إضعاف اللغة الكلدانية هو إستهداف للثقافة الكلدانية

 

لقد أصبح موضوع الثقافة محل اهتمام كثير من المهتمين في علوم الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع، فالثقافة بمفهومها العام هي ذلك النسيج من الأفكار والعادات والتقاليد والمعتقدات والفنون والمهارات والابداع، ولغة وتاريخ وقيم وأنماط السلوك التعليمي الذي يكتسبه الأفراد في جماعات تعيش في المجتمع الواحد، مما ينشأ في ظله كل عضو من أعضاء الجماعة، ومما ينحدر إلينا من التجارب الماضية في المعرفة والقيم، ونأخذ به كما هو أو نطوره في ضوء مطالب الظروف المعاصرة، لاسيما في هذا الوقت الذي يجابه فيه أنماطاً غريبة من الثقافات الدخيلة التي تحاول تمرير الغث وتسويف الزيف … يقول جان بول سارتر عن الثقافة ( ان الانسان يضفي ذاته، يتعرف فيها على ذاته، وهي وحدها المرآة القوية التي تعكس صورته).

لكل شعب أو مجتمع ثقافة تحدد الإطار الذي يضبط سلوك أفرادها، لتتميّز بها عن شعوب ومجتمعات أخرى وهذه الخصائص المميزة يعرف بها نوع ونمط ونهج أي شعب أو مجتمع. إن قدرة الشعوب والمجتمعات على مواجهة التيارات الفكرية والثقافية والوافدة من الشعوب والمجتمعات الأخرى، يتوقف على نوعية وصلابة ووضوح المنهج الثقافي الذي تقوم عليه لحمة نظامها الاجتماعي.

منذ مئات السنين استطاع الكلدان بواسطة ثقافتهم أن يقدموا للإنسانية حضارة عظيمة ما زالت شواهدها قائمة الى اليوم، تمثلت في العلوم الطبية والصيدلانية والرياضيات كإيجاد نظام خاص بالعدد وتنظيم الوقت من خلال تحديد رأس السنة وتقسيمها الى شهور فأيام فساعات ودقائق وثواني، ومعرفتهم حركة النجوم والمسافة التي تفصل بينها ومواقعها وعن دوران القمر حول الشمس، وبراعتهم ومهارتهم في الهندسة المعمارية التي توجت ببناء جنائن بابل المعلقة في عهد الملك البابلي نبوخذنصر الثاني، وغيرها الكثير من العلوم والمعارف التي شهد لهم بها العلماء والباحثين والمختصين بالتاريخ القديم وخاصة تاريخ بلاد ما بين النهرين.

فالثقافة الكلدانية ثقافة متطورة منفتحة تأخذ من غيرها ما يحلو لها وتعطي غيرها مما يعني أنها ثقافة حيوية وليست جامدة العناصر، وظلت هذه الثقافة المصدر الذي يستقى منه الكلدان على مر السنين، وعلى أساسه وتوجيهاته يقوم بناؤهم الثقافي، ويستمدون من ثقافته الحماية عند تكالب كل القوى العنصرية والأفكار الشمولية المعادية للنيل من أسسها وروحها المتسامحة، وإفشال جميع المخططات التي تهدف لفك الوثاق الاجتماعي للكلدان وطمس مقومات وجودهم.

سيتفق معي الكثير بأن لهجتنا المحكية أو لغتنا الكلدانية تمثل العمود الفقري للثقافة الكلدانية، والواقع ان عملية إضعاف اللغة الكلدانية في بيوتنا وكنائسنا وعموم تواجدنا ، فهو خطر فادح يحيق بمصير هويتنا الكلدانية ووجودها على وجه الخصوص ، من خلا الدعوة الى التمسك باللغة العربية ونشرها في القداس لمؤمنين جلهم من المتكلمين باللغة الكلدانية في المهجر، فأن الكنيسة والكهنة لهم دور كبير في المحافظة على اللغة والتراث الديني والثقافي، علينا أن نعي تماما أن لغتنا هي احد المقومات الرئيسية لثقافتنا الكلدانية.

وتحضرني هنا بعض ذكريات الطفولة عندما كنا تلاميذ في مدرسة الناشئة الابتدائية _ محلة السنك / بغداد في كنيسة القديسة تريزا وتسمى ايضا كنيسة باتري بير في عهد الأباء الكرملين، بعد أن هاجر أباؤنا من بلدات وقصابات شمال العراق الى بغداد بقصد العمل في الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي، حيث كنا نكثر الكلام بلغتنا الكلدانية بمجرد خروجنا من باب الصف وأحيانا داخل الصف، كان المعلمون لا يرغبون في هذا بل كنا نعاقب أحيانا، والمؤسف أن بعض الأباء أولى الاهتمام لهذا الأسلوب، فكانوا يرون أن الولد الذي يتكلم العربية دون أن يتكلم اللغة الكلدانية هو الأفضل بين زملائه، مما وسع الهوة بين الأجيال المتأخرة ولغتهم الأم.

رغم كل ما تعرضت له الثقافة الكلدانية من هزات عنيفة والرجات القوية في تاريخها، إلا أنها استطاعت أن تبقى حية وستبقى المعين الصافي الذي يروي ظمأ الكلدان على مدار تاريخهم، فلا تنحني أو تنطوي أمام الثقافات الوافدة وانما تسموا عليها وتستوعبها دون أن تذوب فيها.

وديع زورا

04/06/2016

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *