ܒܥܘܬܐ باعوثا

ܒܥܘܬܐ باعوثا

الباعوثا لفظة كلدانية تعني في العربية : طلبة، تضرع ، التماس. وبحسب طقسنا الكلداني تستمر ثلاثة أيام  من الإثنين حتى الأربعاء من الإسبوع الخامس لموسم الدنح وهو الموعد الذي يسبق الصوم الكبير بثلاثة أسابيع، يسود خلال هذه الأيام طابع الخشوع والتوبة والندامة على ما قد اقترفه الإنسان من زلات وخطايا ضدَّ الله والقريب، وتختتم الصلوات بالإحتفال بالذبيحة الإلهية (القداس) ويكون قداس اليوم الثالث والأخير احتفالياً ايذاناً بانتهاء فترة الصوم والتضرع وبدءاً لحياةٍ جديدة .

وللوقوف على أصل هذه الباعوثة، علينا فتح سفر النبي يونان وقراءة فصوله الأربعة القصيرة لنرى فيها رغبة الله الخالق في خلاص شعب نينوى، وعدم انصياع يونان للأمر الإلهي ليكون وسيطاً بين الله وهذا الشعب لإعتقاده بأن شعب نينوى وثني ولا يعرف الله، ونتيجة لتمرد يونان يُعاقبه الله، حيث يأمر حوتاً ليبتلعه ويُبقيه في جوفه ثلاثة أيام بلياليها. ويبدأ يونان يتضرع الى الله من داخل جوف الحوت الذي نزل به الى عمق البحر، وهو يُشبِّه حاله في موقعه هذا بأنه أشبه بـ < مثوى الأموات > ويستجيب الله لصلاة يونان فيوعز للحوت بأن يلفظـ يونان الى اليابسة، فيسرع يونان الى نينوى ويوجِّه إنذاراً الى أهاليها بأن مدينتهم ستنقلب بعد أربعين يوماً من الأن إن لم يتوبوا عن خطاياهم وأرجاسهم، فيأخذ الإنذار منهم مأخذه ويقومون فوراً بأداء فرائض التوبة بالصوم والصلاة دون أدنى اعتراض أو تساؤل حتى أن يونان انذهل لمبادرتهم .

الكنيسة الكلدانية في طقسها الذي قد تمَّ وضعه في خلال القرن السابع ورُتِّب ونظِّمَ في كتاب صلوات الفرض ܚܘܕܪܐ”يعزو العلة في فرض صوم الباعوثة الى سببَين، أولهما تيمناً بما ورد في سفر يونان.  المسمى ” حوذرة 
وقد أشرنا إليه أعلاه. وثانيهما هو وباء الطاعون الذي حدث ضمن البلاد الفارسية والذي اعتبر من الأحداث المهمة التي تزامنت مع عهد ( مار حزقيال الجاثاليق 570 – 581 م )  يقول ( عمرو في المجدل ص 43 – 44 ) بأنَّ مطران بيث كرماي واسقف نينوى حَثّا المؤمنين على إقامة الصلاة والصوم لمدة ثلاثة أيام ، لكي يُزيل الله عنهم الوباء الذي كان متفشِّياً في المناطق الشرقية ، وفاتحا الجاثاليق مار حزقيال بما عزما عليه، فلقيا منه الإستحسان والتشجيع. وسَموا صلاتهم وصومهم بـ ( باعوثة نينوى) أي ( تضرُّع نينوى ) تيمناً بصوم أهل نينوى القدامى . فقبل الله إلتماسهم ودعاءَهم وأزال الوباء عنهم .

ربَّما سائل يسأل بأن القسم الأعظم من صلوات الباعوثة التي تُمارسها الكنيسة الكلدانية قد تمَّ تأليفها من قبل العالمَين الفريدَين الكلدانيَين القديسَين ( مار أفرام 307 – 373 م ) و( مار نرساي 399 – 503 م ) فهل كانت الباعوثة تُمارس على أيامهما؟ نقول للسائل: لا لم تكن تُمارس الباعوثة كاداءٍ طقسي، وليس عجباً أن يقوم هذان العالمان بكتابة الصلوات والأشعار البديعة عن باعوثة نينوى، فقد كان علماء كنيسة المشرق في القرون الأولى لقيامها يتناولون أسفار الكتاب المقدس ويفسرونها بايحاءٍ من الروح القدس، وقد أعجب الكاتبان القديسان مار أفرام ومار نرساي بقصة يونان النبي مع الله، فأرخيا العنان لخيالهما الروحي، فأبدعا نثراً وشعراً واصفَين شكل التوبة الحقيقية الصادقة التي أبداها أهل نينوى ومن خلالها نالوا الخلاص من الهلاك. كما لا ننسى قيام مار أفرام بنسج خيالي رائع لقصة يوسف بن يعقوب الصديق، أبرز فيها أدوار جميع أفراد القصة بتسلسل روائي بديع!
   
 
ܒܥܘܬܐ ܕܒܬܘܠܬܐ باعوثة العذارى

وقد ورد في تاريخنا الكنسي، بأن الخليفة الأموي الوليد الأول بن عبدالملك بن مروان 705 – 715 م تمادى في كُرهه للمسيحيين فتوعَّد بنهب وسلب المناطق العليا من بلاد ما بين النهرين ذات الكثافة السكانية المسيحية وأصدر أوامره بأسر السكان وجلب الراهبات العذاري لجعلهن جواري له ولأفراد حاشيته. وقد وقع الخبر على الراهبات وقع الصاعقة، فهرعن الى التضرع لله بقلبٍ منكسر ودعاء حار لمدة ثلاثة أيام ليُزيل عنهن هذه المصيبة الشنيعة، وكان أن نالت صلواتهن الإستجابة من الله، فمات الملك الجائر في تلك الأثناء وزالت المحنة .

نستخلص مما تقدم ذكره بأن صلاة وصوم الباعوثة هو مأثرة أصيلة في تراثنا الكنسي الشرقي وبخاصةٍ التراث الكلداني، وما ساهم في جعلها تظاهرة تقوية نُعيد ممارستها سنوياً من أجل توبةٍ حقيقية هي الظروف العصيبة التي عصفت بنا على مرِّ الزمن .

الشماس د. كوركيس مردو

 

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *