وكان لهُ ما أراد

تسرقهُ اللحظات من دنيتهِ لتسكنهُ في عالم كل ما فيهِ نفسًا ترحل إلى حيث ما يحضرها لتعيش فيها، أنها نفسًا تعيش الحيرة ويشتتها الغموض في دنيا الواقع واللاواقع ليبعثرها داخل كيان مُتمرد! ولكن ما لذلك التمرد من حضور حاضر ألا إذا استدعيّ ليكون في وقتهِ المناسب.

ما بين وقت الشروق ووقت الغروب هنالك نفسًا تاهت بين صدى الساعات والأماكن، صدى يثير فيها الأحمر الدافئ! أنهُ تائه لا يعرف للسكون عنوان ولا يعلم كيف يعود ولا يعرف للركون زاوية يتوقف فيها ليُجالس ذاتهِ قليلا بهدوء ويُحدثها، كل ما يدركهُ أنهُ يريد ولكن كيف ومتى؟! أين يجد ذلك الموجود في دنيا اللاواقع؟! هكذا يفكر ويجد واقعهُ، مُظلمًا، باهتًا، صغيرًا، ضيقًا يخنقهُ. أنهُ يفكر في تلك الأفكار التي تستوقفهُ في محطات لا يرغبها باحثًا عن عنوان، مقعد، اسم، وملامح إنسان كانَ، يأخذه الشوق إلى روحًا كان لها حضور فيهِ، روحًا عندما كان يلقاها تُدفئ برد قلقهِ وتهدأ الخوف في عينيهِ.

إنسانًا يسير ما بين دقائق وساعات اليوم وهو ضائع الخطوات، ينظر يمينًا ليلمح ابتسامة تضيء قلبهُ، يتجه يسارًا ليجد يدًا حنونة تمتد لهُ! يبصرها فترتسم الفرحة على وجههُ وتشعّ الابتسامة من عينيهِ ويصبح قريبًا من حقيقتهِ، يحاول أن يتقدم بخطواتهِ المُتسارعة ليصل إلى ما يريد، لكن يفيق على وهمّ وسراب قلبًا وعينًا فقط، يترأى لهما ما كان في واقع يحبذاهُ كثيرًا ويتمناه! أنهُ لاواقع أبصرتهُ الحقيقة في الأعماق ومعها بدأت قطرات الدمع بالهطول على وجنات أحمرت من كثرة ما لامسّها دفئ الشعور وحنين سلك أغوار الروح وأستوطنها.

مسكينًا هو من يُسكن نفسهُ في دوامة لا نهاية لها إلا حينما يرغب هو بنهايتها ووضع عصا الاستمرارية فيها ليستوقفها ويمضي بحياتهِ.

رأيتهُ يجلس بصمت يحمل ضجيج سنينهِ مُتأملاً، يفكر ويكلم دواخلهُ ببضع كلمات قائلا:” لا أدري ما بي، ولا أعرف لتلك الأسئلة التي تطاردني أجوبة؟! لا أعلم متى يكسر قيدي؟! ماذا فعلت في الحياة وماذا فعلت الحياة بيا؟! أنها أنانية ومتمردة وقاسية لا تعطي شيئًا ألا وتعود لاحقا لتأخذهُ، وكأنهُ أمانة تستودعها لتستردها لاحقا! أعطتني ما كنت أريدهُ وأتمناه ولكن عادت وأخذتهُ مني بسرعة، لقد تجاوزتني وتجاوزت خطوط حياتي كالأخضر الذي ينطلق من أجلهِ كل شيءٍ، أهملت الأحمر بنفسي وركنتهُ ولم أنتبه! الحياة اختارتني وأختارت البقاء والرحيل في ذات الوقت في كيان إنسان يتصارع من أجل البقاء فيها! لا أدري هل أتجاوز رغبات وأمنيات إنسان أم أبقيَّ نفسًا في داخلي مقتولة تنزف كلما صارعها الشوق لترحل إلى ألبوم الصور لتلمح من يملأ وريقاتها، أم أرحل للاماكن واسكنها؟!”.

أنهُ يفكر ويجد ذاتهُ في تشتت وانتظار لا يُجدي والبقاء داخل كيان مُنغلقًا لا ينفع! وكان لهُ ما أردّ لأنهُ أرادَ فعلاً من أعماقهِ أن يلبس إنسانًا جديدًا! نهض وتمردّ وأنتقم من واقع يكبلهُ ويبقيه في مكانهِ ما بين الذهاب والإياب حائر، وما بين الحياة واللاحياة ساكن، ما بين الرقاد والنهوض حبيس، ثارّ على نفسهِ التي بقيت حبيسة آمال رحلت بدون رجعةٍ، فكان لهُ في الحياة وجود بعد أن طوىّ حكايتهِ التي انتهت فصولها ببدايتهِ هو.

الحياة دائمًا تلوحّ لك بالحياة والبقاء فلا تلوحّ لها أنتَ مُودعًا قبل الأوان وتخاصمها. وتأكد بأن هذا ما تفعله الحياة، أنها تستودع الأمانات عند من تريد من أصحابها لتأخذها لاحقا في أي وقت تشاء! ولكن هل أن صارعتنا الحياة نصارعها نحن كذلك ونعاندها؟! هل نحن قادرون على غلق الأبواب بإحكام أمام الحياة والأقدار ونستطيع منعها من المرور إن رغبت بالحضور؟!

لو كانت لنْا سلطة على الأقدار لمْا كنا اليوم نذرف الدمع على حياة رحلت من أمام أعيننا إلى حيث لا رجعة، أليس كذلك؟! أصبحت قتيلا في الحياة … نعم، ولكن ما زلت حيّ بشهيق وزفير، حاول النهوض من موتتك وأنتقم من لا واقع يفرض نفسهُ بقوة على حياة بكتْ من جبروت إنسان ولم يجف دمعها.

وكنْ على ثقة قوية وفي استعداد دائم ولا تجعل الظروف تصنعك كيفما تشاء وتسيرك في طرقات تريدها هي، بل كن أنت صانعها لأنهُ بالفعل أنتَ من تأتي بها للحضور في واقعك.

 

سهى بطرس قوجا

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *