إطلاق – أسْـر – إطلاق المـُخْـتــَـطـَـف في دير ربان هـرمزد – ألقـوش ( 5 )




ألفـتُ إنتـباه القارىء العـزيز أن سـهـواً حـدث عـندي في كـتابة التأريخ 24 أيلول 1963 المذكـور في المقال السابق 4 يوم إطلاق سراح والدي من الشمال ووصوله ألقـوش فـقـد كان وصوله قـبل هـذا التأريخ بأقـل أو أكـثر من أسبوعَـين فلا أعـرف بالضبط ، أما التأريخ المذكـور فـهو لمناسبة أخـرى سيأتي ذكـرها في هـذا المقال ، فأرجـو المعـذرة .

بعـد إخـتـطاف والدي ، إنـتـقـلـتْ وحـدة عـسكـرية إلى ديارنا ونصبتْ ربايا بمثابة مواقع مراقـبة حـول البلدة وإتخـذتْ من مزار مار قـرداغ مقـراً لآمريَّـتها وفـرض آمِرُها نظاماً يقـضي بحـصول الأهالي عـلى عـدم تعـرّض من مدير الناحـية عـند الرغـبة في المغادرة إلى خارجها وبكـفالة شخـص يضمن رجـوعـهم حـتى لِمَن يريد تـفـقــُّـد زرعه وذلك منعاً لإخلاء البلدة بسبـب الظروف غـير الآمنة . فـلما أطـلِق من سجـن الشمال ووصل مداخـل ألقـوش مشياً عـلى الأقـدام إستـوقِـف عـند نـقـطة السيطرة والتـفـتيش وسُـئِلَ من أين أنتَ ؟ قال أنا ألقـوشي وراجع إلى بـيتي ، قالوا له أين كـنـتَ ؟ قال في الحـقـل ! فـلما طـُـلِبَ منه إبراز عـدم التعـرّض ! وهـو لا يدري بهذه التغـيـيـرات تلعـثم وقال أيّ عـدم تعـرض ؟ قالوا له : كـيف خـرجـتَ من البلدة …. فـعَـلم أن أموراً كـثيرة تـغـيَّـرتْ وإستــُـحْـدِثـتْ بعـد غـيابه فلا مجال للمناورة أو المراوغة فإضطـرّ إلى الإعـتراف قائلاً أنا كـنتُ محـجـوزاً في الشمال وأطـلقـوني حـراً الآن ! فأخـذوه إلى آمر الوحـدة العـسكـ،رية داخل مزار مار قـرداغ وبدأ التحـقـيق معه ( وهـنا إكـتشفـنا خـطأنا في إخـفائـنا موضوع إخـتِـطافه عـن السلطات الحـكـومية في حـينها فالأفـضل لو كـنا أبلـَغــْـناها فلا يشـكـّـون به في موقـف كهـذا ) المهم أنّ الآمر المحـقـق إعـتـبر كلام والدي إدّعاءاً للتهرّب من الملاحـقة القانونية كـمتمرّد رفعَ السلاح ضد السلطة لـذا إعـتـَـبَـرَه أسير حـرب وقال له : إنك واحـد من المتمردّين العـصاة وندري أنك رجعـتَ نادماً إلى أهـلك وبلدتك والحـكـومة تـرحـب بك ولكـن يجـب أن نحـقـق معـك أولاً ، قـل لنا ما نوع سلاحـك وفي أيّ قاطع كـنتَ ومَن كان قائدك وفي أية عـملية إشتـركـتَ ومَن كان معـك وكـيف كان مبـيتك وأكـلك ، تـكـلـّم عـن حـياتك في الشمال …. ولما أصرّ والدي عـلى إفادته البسيطة وليس لديه غـيرُها أمرَ الآمـر فـعُـلـّـق معـكـوساً في الروابط الفـولاذية بـين الأقـواس في الفـناء الداخـلي للمزار عـدة ساعات مع الضرب كي يعـترف بما يظـنونه به ولكـنه ظـل يقـول الحـقـيقة التي عـنده فـلم يصدّقـوه وتـركـوه معـلقاً أربع ساعات ، وهـنا حـدثـتْ المفاجأة الكـبرى !! فـفي تلك الأثـناء بالذات إصطدمتْ مجـموعة من المقاتلين الشماليّـين مع عـجـلة مسلحة حـكـومية تابعة إلى بلدتـنا ( جـيش أو شرطة ، لا أعـرف ) بالقـرب من قـرية يـزيدية شرق ألقـوش وأصيـب أحـد أولئك الشماليّـين في ساقه فـلم يستـطع الهـرب فأسِـرَ ووصل الخـبر إلى آمر السرية في مار قـرداغ الذي جاء مباشرة إلى والدي وقال له : كـيف تـنكـر أنك لستَ من العـصاة ! ها هم جـماعـتك قـد عـلِـموا بأنك محجـوز عـنـدنا فـجاؤوا لينـقـذوك من أيدينا ! فـكـرّر والدي أن ليس له عِـلم بما يحـدث فـلم ينفع . ثم نـُـقِـلَ المصاب إلى القـيادة العـسكـرية في قـضاء الشيخان ( عـين سـفـني ) وأخِـذ والدي إلى هـناك أيضاً لمعـرفة العلاقة بـينهما وبـين الحادثـتين وكأنهما موقـوتـتان ، وهـناك عـلِمَ أنّ المصاب هـو المرحـوم حـميد ياقـو حـنو الذي سُـئِـل عـن معـرفـته بوالدي ؟ قال نعـم أعـرفه ! إنه ألقـوشي وكان محجـوزاً كـرهـينة عـندنا ! ثم سُـئِل لماذا ؟ قال لأنـنا إعـتـبرناه من جـماعة مخابرات الحـكـومة يتـرصّـدنا ويجـمع المعـلومات عـنا …… وللأمانة التأريخـية أقـول إنّ المرحـوم حـميد أصبح الشاهـد والدليل الوحـيد عـلى براءة والدي من أية علاقة مع العـصاة حـسب المفهـوم العـسكـري آنـذاك وفي أيام الحـرس القـومي الذين لا يتـفاهـمون مع المتهمين بأية لغة إنسانية ، إذ لولاه لكان مصير والدي مجهولاً ، والخـطأ الأول كان خـطأنا لأنـنا لم نـبلغ السلطات عـن إخـتـطافه . ومن تلك اللحـظة تـغـيَّـرتْ نـظرة الآمر إلى والدي وإعـتذر عـمّا بدر منهم من إتهام وإساءة وتعـذيـب وسأله إنْ كان جائعاً فـقال إنـني لم أذق الطعام منـذ يومَين ، فأمر بوجـبة غـذاء وشاي ….. وقال له : إطـمئن ولكـن ستبقى محجـوزاً لأغـراض تحـقـيقـية ثم نـُـقِـل عـلى إنـفـراد وهـكـذا المرحـوم حـميد أيضاً إلى سجـن الموصل العـسكـري لأن القـضية تخـص الجـيش ووُضِعا في زنـزانـين متجاورتين منفـصلتين لكـن التعامل لم يكـن عادلاً مما إضـطـرّ والدي إلى أن يقاسمه وجـبته الغـذائية – عـلناً – مدّعـياً أنها أكـثر من حاجـته فـسُمِح له بذلك . جـرتْ عـدة جـلسات تحـقـيقـية مع المرحـوم حـميد وذكـَـرَ خلالها أسماء ألقـوشـيّـين وغـير ألقـوشـيّـين جاؤوا بهم إلى قاعة التحـقـيق ….. غادروا إلى الديار الأبدية ، وكانـت كـلها بحـضور والدي ما عـدا شخـصاً واحـداً رفـيع المستـوى غـير ألقـوشي لكـنه من ( سكـنة ألقـوش ) وغادر أيضاً إلى ربه ، طـلب أن يتم التحـقـيق معه بغـياب والدي ، وبالمناسبة فإن أحـد الألقـوشـيّـين ذو صلة قـرابة معـنا كان متعـهّـداً لنـقـل الماء إلى معـسكـر مار قـرداغ هـو المرحـوم جـرجـيس مُـرو أبو ضياء كان قـد لمحـتْ عـيناه والدي إلاّ أنه لم يتـجـرّأ عـلى إخـبارنا خـوفاً من الجـيش . إن أحـداث إطلاق سراح والدي من الشمال أو حجـزه في مار قـرداغ لم نكن ندري بها ، ولكـن بعـد أيام بدأنا نسمع هـمسات متـناقـلة هـنا وهـناك بوجـوده في سجـن الموصل بصوت خافـت وبخـوف دون معـرفة المصدر بتاتاً والذي قـد يكـون متسرّباً من والدة المرحـوم حـميد نـتيجة زيارتها لإبنها في السجـن ) .

عَـودَة إلى فـترة إحـتجاز والدي في الشمال فـقـد وصل الخـبر بواسطة ألقـوشيّـين إلى أخـتي في كـركـوك ولم يمكـنها السفـر إلى ألقـوش ولا كـتابة رسالة بهذا الشأن خـوفاً من الرقابة البريدية ، ولم تستلم أي خـبر من عـندنا فـبعـثـتْ برسالة بريدية لـنا – أواخـر آب 1963 – تـقـول فـيها أنها مقـبلة إلى إجـراء عـملية في كـليتها وستـدخـل المستـشفى وعـليه تـطـلب رؤيتـنا فـوراً ! فأصبحـنا قـلقـين عـليها أكـثر فالمسألة هي حـياة وموت ، فأخـذنا الرسالة إلى مدير الناحـية ( أتـوقعه سيروان ) وقـرأها فـوافـق عـلى سـفـري مع الوالدة لعـدة أيام بشرط رجـوعـنا بكـفالة شخـص ، وكان المرحـوم العـم إسحـق زرا واقـفاً عـند باب غـرفة مدير الناحـية وأظن كان مخـتاراً في تلك الأيام ! ولكـونه معـروفاً عـندنا طلبتْ منه والدتي أن يكـفـلنا فـوافـق قائلاً : ( بْراتي ! لا زالخ وأرقـتْ وأوذتـّا بْـﮔـاوي – إبنـتي ! لا تـذهـبي وتـنهـزمي وتورّطـيني ) فـقالت له : كـيف تـقـول هـكـذا يا عـمي إسحـق فأنتَ بمثابة والدي ، فـوكـّـلنا جـدتي في البـيت وهـيّأتْ الوالدة تكاليف سـفـرنا وإنـطلقـنا ، وعـند وصولـنا كـركـوك عـلمنا أن غاية أخـتي كانـت التعـرّف عـلى الحـدث الذي ألـَـمَّ بوالدي (( ومن هـناك بعـثـتُ برسالة إلى الأب ﭙـولس خـمي التي نوّهـتُ عـنها في تهـنـئـتي له في يوبـيله ، وبهذه التهنـئة تـذكـَّـرتُ تـلك الظروف فأصبحـتْ ملهـِماً لي في كـتابة هـذه السلسلة من المقالات حـول ألقـوش وظروفها آنـذاك فـبدأتُ أكـتبها ! )) وبعـد حـوالي أسبوع قـرّرنا الرجـوع فـزوّدتـنا أخـتي بأكـثر من ثلاثة دنانير وبمؤونة تـكـفـينا لمدة شـهـر ولكـنها ممنوعة العـبور من سيطرة الموصل نحـو الشمال وبالتأكـيد ممنوعة العـبور من سيطرة ألقـوش أيضاً فـقـلنا نـتـكـل عـلى الله . وفي ﮔـراج ألقـوش ( الفـيصلية – موصل ) عـلِم السائق بالمؤونة وهـو يعـرف بظروفـنا فأصبح في موقـف حـرج فـقال لوالدتي : سيصادرون سيارتي ويسجـنونـني ! فـقالت له : أنت تعـرف ظروفـنا ، أنا سوف أضمها بـين رجـليَّ وأغـطيها بالعـباءة فإذا إكـتشفـوها سأبريء ذمتـك منها وأقـول أن السائق لا يعـلم بها لأنـني أخـفـيتها عـنه بـين رجـليّ دون عـلمه ! إنحـرجَ السائق أكـثر فـجازف ووافـق عـلى كلامها ليس لأنه إقـتـنع به وإنما بسبـب عـطفه عـلينا لظروفـنا ، ومرّتْ الأمور بسلامة ووصلـنا ألقـوش ومصير والدي لا يزال مجـهولاً . وفي عـصر يوم 23 أيلول 1963 بدأتْ سيارة تجـوب الشارع الرئيسي في ألقـوش وعـليها مكـبِّـرات الصوت تـذيع نداءات لم نـفـهمها بوضوح من سطح دارنا ، فـعـلمنا من الناس أنها تبليغات إلى جـماهـير ألقـوش ( صلافة وإستهـتاراً ) بأن غـداً سيتم إعـدام حـميد ياقـو حـنو شـنـقاً وعـلى الجـميع الحـضور في المكان المحـدد . ولكـن الملفـتْ للنـظر أن أحاديث خـفـية وغـير مباشرة وربما كانـت تـوقـعات بـين الأهالي سمعـناها منهم بصورة غـير أكـيدة مفادها أن عـبو سـيـﭙـي والدي سوف يُـعـدَم مع حـميد ولكـنه غـير معـلن عـنه ، ولأجـل ذلك بـدأتْ الأمهات القـريـبات منا ومن معارفـنا يأتين عـندنا منـذ عـصر ذلك اليوم وحـتى ساعة متأخـرة من الليل كـمعـزّيات يجـلسن بخـوف وسكـوت ونحـن أيضاً ساكـتين لا نـدري ماذا نـقـول لأنـنا لم نستلم أي تبليغ أو تـنويه أو خـبر أو معـلومة من جهة رسمية سـوى حـديث منـتـشر بـين الأهالي ، وصعـدنا إلى سطح دارنا للنوم بعـد الساعة الحادية عـشر متـوقعـين كارثة في بـيتـنا غـداً . وقـبل أن يغـلبنا النوم سمعـنا رجلاً ينادينا بلغـتـنا الألقـوشية من زقاقـنا فـنـظرنا إليه من ستار السطح فإذا به مخـتار المحـلة ومعه إثـنان عـسكـريّان مسلحان ( لست متأكـّـداً إن كان ﭽـوكا غـزالة يرافـق العـسكـريّـين بإعـتباره مخـتار محـلة المرحـوم حـميد ، أو مخـتار محـلتـنا زورا جـبّـو لاوو ) وسأل عـن والدتي فـقالت تـفـضـل ، ثم قال للعـسكـري : هـذه زوجـته – فـقـلـنا يا سـتار – فـقال العـسكـريُ باللغة العـربـية لوالدتي : هـل أنـتِ زوجة عـبو ميخا ؟ قالت نعـم والقـلوب تـدقّ فـقال : إطـمئـنوا إن أبوكم بخـير ، يسـلـّم عـليكم وسيأتيكم عـن قـريـب ، فـعـلِـمنا أنّ تلك الأقاويل كانـت دعايات ولا أدري عـلى ماذا إستـنـد الألقـوشـيّـون في نسجـها لنا ، وفي صباح اليوم التالي 24 أيلول 1963 أعـدِم المرحـوم حـميد في منـطقة ( خِـﭙَـرتا ) بطريقة إستـفـزازية وبقـينا نـنـتـظر إطلاق سراح والدي . نعـم إنّ والدي أصبح بريئاً في حـكم القانـون والشريعة ولكـنه مسجـون في السجـن العـسكـري وعـليه يجـب أن يُـطلق سـراحه بأمر من الحاكم العـسكـري الذي – مْـنين أجـيـب الحـظ لِلـّي ما عـنده حـظ – غادر إلى سـوريا عـلى رأس وفـد ولم يرجـع إلاّ بعـد 18 يوماً وعـندها أمر بإطلاقه بعـد أن قـضى 33 يوماً في سجـن الحـكـومة ، وأصبح حـرّاً في الشارع دون أن يغـيِّـر ملابسه لأكـثر من شهـرَين وليس في جـيـبه فـلس ! فـكـيف يسافـر إلى ألقـوش ؟ الجـواب في المقال القادم 6 .

You may also like...