يَسوعُ يشفي المَرْضى

ثمَّ ذَهَبَ يَسوعُ مِن هناك وجاءَ الى شاطيءِ بَحرِ الجَليل، فَصَعِدَ الجَبَلَ وجَلَسَ هُنالكَ > (متّى15: 29) .

انتقلَ يسوع مِن تخوم صور وصَيدا ويقول البشير مرقس بأنَّه اجتاز أراضيَ المُدُن العشر، فَصَعِـدَ الى الجبـل أي الأرض المرتفعةِ الواقعةِ شمال الـمُدُن العشر وشرقيِّ الأردن وجلس طلباً للراحةِ والعزلةِ والأختلاءِ إذْ نادراً ما يحصل على ذلك.

فأتَـتْ إليه جُـموعٌ كثيرة ومَعَهم عُـرجٌ وعُـمْيٌ وكُسحانٌ وخُرسٌ وغَـيرُهُم كـثيرون، فَـطرَحوهم عند قَـدَمَيه فشفاهم > (متّى 15: 30). إشعيا35: 5-6 ، متّى11: 5، لوقا7: 22.

يتبيَّـنُ مِن كـثرةِ الجموعِ الحاملة معها عَـدداً كـبيراً مِن العُرج والعُـميِ والكُسْحان والخُرْس وغـيرِهم كـثيرين. لم يَذْكُرالـبشيرُ نَوعِـياتِ مَرَضِهم، التي أتَـتْ الى يسوع في هـذه المنطقـة، بأنَّه لم يَسْبِـق له أنْ زارَها مِن قـبْل، ومِن أجْـل أنْ يتحـنَّـنَ يسوعُ عليهم ليمنحهم الشفاءَ العاجِلَ طروحوهم عـند قَـدَمَـيه فَـشَفاهم. البشير متّى يؤكِّد بأنَّ جَميعَ المرضى نالوا الشفاءَ بلا استثناء، دونَ أن يتطرَّقَ الى التفاصيل، بينما يَذْكُر البشيرُ مرقس بأنَّ يسوع اجْترحَ واحدةً مِن هذه المُعجِزات التي جَرت آنذاك وكانت لأعـمى مِن صَيدا(مرقس7: 32-35).

 < فَتَعَجَّبَ الجُموعُ لَمّا رأوا الخُرْسَ يتكلَّمون والكُسْحان يَصِحُّون والعُرْجَ يَمْشونَ مَشْياً سَوِيّاً والعُميَ يُبصِرون. فَمَجَّدوا إلهَ إسرائيل > (متّى15: 31).إنَّ هذه الآية تُظهرُ لنا مَدى تأثـيـر مُعْجِـزات يسوع في نُـفـوسِ المُشاهدين حتى أنَّهم أبـدوا إعجاباً ورفعوا لله تمجيداً، والأمرُ هذا شَكَّلَ دليلاً قاطِعاً بأنَّ يسوع لم يسبق له المجيءَ الى الأرضِ قبل الآن. ونرى أيضاً أنَّ البشير

 متّى يُعيدُ ثانيةً ذِكْرَ الأمراض الأربعةِ المُصيبِ بها اولئك المَرْضى بِتَـرتيبٍ مُخالِـفٍ للـترتيب الذي ذَكـرَه في السابق، وزاد على ذلك التغييرَ الذي طرأَ على كُلِّ مريضٍ بعد نيلِه الشفاءَ. ويُرَجَّح بأنَّ  غالبية اولئك الجُموع كانوا مِن الجبليين الأمميين، وقد يكونون أُولئك الجَدَرِيين الذين شفى يسوع في أرضِهم المجنون السكن فيه لجئون، فطلبوا مِنه الإنصراف عن تُخومِهم.

مُعجزة الخُـبْـز والسمـك الأخرى

 

فدَعا يسوع تلاميذَه وقالَ لهم: ” إنّي أُشْفِـقُ على هذا الجَمْع، فإنَّهم منذ ثلاثة أيام يُلازِمونَـني وليس عندهم ما يأكلون. فلا أُريدُ أنْ أصرِفَهم صائمين لِئلا تخورَ قُواهُم في الطريق > (متّى15: 32 و مرقس7: 1-3).

فدَعا يسوع تلاميذَه وقالَ لهم:

إنَّ دَعوةَ يسوعٍ  تلاميذَه للإعْـتناء بالجَمْعِ قام بها مِن تِـلقاءِ ذاتِه، وليس هناك ما يَـدُلُّ أنَّ أحداً سأله ذلك، وبهذا أراد تأكـيدَ ما قالَه على لسان البشيرمتّى < أُطلُبوا أولاً مَلَكوتَ الله وبِرَّه، وهذه كُلُّها تُزادُ لكم > (متّى6: 33). هُناكَ انْفِعالاتٌ عديدة نُسِبَتْ الى يسوع مِنها: الغَيرةُ والغضبُ والتَعجُّبُ والشُكْرُ والفرَحُ والأكثر مِن هذه جميعِها “الشفقة” الصفة المُحبَّبة لديه، ويا لها مِن صفةٍ تَمنحُنا التعزية والطُمَئْـنينة وتُعْـلِمُنا بسُمُوِّ الملجأ الذي نجدُه بالربِّ يسوع! .

إنّي أُشْفِـقُ على هذا الجَمْع، فإنَّهم منذ ثلاثة أيام يُلازِمونَـني وليس عندهم ما يأكلون.

رَغِبَ يسوع أن يُخَفِّفَ مِن وطْأَة التَّعَبِ عَـن أجسادِهم المُحتاجة الى الطعام لِـتَنْتعِشَ كما انتَعَشتْ أرواحُهم فَقرَّرَ إطعامَهم.إنَّ المنطقةَ التي تَمَّت فيها هذه المُعجِزة لم تَكُـنْ بَعـيدةً عن تلك المنطقة التي أشبعَ فيها الخمسة آلاف (متّى14: 15-21) وكانت في سَهلٍ قريبٍ مِن بيتِ صَيْدا ونهر الأردُن، أما هذه فتَقَع في وَعرٍ جبليٍّ الى الشرق مِن تلكَ (مرقس7: 31).

فلا أُريدُ أنْ أصرِفَهم صائمين لِئلا تخورَ قُواهُم في الطريق: ما أكرَمَكَ يا يسوع وما أجمَلَ اهتمامَكَ وما أعْظَمَه، هذه الجُموعُ قد جاءَتْكَ تاركةً بيوتَها مُتَـشوِّقـةً لِسَماع أقـوالك السامية التي تبعثُ الحياة في نفـوسِهم، فهذا الأمرُ يُنسيهِم جوعَـهم غَـيرَ الناتِج عَن فَـقْـرٍ بل عن اشتِـياقِهم لِمَ هو أعظم من الأكل. ولكنَّ شفـقـتك دَعَتكَ أن لا تَصْرِفَهم وهم جَوعى خوفاً لِئلا تخورَ قُواهم في الطريق.

فقال له تلاميذُه: ” مِنْ أينَ لنا في مكانٍ قَفرٍ مِن الخُبز ما يُشبِعُ مِثلَ هذا الجَمْمع؟ لا شَـكَّ أنَّ المكانَ كان قَـفْـراً غـيرَمسكون ولا يُمكِنُ للتلاميذ الحصولَ على ما هُم بحاجةٍ إليه بالطُرُق الإعتيادية. ولكن أليس مُستغْرَباً مِن الرُّسُل نسيانَهم مُعجِزة إشباع الخمسة آلاف مِن الأرغِـفةِ الخمسة والسمكتَين؟ هل الى هذا الحَدِّ كانوا بُسطاءَ الفهم؟ ألم يَكُن يسوعُ مُعلِّمُهم هو الذي أشبعَهم؟ أوَليس هو يسوعُ نفسُه الآن هو مَن أرادَ إطعامَ هذا الجَـمْع؟ فلِـماذا هذا الإضطرابُ المحفـوفُ بالشك؟ فعَلِـمَ يسوع بارتباكِـهم وقطعه بقولِه لهم:

“كَم رغيفاً عندكم؟ قالوا له: “سبعةٌ وبعضُ سمكاتٍ صِغار” لم يَكُـنْ سُـؤالُ يسوعٍ لِـتلامـيذِه عن مقـدار ما لـديهم من الخُـبـز والسمَك كأنَّه لا يَعْرِف، بل كان تنبـيهاً لهم لقِلَّتِه بالنسبة الى عَدَدِ الجائعينَ الكبير. فتَبيَّنَ أنَّ عَدَدَ الأرغفةِ الآن أكثرُ مِن عَدَدِها في المُعْجزة الأولى (متّى14: 13-21) مع قلـيل مِن صِغار السَّمَك. لا شكَّ أنَّ هذا القـليـلَ مِن الخُبْزِ والسَّمَكِ كان الـتلاميذُ قد أبْقَـوْهُ لأنفسِهم، ومِن قِـلَّتِه نستَدِلُّ على بساطة عيشِهم وهم في تجوالٍ مُستمِرٍّ مع مُعلِّمِهم يسوع الرب.

فأَمرَ الجَمْعَ بالجلوس على الأرضِ: كانت لليهود قديماً عادةٌ أنْ يأخذوا قليلاً مِن الراحة بالجـلوس قبل الـبَدْءِ بتناول الطعام، وهذه إحدى عادات أبناء الشرق القديمة، لكِنَّها أُهْـمِلَتْ في الزَمَن الراهن. فجلسوا على الأرض بينما جُموعُ المُعْجِزة الأولى قال لهم يسوع بالجلوس على العُشْب، والأمرُ هنا واضح بأنَّ المكانَ قَـفْرٌغيرُ مسكون، فجلسوا بنظام كسْباً لقليل مِن الراحة ولِـيَكونَ مُرورُ الـتلاميذ بـينهم أثْـناء توزيع الطعام سَهْلاً عـليهم، لا رَيْـبَ أنَّ الجُـموعَ عـندما جَـلَسوا آمنوا أنَّهم سيحصلون على طعام يُشبِعهم في هذا المَوْضع القفر.

ثُـمَّ أخَذَ الأرْغِفةَ السَّبْعَةَ والسَّمَكات، وشَكرَ وكسَرَها وناوَلَها تلاميذَه والتلاميذُ ناولوها الجُموعَ: (متّى15: 36) 1صموئيل9: 13 متّى14: 19 لوقا22: 19. قبل كَسْرِه للخُـبْز رَفَعَ يسوعُ الشُّكرَ، وهذا ما يجب أنْ نَـتعَلَّمَه قَـبل كُلِّ وجبة طعام، لكي يُباركَ الله طعامَنا ويُبارَكنا. ثُـمَّ بدأَ يُناولُ الطعامَ لِتلاميذِه وهُم بدَورِهم يُقَدِّمونه للجُموع الجالسة، وبذلك يتحَقَّـق لهم أنَّ يسوعَ قادرٌ أن يَعمَل كُلَّ ما يَظُنُّه الإنسانُ  مُستحيلاً!.

فأَكـلوا كُـلُّهُم حتى شَبِعـوا، ورفَعوا ما فَضَلَ مِن الكِسَر: سَبعَ سِلالٍ مُمْتَـلِـئة. رَفعُ الكِسَر التي فَضَلَتْ دليل ساطِعٌ بأنَّ الآكلينَ على كثرَتِهم شَبعوا،، وما أمْرُ يسوع لتلاميذِه  بجَمْع الكِسَر إلا مِثالاً تَعْليمياً للتلاميذِ والآكلين في التدبير والإقتصاد، فجَـمْعُها هو ضمانة لوَقتِ الحاجة. نُلاحِظ اختلاف الأوعية التي حُـفِـظَتْ فـيها الكِسَر نوعاً وعَـدَداً، فَـفي المُعْجِـزة الأولى كانتْ قُـفَـفاً وفي هذه الـثانية كانت سِلالاً، والسلَّة أكـبرُ مِن القُفـَّةِ، وقد ذكرهُـما يسوعُ عندما شَعرَ بِقِـلة الإستيعاب والفهم التي كان عليها التلاميذ. وبَّخَهُم ويسوع حيث قال لهم:

يا قـليلي الإيمان، لِماذا تـقـولون في أنفسِكم إنَّه ليس عِـندكم خُبـزٌ؟ ألمْ تُدرِكو حتى الآن؟ أَما تـذكُـرونَ الأرغِـفةَ الخَـمْسةَ لـلخَـمسةِ الالآف وكَـمْ قُـفَّـةٍ رَفَـعـتم؟ والأرغِـفـةَ السَّـبْعـة لِـلأربعةِ الالآفِ وكَـمْ سَلَّـةٍ رَفَـعْـتُـم؟ (متّى16: 8-10)

وكانَ الآكِـلونَ أربعةَ آلافِ رَجُلٍ ما عَـدا النساءِ والأولاد: وكما لاحَـظْنا فإنَّ عَـدَدَ الآكِـلينَ في المُعجزة الثانية كان يَقِـلُّ عَـن عَـدَدِ الآكِـلين في المُعْـجِـزة الأولى بألـفِ رَجُـلٍ، وعَـدَدَ الأرغِـفة في الـثانية كانَ يَـزيدُ بِرَغـيفَـين على أرغِـفَةـِ الأولى، وفي كِلْـتَـيهِـما أظهَـرَ يسوعُ مَجْـدَه وقُـوَّتَه الإلهية! وكَـمْ كانَتْ مِصداقـيةُ البشير متّى دقـيقـة حيث ذَكَرَ كِلْـتا المُعجِـزتَين كما حدثتا بحذافـيرهما، فَلِو كان الخَـبَـرُ مُغايِراً لَفاقَتْ المُعجزة الثانية بعظمتِها على الأولى، وغَدا يسوع مُرْتقـياً في أعمالِه. إنّ الآكلين في المُعجزتَين صاروا شهودا عيانا على قُدرة يسوع ومدى شَفَـقـتِه!. ثُـمَّ صَرَفَ الجُـمـوعَ ورَكِـبَ السفـينة وجاءَ الى أرض مَجْـدان. (متّى15: 39).

 

الشماس د. كوركيس مردو

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *