اضطهاد الكلدان والسريان بشقّيهم قبل مئة عام / الحلقة السابعة

 

مقتل مسيحيي  سعرد وضواحيها  بضمنهم

المطرانين الكلدانيين أدّي شير وتوما رشو

 ننقل وبتصرُّف صياغي لا ينتقص من المضمون شيئاً وكما ورد في كتابه (ص102 –  111): مدينة “سعرد” إحدى مدن جبل قردو ضمن ولاية “بدليس” تسكنها غالبية كُردية مسلمة، ويشاركهم السكنَ فيها كلدان ويعاقبة وأرمن ارثوذكس، وبالرغم من وقوع سعرد في قلب المنطقة الكُردية، إلا أنَّ عموم سكانها يتكلمون العربية الى جانب اللغة الكُردية، ولكنهم بالنتيجة يتكلمون الكُردية والعربية ولغة البلاد التركية، أما الساكنون في القرى المُحيطة بها، فكُلٌّ من هذه الطوائف تتكلم لغتها، حيث يتحدَّث الأكراد الكُردية والأرمن الأرمنية والكلدان الكلدانية واليعاقبة الآرامية. وإذا تعرَّض أيٌّ من هذه الطوائف لخطرٍما فيجري الإستنجاد بالأكراد لأنهم الأغلبية في منطقة جبل قردو.

في شهر حزيران عام 1915م سرى لهيب نار الإضطهاد الذي أثارته الدولة العثمانية في عموم البلاد ضِدَّ الطائفة الأرمنية خاصةً والطوائف المسيحية الأخرى عامة، ووصل الى سعرد، وكان ارمن منطقة جبل قردو الواقعة في الجزء الشمالي من بلاد بين النهرين هم  المستهدفين  باستئصال شأفتهم على غِرار ما حدث في مدن ارمينيا ومنطقة الأناضول بأسرها. وكانت مدينة سعرد مُحاطة بأكثر من ثلاثين قرية يسكنها الكلدان إضافة الى دير مار يعقوب الحبيس الشهير الذي يمتد تاريخ إنشائه الى القرن الرابع الميلادي. إليه نقل ثاني بطاركة الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية مارعبديشوع الرابع مارون 1555 – 1567م مقرَّ كُرسيِّه في سنوات بطريركيته الأخيرة، وفيه دُفن بعد انتقاله الى الحياة الأبدية. كان الدير يحوي مكتبة عامرة  منسقة وزاخرة بمختلف الكتب والمخطوطات الثمينة منذ أيام السعيد الذكر المطران “بطرس برتتر”.

في الثلث الأخير من حزيران 1915م، فوجيءَ مسيحيو سعرد بتطويقهم من  قبل مُسلمي المدينة، وبأمر من حاكمها، القوا القبض في البداية على الرجال وزجوهم بالسجن، وهنالك شرعوا بإهانتهم وبتعذيبهم بشتى أصناف العذابات، ثمَّ أخرجوهم من السجن وأجهزوا عليهم جميعاً قتلاً وذبحاً، وقد نجا عددٌ قليل منهم حيث سنحت أمامهم فرصة الهرب. وكان ضمن حشد المعتقلين السعيد الذكر المطران أدّي شير، إنما أُطلق سراحُه لفترةٍ من الزمن، طمعاً في الإستيلاء على أمواله والودائع التي كانت مؤتمنة لديه، وبعد ذلك يُعاد القبض عليه ويُقتَل. ولكنَّه حين سنحت له فرصة للهرب بمساعدة بعض أصدقائه، هرب في الليل بصحبة القس يوسف من قرية “بسكند” ومعهما خادمُه، وتوجَّهوا صوب الموصل. وفي صباح اليوم التالي، انكشف أمرُ هروبه، وأبلغ المتصرِّف بذلك، فأرسل في الحال عساكر في إثره لإلقاء القبض عليه، كما أبرق الى مفارز أمن الطرق وحرس الحدود، لكي يمنعوه من اجتياز الحدود لكي لا يهرب فينجو. ونتيجة لتلك الإحتياطات تمَّ إلقاء القبض عليه وعلى مُرافقَيه قبيل أن يجتازا حدود ولاية بتليس. وإذ تأكَّد مرافقاه أن لا جدوى في نجدته تركاه وشأنه وذهبا.

وتقدَّم آمر المفرزة التي ألقت القبضَ عليه، وأخرج من جيبه أمر إعدام المطران أدّي شير وتلاه على مسمعه. لم يهتز ولم يضطرب لسماعه الأمر الصادر بموته، لا بل طلب مهلة قصيرة ليستعِدَّ للموت. وقام بتسليمهم ملابسه الأسقفية التي كانت في الصناديق التي معه، حيث كان قد تنكَّر بغير زيِّه. ثمَّ ركع وصلّى في خشوع، ولما انتهى من صلاته توجَّه نحو أفراد المفرزة وقال لهم بثبات: باستطاعتكم الآن إتمامَ واجبكم. فصوَّبوا نحوه اسلحتهم وأطلقوا عليه النار. فلما سقط مضرَّجاً بدمه، تقدم إليه رئيس المفرزة وحَزَّ رأسَه، واتى به الى الحاكم ليؤكد له مقتله، وهذا بدوره أرسله الى الكنيسة وألقي في ساحتها للفرجة ولمزيدٍ من الإستهزاء والسخرية ولإرهاب المؤمنين، ولكي يدب الرعب والفزع في نفوس المسيحيين من النساء والأطفال، متذكرين فعل القتلة الشنيع.

يقول ماراودو، إنَّ ما ذكرته اعلاه بصدد الشهيد أدّي شير ومشاهد اخرى، رواه لي الشاب السعردي بطرس حنا الكلداني حيث عاين المشهد بأم عينيه وسمعه بأذنيه، حيث إنَّ موقع داره كان مقابل كنيسة الكلدان الجديدة، كما أنَّه ووالدته سيدي واخاه جرجس عاينوا وسمعوا عن كثب تعذيب القس كوريال، فقد كووا جسده بالأسافيد، وهو يتضرع الى يسوع وامه مريم،. وبالإضافة الى ذلك يقول الشاب بطرس بأنَّه شاهد كسر سيقان الأطفال، وهذا ما أكَّدته لنا نساء كثيرات بأنَّهنَّ شاهدن المنظر المفزع، وقد دفعت إحدى النساء مبلغاً من الفضة للأكرادلقاء إعطائهم إياها رأس المطران.

وهنالك كهنة فضلاء آخرون قُضيَ عليهم نتيجة التعذيب القاسي الذي تعرَّضوا له من قبل المجرمين الأفاكين وهم: كوركيس وعازار البطمسي العجوز والقس هرمزد وكوريال الذي أتينا على ذِكره والذي لم يبطل من ذِكر اسمَي يسوع ومريم طوال مدة تعذيبه الوحشي. ناهيك عن الصبيان الذين بُترت سيقانهم بالفؤوس والسواطير ولم يسلم الرضع من الرضِّ بالحجارة. قاموا بترحيل النساء والصبايا الناجين والأطفال الى صور في مقاطعة ماردين، ولكثرتهم تمَّ ترحيلُهم على ثلاث وجبات، وقد داهم الموت غالبية المُرحلات وخُطفت الكثير من الفتيات، أما السبب في الوفاة فكان بسبب اقتياد الضحايا في طريق وعرة وليس الطريق السالكة، بغرض تضليلهنَّ وتعذيبهنَّ، والبقية التي وصلت الى صورجرى بيعهنَّ فيها وفي القرى الكردية الأخرى، وبذلك أصبحن إماءً للأكراد. ومع ندرة النخوة والشهامة في رجال ذلك الزمن الرديء، إلا أنَّ رجلاً متقدماً في العمر فاضلاً من أهل صور يُدعى وهبي له الفضل في إنقاذ حياة أكثر من أربعين أمرأة من تلك المنكوبات، حيث استطاع أخذهنَّ الى داره، مقدِّما لهن الحماية ومستلزمات الحياة لمدة أشهر عديدة، ثمَّ بدأ يُعتق ويُحرر الواحدة تلو الأخرى مانحاً إياهنَّ حرية الذهاب الى حيث يرغبن. فتوجهن الى ماردين وقدِمنا إلينا، فوضعناهنَّ في الملجأ مع أخريات عديدات كنّا قد اشتريناهنَّ وأطفالهنَّ من الأكراد، وإذ ضاقت بهنَّ بناية كنيستنا، استأجرنا بنايتين لإيوائهنَّ الى جانب تزويدهنَّ بالكسوة والطعام. وبسبب كثرتهن الذي أحدث إحراجاً لبعضهنَّ، فقد فضَّلت الكثيرات منهنَّ المغادرة، فالبعض منهنَّ اخترن الذهاب الى حلب والبعض الآخر الى الموصل. فزوَّدنا المغادرات بما يحتجن فضلاً عن نفحهنَّ بنفقات الطريق، وقد قمنا أيضاً بإرسال بعضهنَّ الى نصيبين، ولم يهدأ لنا بال، مُحاولين بشتى الأساليب والوسائل لإنقاذ المتبقيات بأيدي الظلاميين الأكراد، حيث كانت القرى الكردية مليئة بالمسبيات السعرديات والمخطوفات من القرى المحيطة بسعرد، ناهيك عن المسبيات من قرى المناطق الأخرى.

نبذة عن الشهيد مار أدّي شير مطران سعرد

وُلدَ في الثالث من آذار 1867م في قرية شقلاوة التابعة لأبرشية كركوك قبل انفصال أربيل عنها بقرار من سينودس الكنيسة الكلدانية المنعقد في بغداد عام 1967م،  وجعل اربيل ابرشية مستقلة، والحقت شقلاوة بها لوقوعها ضمن محافظة أربيل. في العماذ دعاه واداه صليبا. وحين أكمل دراسته الإبتدائية، اُرسِل عام 1880م الى معهد مار يوحنا الحبيب الكهنوتي الدومنيكي في الموصل. بعد إكماله الدروس الكهنوتية المقرَّرة، رُسم كاهناً في 15 آب 1889م بوضع يد السعيد الذكر مار ايليا الثاني عشرعبو اليونان بطريرك بابل على الكلدان. خدم في كركوك إثني عشر عاماً، إذ في 15 آب 1902م انتُخِب اسقفاً لأبرشية سعرد خلفاً لمارعمانوئيل الذي تبوَّأ السدة البطريركية عام 1900م. تمَّت رسامته الأسقفية مع اسقفين آخرين هما كُلٌّ مِن مار اسطيفان جبري وما يعقوب اوجين منا بوضع يد البطريرك مار يوسف عمانوئيل الثاني توما في كنيسة الكرسي البطريركي كنيسة مسكنته في الموصل.

كان الشهيد عالماً ولعدَّة لغاتٍ متقناً ساعدته أن يتعمَّق في البحث التاريخي قومياً وكنسياً، وغدا في هذا المضمار ماهراً جداً، فشمَّرَ عن ساعدِه مُبدياً طول باعه، فكان أول وأشهر مَن كتب مِن بني الكلدان تاريخ الأمة الكلدانية العريقة الموغلة في عمق التاريخ والدولة الآشورية بِنتها البكر، منذ مستهلِّ القرن العشرين وذلك بعد اولئك المؤرخين والكُتّاب الأوروبيين الذين قاموا بتصنيف كتبَهم في مطلع الجيل التاسع عشر. أشهر مؤلفاته: تاريخ كلدو وآثور بجزئين. يروي بالجزء الأول تاريخ الأمة الكلدانية منذ الطوفان وحتى بداية التاريخ الميلادي الى جانب تاريخ الدولة الآشورية قبل الميلاد، وفي الجزء الثاني يروي تاريخ الكنيسة الكلدانية < كنيسة المشرق > منذ تأسيسها في القرن الميلادي الأول حتى ظهورالإسلام في أوائل القرن السابع واحتلال المسلمين لبلاد بين النهرين. أما الجزء الثالث فقد تناول فيه سرد الأحداث التي مَرَّت على امتنا الكلدانية وكنيستها منذ الإحتلال الإسلامي وحتى انتخاب البطريرك التاسع العظيم مارعمانوئيل الثاني توما لسُدة الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية عام 1900م. ويُقال بأنَّ المغفورله أدَّي شير كان قد بذل أقصى مسعاه التاريخي ساهراً الليالي الطِوال ليُخرجه تحفة نادرة لا تُثمَّن ليتفوق على كُلِّ من سبقه في هذا المضمار، ولكن للأسف لم يكتمل مأربه به، إذ باستشاده المرير في منتصف عام 1915م المشؤوم على أيدي الأتراك الأوباش، فُقِد بإتلاف كافة محتويات مكتبته العامرة.

ومن تأليفه الأخرى كتاب بعنوان “مدرسة نصيبين” تضمن شهرتها بقوانينها وأساليبها التدريسية التي طار سيطها  في آفاق عصرها. ترجمه الى اللغة الكلدانية الأنبا داديشوع نكَارا رئيس دير السيدة حافظة الزروع لعدة دورات انتخابية، وذلك أيام كان تلميذاً في معهد شمعون الصفا البطريركي الكلداني، وقد اعتبر مخطوطة من مخطوطات الدير المذكور تحت رقم 563 بحسب فهرس خزانة الرهبنة في بغداد. كما أن الشهيد أدّي شير ترجم كتاب قصص شهداء المشرق من الكلدانية الى العربية. كما ألَّف كُتُباً عِدة باللغة الكلدانية لفائدة أبناء امته الكلدانية منها: 1- كتاب صلوات 2-  كتاب القطائف 3-  كتاب إكليل العذراء تضمن ما كتبه آباء كنيستنا “كنيسة المشرق” عن صفات العذراء والدة الله 4-  مقالات عديدة نشرها في مجلة اكليل الورود، من إصدارات الآباء الدومنيكان- الموصل، ومقالات اخرى عديدة بالعربية نشرها في مجلة المشرق البيروتية.

كان الحبر الجليل الشهيد أدّي شير يتحلى بصفات مُثلى قلَّ نظيرُها، حيث تعامل بتواضع مع الجميع، سلك في حياته طريق العِفة والفضيلة مغلفة بطهارة روحية وجسدية، يتجلّى في تآليفه سُمُوُّ الأخلاق ورصانة السرد وحيادية الموقف. كتب عن تاريخ امته الكلدانية وكنيستها مدفوعاً من شعوره القومي والديني والوطني مشوباً بالأسف والإستغراب لإنعدام الشعور القومي لدى إخوته الكلدان المعاصرين تجاه قوميتهم، ووصفهم بالجهل لكونهم لا يعرفون بأنَّهم يتحدَّرون من صُلب شعبٍ فاق شعوب العالم كُلِّه في نُبله وبأسه وعمق حضارته عِلماً وأدباً وصناعة، فحملته غيرته القومية كما قال ليُتحف أبناء قومه ووطنه بما صنفه من كتبه الإبداعية التي استعان بتأليفها بمصنفات المشاهير من آبائنا في كلتا الحقبتين التاريخيتين لِما قبل الميلاد وبعده، حباً منه بتوعية أبناء امته الكلدانية الجديرة أن يفرد لها الحب كافة مسيحيي مشرقنا وبخاصة أبناؤها الكلدان.

لقد قام الشهيد أدّي شير قبيل اندلاع الحرب العالمية الأولى بزيارةٍ لمجمع الملافنة في باريس، فقدَّم للمجمع نسختين من كتابه المنوَّه عنه أعلاه “تاريخ كلدو وآثور” فكان أنَّ مجمع الملافنة اختاره عضواً بين صفوف علمائه، ومنحه شارة الملفنة فعُدَّ مؤرخاً في عِداد المؤرخين.

استشهاد الأسقف مار توما رشو

في إحدى القرى التابعة لسعرد المُسمّاة “اظل” كانت توجَد اسقفية يُدير شؤونها اسقف نسطوري يُدعى مار توما بن القس رشو، وفي عام 1906م ترك النسطرة وتحول الى الكثلكة هو وثلاثة من كهنته وهم كُلٌّ من القس يوسف من هردويا والقس اسطيفان وشقيقه. في غمرة الإضطهاد المُثار من قبل الدولة العثمانية ضِدَّ مواطنيها المسيحيين، استغلَّ هذا الإضطهاد شيوخ القبائل والعشائر الكردية أبشع استغلال، فاستهتروا واسترخصوا دماء المسيحيين الساكنين في ظهرانيهم، ومن بين هولاء الشيوخ الشيخ الكُردي عبدالله الذي قاد اضطهادا ضِدَّ مسيحيي قرية أظل والقرى المجاورة، فاستشهد الأسقف مار توما رشو ومائة وثمانون رجلا من قرية أظل والقرى الأخرى. وردّاً على هذا الإعتداء الآثم، اتفق أهالي أظل على قتل الشيخ عبدالله الذي لم يرعَ الحُرمات فاستهتر وبغى فقتلوه، وخوفاً من أن يطال الإنتقام أخاه عبدالرحمن، لاذ الأخير بالهرب الى الموصل. وكان أحد افراد عائلة الأسقف مار توما رشو المدعو هرمزد، قد ترك هو وعائلته قريته أظل قبل هذه الأحداث بأربع سنين وجاء الى ماردين للإقامة فيها. يقول مار اودو، إنَّ هرمز هذا هو الذي أخبرنا بنبأ استشهاد عمِّه الأسقف والمائة والثمانين رجلاً الذين استشهدوا معه، كما أعلمنا أيضاً باتفاق أهالي القرى الكلدانية على قتل الشيخ عبدالله والتخلص من جرائمه فقتلوه ثأراً لدماء المغدورين ظلماً، وإن هرمزد هذا ترك ماردين وغادرها الى الحسكة في سوريا للإقامة فيها. والى الحلقة الثامنة قريباً.

الشماس د. كوركيس مردو

في 14 / 7 / 2015

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *