظاهر وأمام أنظار الأجهزة الأمنية بمختلف أنواعها لكنها لم تحرك ساكنا.
ووقع شجار كبير استمر لمدة ساعة على الأقل في داخل اكبر وأكثر الأسواق ازدحاما في برطلة وقد طلب الاهالي النجدة من الأجهزة الأمنية لكن لم يلب احد منهم الطلب رغم ان ذلك يدخل في صميم عملهم.

حسناً هل هو الحادث الوحيد الذي نقرأ عنه ، ام انه مسلسل متواتر ومنسجم مع السياسة العامة ، قبله كان اختطاف ثلاثة اشخصا مسيحيين في كركوك وابتزاز عوائلهم بمبالغ طائلة ، ونقرأ عن عن انفجار سيارة مفخخة وهي في طريقها الى برطلة ، وقبل ذلك ايضاً كان هنالك اعتداء على شباب في عنكاوا ، وغالباً ما نسمع عن رويات التعامل الردئ والأستخفاف في التعامل في دوائر الدولة ونقرأ ونسمع عن الضغوط المسلطة على الموظفين المسيحيين لترك وظائفهم في الموصل وغيرها ، ونقرأ عن مضايقة المسيحيات واجبارهن على ارتداء الملابس وفق الذوق الأسلامي . ومن حقنا ان نتساءل ما دمنا نعيش في كنف المسلمين :

هل يتعاملون معنا ومع اتباع الأديان الأخرى غير المسلمة بالحسنى والتعايش والتفاهم ، أم بعقلية إقصاء الآخر والحرب معه الى اجل لا نهاية له ؟

إن هذه المضايقات وفرض الثقافة الأسلامية على المسيحيين وغيرهم قد حدا بهذه المكونات ان تعيش بجنتها رغم انها ضيقة وفقيرة وهي البلدات والقرى المسيحية لتمارس طقوسها وحياتها الدينية والأجتماعية بمنأى عن التعصب والتشدد الأسلامي ، لكن مع ذلك تجري محاولات كبيرة لتغيير البنية الديموغرافية لهذه المناطق بغية القضاء على تلك البقية الباقية من هذه المكونات المسكينة التي اوقعها حظها العاثر بين اخوانهم  المسلمين .

 إن السيد اثيل النجيفي محافظ نينوى وأهل مدينة الموصل بشكل عام لا يقبلون بإنشاء محافظة مسيحية بحجة ان ذلك يعتبر طريقا لتقسيم المجتمع دينياً وعرقياً وطائفياً، لكن من الطرف الثاني تقوم السلطة في الموصل والتي يقف على رأسها الأستاذ اثيل النجيفي نفسه يقوم بمحاولات للأخلال في البنية الديموغرافية التاريخية لتلك البلدات المعدودة الباقية للمسيحيين فنقرأ عن احالة مئات المنشات السكنية لتشييدها في هذه البلدات لا سيما في برطلة وبغديدا وهي محاولات مشبوهة لتبديد اوصال هذا المكون ، فكيف تنسجم تلك التصريحات بالحرص على بنية المجتمع الواحد مع المحاولات لتمزيق الوضع الديموغرافي وتحطيمه كما حدث في تلكيف ؟

 لقد استبشرنا خيراً بعد هزيمة الحكم الدكتاتوري ونحن ابناء المكونات الصغيرة تفاءلنا بقدوم حكم ديمقراطي علماني ليبرالي يقف على مسافة واحدة من كل المكونات العراقية الصغيرة والكبيرة دون محاباة او تفرقة ، لكن توقعاتنا كانت غير سليمة ، إذ بعد ان خرجنا من حكم عروبي كان قد ادخلنا في معمعة الحروب الداخلية والخارجية ، وقعنا في مصيدة حكم ثيوقراطي يعمل على إنشاء نموذج لدولة يتحكم فيها الأسلام السياسي .

إن هذه الحالة ليست خاصة ببلدة برطلة او مدينة الموصل او عموم العراق ، إنما الحالة تتخطى الحدود لتعبر الى منطقة الشرق الأوسط عموماً حيث يشترك الوطن العربي بهذه الخاصية ، فالمكون المسيحي في هذه الدول بات مهدداً في وجوده ، فبعد الخريف العربي لا يمكن التنبؤ بما يخفيه هذا الربيع من شتاء قاسي وقارص ، وفي كل الأحوال فإن المسيحية في هذه الأقطار تترنح بين الأصولية الأسلامية والدولة الثيوقراطية التي تتجمل بالديمراطية ومجتمع اسلامي متثقف بخطابات يومية تبعث على الكراهية فيقرع اسماعنا حينما يدعو الله الى تدمير غير المسلم فيقول : رمّل نساءهم ويتّم اطفالهم وجمّد الدماء في عروقهم واجعلهم وأموالهم ونساءهم وذراريهم غنيمة للمسلمين .

اجل حينما تسمع هذا الحطاب من المنابر العالية سوف تشعر بأنك تعيش في غابة وفي كل زاوية تتربص بك الأخطار وكما يقول المطران لويس ساكو في مقاله الموسوم : المسيحيون في الشرق الأوسط ، بين إسلام الدولة والأصولية فيقول :

(في الواقع ،  كان مسيحيو الشرق الأوسط  قد أوجدوا طريقة للحياة modus vivendi ، أكثر أو أقل إيجابية ، في ظل إسلام دولة.  وعاشوا منذ 14 قرنا في سلام لا بأس به  وكيفوا وضعهم مع  الأغلبية المسلمة دون الاعتماد على أحد. عالمين من  دون  تبسيط  أومبالغة  ان الاسلام دين ودولة،  ولا  يمكن فصلهما حتى في البلدان  التي  تسمى نفسها علمانية. في الاسلام  لا يوجد في الواقع فصل بين القوتين ، كما هو الحال في الغرب.) انتهى الأقتباس .

إن الشعب الكلداني وبقية مسيحيي العراق يحدوها الأمل في ان يسود الحكم الديمقراطي العلماني في العراق وأن تحرك قواتها حينما يجري اعتداء على الناس الآمنين إن كانوا مسلمين سنة او شيعة او مسيحيين ، من الكلدان او السريان او الأرمن او الآشوريين ، او من الأيزيدية او غيرهم من الأقوام ، وإلا ما هي وظيفة الحكومة إن لم تبادر الى نجدة المظلومين ؟ كما يجب على هذه الحكومة ان تقف على مسافة واحدة من الجميع وان تحترم خصوصية هذه المكون وغيره من اتباع الديانات غير المسلمة ، وليتسنى لنا نحن الكلدان وغيرنا ان نساهم جميعاً في بناء العراق وتحت مظلة الامة العراقية والهوية العراقية الأصيلة مع احترام كل المكونات الدينية والقومية والأثنية والطائفية دون محاباة ودون تفضيل مكون على آخر مهما صغر او كبر حجمه .

 حبيب تومي / اوسلو في 29 / 09 / 11

 

You may also like...