هل إندثرالكلدان حقاً ولم يبقَ لهم أثر !؟. بقلم طلعت ميشو

قبل أيام قمنا، مجموعة من الأصدقاء وأنا، بالعبور إلى مدينة ( وندزور) الكندية التي تقع على الجانب الآخر من (نهر ديترويت – مشيكان) الفاصل بينها وبين ولاية مشيكان الأميركية حيث نعيش، وذلك تلبية لدعوة من (الصالون الثقافي الكلداني) في وندزور، للمشاركة في حضور أُمسية المحاضرة القيمة التي القاها صديقنا -من مشيكان- المؤرخ الكلداني السيد (حبيب حنونا)، والتي كانت محاضرة ناجحة حضرها عدد كبير من نساء ورجال الجالية االعراقية الكلدانية في وندزور- كندا، ودارت بعد المحاضرة الكثير من الأسئلة والتوضيحات والمُداخلات والأفكار المفيدة التي عززت طروحات المحاضرة وأغنَت الأمسية الثقافية الجميلة.
أدناه مُختصر (لبعض) الأفكار التي طرحها السيد المحاضرعن موضوع الأمسية، علماً بأنه سيُشاركني في الرد على الأسئلة والتعليقات التي ممكن أن ترد على الأفكار المطروحة هنا، شرط عدم الخروج بالموضوع إلى متاهات لا تخدم أحد. وشكراً للجميع.

عنوان المحاضرة:
((هل حقاً أن الكلدان قد إندثروا ولم يبقَ لهم أثر !؟ )).
المكان: الصالون الثقافي الكلداني-وندزور-أونتاريو-كندا.
التاريخ: December – 10 – 2016  الساعة السابعة مساءً.

الهدف: تأكيد التواصل الكلداني في بلاد ما بين النهرين تأريخيا، إستنادا إلى المصادر التاريخية. دحض وتفنيد الفكرة المغلوطة التي يُروجها البعض من أن كلدان العراق قد إندثروا بإندثار مملكتهم ؟.

قام الباحث بطرح خلاصة تبين الأراء والخلاف بين الأشوريين والكلدان حول (المسألة القومية) التي تدور تشابكاتها بينهم منذ زمن طويل.
***************************
* ملخص المحاضرة:
يرى الأخوة الأشوريون أن الكلدان قد إندثروا، ولم يبق منهم أثر، وما تسميتهم الحالية (كلدان) إلا تسمية مذهبية، بينما هُم في الحقيقة آشوريون أقحاح لكنهم إنتموا قبل فترة زمنية -بين القرنين 15 و 16- إلى الكنيسة الكاثوليكية، وذلك حين سماهم البابا الفاتيكان “كلداناً” تمييزاً لهم عن أخوتهم أبناء كنسية المشرق الذين ظلوا على معتقدهم الشرقي التقليدي.
بعدها تناول الباحث تعريف معنى القومية وأواصرها، وطرح السؤال التالي: هل يمكن إعتبار الكلدان قوماً لهم هوية قومية كبقية الأقوام التي ظهرت على مسرح التاريخ ؟.
ومن خلال بحثه ذكر مقومات القومية الكلدانية، وهي: [ الوطن – كلديا في جنوب بابل على ضفاف الخليج العربي أو الفارسي والذي كان إسمه التأريخي السابق (الخليج الكلداني)، التاريخ المشترك، اللغة، الرابطة البيولوجية – رابطة الدم والأنساب، الرابطة السيوسيولوجية – العادات والتقاليد الإجتماعية والأساطير، العقيدة الدينية المشتركة ].

قام الباحث بدحض نظرية أن التسمية الكلدانية هي تسمية مذهبية كما يزعم الأخوة الآشوريين، وأكد أن الكلدان قوم كبقية الأقوام، وتسميتهم هي تسمية قومية وليست مذهبية، وتأتي من إسم (كلدو) أو (كلدايا) وهُم أقوام تأريخية موغة في القدم وعريقة أصلها من جنوب العراق، لهذا فهي تسمية ليست مذهبية بل قومية، حيث لم يكن في تلك الآزمنة القديمة مذاهب كما هو الحال اليوم!.

كذلك دحض الباحث نظرية أن الكلدان أراميون !! كما يُشيِعُ ويُروج بعض المُغرضين أو الذين يجهلون التأريخ أو من يكتبون تحت ضغوط ومصالح مُختلفة!، وقال نصاً: “حيث كان الملوك الأشوريون يميزون تمييزاً تاما ما بين الكلدان والأراميين”. وتأكيدا على ذلك أورَدَ الباحث نَصَين من حوليات الملك الأشوري سنحاريب (705-681 ق م)، حيث يسجلُ سنحاريب: “إن ملك عيلام جمع حوله العديد من الحلفاء من جميع الممالك الكلدانية والأراميين … الخ”. وفي مقطع أخر يقول سنحاريب: “أنا سنحاريب، ملك أشور، ركزت اهتمامي وكل تفكيري لإنجازعملي العظيم بأوامر الألهة، أن الكلدان والأراميين والمانيين –سكان كوي وهيلاكو– الذين لم يستسلموا لنيري وسطوتي، قد رَحَلتُهم جميعا الى البلاد الآشورية ليعملوا في البناء وصناعة الطابوق النيء، وسَخَرتُ أعداداً منهم كي يقطعوا البردي لغرض استخدامه في بناء مدينتي …. الخ”
وهنا نرى أن ملوك آشور قد فرقوا وميزوا تماماً وبكل وضوح بين الكلدان والآراميين وكونهما شعبين وقوميتين مُختلفتين في كل شيء!.

كذلك قدم الباحث نبذة موجزة عن تاريخ الكلدان وحضارتهم، وأكد أن الكلدان من أقدم شعوب المنطقة، وانه تم ذكرهم في كتاب العهد القديم عدة مرات مما يؤكد وجودهم عميقاً في تأريخ العراق، “حتى رغم كوننا لا نستطيع أن نضع سقفاً زمنياً لظهورهم في جنوب ما بين النهرين، حيث كانت هناك العديد من الممالك الكلدانية منها مملكة (بيث ياقين) القوية ألتي إستطاع أحد قادتها (نبوبلاصر) السيطرة على بابل عام 626 ق. م، مؤسساً الدولة الكلدانية الحديثة”.
كذلك كان الكلدان من أقدم وأشهر رواد الحضارة الإنسانية (علم الفلك، الري، النظام الستيني، الرياضيات … الخ ) من قائمة طويلة لما قدمه الكلدان للبشرية والتي جعلتهم من أشهر الشعوب عبر التأريخ القديم.

اللغة: تكلم الكلدان اللغة الأكدية، وإستعملوا الخط المسماري في كتابتهم، أيام كانت ممالكهم ودولتهم قائمة، وإستمروا بالتعامل بهما لغاية زمن ظهورالمسيحية، حين بدأت اللغة الآرامية تأخذ دورها المُدهش في حياة الناس في كل بلاد ما بين النهرين وما تعداها، لسهولة تلك اللغة ولإعتمادها على الأبجدية الفينيقية التي تبنتها معظم بلدان وشعوب الشرق الأوسط لدرجة أنها -الآرامية- كانت لغة السيد المسيح العبري.
وكان الكلدان قد تبنوا اللغة الآرامية بعد سقوط دولتهم عام (539 ق. م) على أيدي الفرس وزعيمهم قورش، وترسخت الآرامية تماماً في حياتهم مع ظهور المسيحية، وتم تطويرها لكتابة الإنجيل، ومنها خط الأسطرنجيلي (سطرا إنجيلايا).

*  قدم الباحث أهم أسباب الصراع بين الكلدان والملوك الأشوريين، وبَيَنَ أن السبب الرئيسي كان في المحاولات العديدة لملوك آشور لكسر شوكة الكلدان الذين كانوا المُنافس القوي لهم للسيطرة على مدينة بابل.

*   ( تهجير الكلدان قسرا من الممالك الكلدانية ):
ما الذي جاء بالكلدان وهُم سكان وسط وجنوب الرافدين الى البلاد الأشورية التي هي في شمال الرافدين !!؟. وهذا سؤال ومحاولة باهتة لاهثة كيدية وعقيمة يتعكز عليها الكثير من المُغرضين لإثبات أن الكلدان هم آشوريون بسبب تواجدهم في الشمال، ولكن .. أدناه يُقدم الباحث أسباب وجود الكلدان بغزارة في شمال العراق:
كان المجتمع الأشوري الى جانب كونه مجتمعاً عسكرياً بالدرجة الأولى، مجتمعاً دينياً ايضاً، متعلقاً بأهداب الدين الى درجة كبيرة، وكان يؤمن بأن الحكم مصدره الإله أو بتعبير آخر “الله”، ولهذا كان الأشوريون والبابليون يؤمنون أن الملك هو ممثل الإله على الأرض، وكانوا يعتبرون الإله البابلي (مردوخ) أعظم آلهة بلاد ما بين النهرين الفائقي العدد، وكان مركزعبادته مدينة بابل المقدسة التي كانت تسمى ( بيث-أيل ) بمعنى ( بيت الإله )، ومن أجل أن يكتسب أي ملك بابلي شرعية حكمه من الإله وأن يكون ممثلا له، فكان يتحتم عليه أن يتلمس يد الإله مردوخ -التمثال طبعاً- حين يتم تتويجه كملك، وبهذا يكتسب حق وشرعية حكمه وتمثيله للإله والبلاد والشعب. وقد حاول الكثير من الملوك الآشوريين تقليد الملوك البابليين في الأخذ بيد الإله مردوخ البابلي حين كان يتم تتويجهم، وهذه واحدة من الأسباب التي دعتهم للسيطرة العسكرية شبه الدائمية على بابل كي يكونوا قريبين من الإله مردوخ حين تتويجهم!.
لهذا السبب، ولأسباب أخرى أهمها أن مدينة بابل كانت تتفرد بكونها مركزاً حضاريا وثقافياً ودينياً عظيماً ومُهماً لكل شعوب بلاد ما بين النهرين لم تصل له الممالك الآشورية أبداً، كانت أنظارالأشوريين دائما متجهة نحو مدينة بابل، تريد إخضاعها وإحتوائها وضمها الى مملكة آشور، كي يُضيفوا زخماً حضارياً وعلمياً ودينياً كقاعدة أوسع لدولتهم، وهذا إضطرهم عبر واحدة من غزواتهم لمدينة بابل إلى سرقة تمثال الإله البابلي (مردوخ) وتمثال زوجته (صربانيتم) من البابليين بغية توجيه أنظار كل سكان بلاد الرافدين طولاً وعرضاً إلى أهمية الأمبراطورية الآشورية، ومن ضمنها الأهمية الدينية بعد حيازتهم على تمثال الإله مردوخ !!!.
كذلك كان الأمر بالضبط بالنسبة للكلدان، فقد كانت الممالك والقبائل الكلدانية هي الأخرى تطمح -مثل الأشوريين- إلى السيطرة على مدينة بابل التي كانت مركز الثقافة والعلم والدين دائماً. ولكل هذه الأسباب كانت الدولة البابلية والممالك الكلدانية المتاخمة لها عرضة للحملات العسكرية الأشورية العنيفة يوم كانت الإمبراطورية الآشورية في أوج قوتها وعظمتها. وكانت الممالك الكلدانية بنظر الأشوريين هي العقبة والمنافس الوحيد لهم فيما يتعلق بالسيطرة على مدينة بابل بصورة خاصة، والدولة البابلية بكامل رقعتها بصورة عامة، ولهذا كانت سياسة الأشوريين تتمحور أساسا في اخضاع الممالك الكلدانية إلى السيادة الأشورية، أو القضاء عليها نهائياً إن أمكن، أو تشتيتها على كأضعف الإيمان، وبذلك سيسهل على الأشوريين السيطرة والإستحواذ كلياً على الدولة البابلية في غياب المنافس الكلداني من على الساحة. ولهذا راحوا يستعملون سياسة تهجير الكلدان من أراضيهم وتسكينهم البلاد الآشورية تخلصاً منهم. وإضعافاً لقوتهم في الوسط والجنوب الرافدي يومذاك.

*  الأسرى الكلدان المُرَحَلين من كلديا إلى آشور بالأرقام بموجب حوليات الملوك الأشوريين:
.  في زمن الملك الآشوري ( شلمانصر الثالث .. 850 ق. م ): تم تهجير 22.000 كلداني من مملكة (بيث دكوري)، وتم إسكانهم في مدينة آشور.
.  في زمن الملك الآشوري ( تغلث بلاسر ) تم تهجير 155.000 كلداني من الممالك الكلدانية خلال ثلاث حملات للفترة (731 – 728 ق. م)، وتم  إسكانهم في إقليم أرابخا (عرفة) كركوك وإقليم أشورغربي نهر دجلة.
. في زمن الملك الآشوري ( سرجون الثاني ) تم تهجير 90.580 كلداني من مملكة (بيث ياقين) عام 709 ق.م، إضافة إلى 16.400 من (دور أثارا) عاصمة كمبولو.
.  في زمن الملك ( سنحاريب .. 705 – 681 ق. م ) تم تهجير 208.000 مواطن كلداني من 75 مدينة و420 قرية كلدانية.

مجموع المُهَجَرين 491.980، منهم 470.000 كلدانياً تم تهجيرهم خلال فترة خمسين عاما (731 – 681 ق. م). بعض المؤرخين يُقدِرون عدد الكلدان المهجرين بما يزيد على المليون!. كل هذه الإحصائيات إستندت الى ما ورد في المدونات الأثرية ل (53) حملة من الحملات العسكرية للملوك الآشوريين التي إستهدفت بلاد الكلدان ومدينة بابل.
إضافة إلى أنه حتى الملك الآشوري الكبير (آشور بانيبال) قام بعد تخريب بابل وحرقها ونهب مكتباتها، بِسَوق آلاف مؤلفة من الكلدان إلى نينوى وما حولها وكان تركيزه على تهجير فئة (الكَتَبة والفنانين والحرفيين) بالدرجة الأولى.

* أين تم توطين المُهَجَرين الكلدان ؟.
أن التهجير الجماعي للكلدان الذي قام به الملوك الأشوريون في العهد الأشوري الوسيط وعهد الأمبراطورية الحديثة وبالأخص عهد السلالة السرجونية (721 – 609 ق م) ليست نظرية جديدة يجتهد بها الباحثون، بقدر كونها حقيقة تدعمها المدونات الآثارية للأشوريين أنفسهم، وجل اولئك تم توطينهم في المدن الأشورية الرئيسية الكبرى وهي: أشور، نينوى، كالح (نمرود)، دور- شاروكين (خورساباد) وغيرها من المدن الأشورية القائمة آنذاك، وكذلك في مناطق أخرى، وقد تم توطين الكثير منهم في محيط جبل سنجار، و حوض نهر الخابور (من روافد نهر الفرات)، ومنطقة (الرصافة) في  البادية السورية أو في مستوطنات أو قرى تم إعمارها وتهيئتها لأيواء الأسرى والمُرَحَلين، وعلى سبيل المثال، فقد ورد في  مسلة  للملك (أدد – نيراري الثالث 810-783 ق. م) التي عُثِرعليها في تل الرماح (80 كم غربي الموصل 12 كم جنوب تلعفر)، تشير تلك المسلة أنه كان هناك 331 قرية أو مجمعات سكنية لتوطين المُهَجَرين وأسرى الحرب، وكانت مسؤولية هذه المعسكرات قد عهدت الى الحاكم (نركال-إيريش 803-775 ق. م) حاكم إقليم الرصافة، ومن الجدير بالذكر إنه كان في سهل نينوى مستوطنات أو معسكرات عدة خُصِصَت للمهَجَرين الكلدان، من بينها معسكر “بيث شبيتا” أي بيت الأسر، وموقعه حيث تقع حاليا بلدة باشبيتا غربي بلدة كرمليس .

*  ( الأهداف و الغايات من عملية التهجير الشمولية):
معاقبة المناطق المتمردة التي كانت ملحقة بالدولة الأشورية، وعملية التهجير هي محاولة جادة لتقليل نسبة حدوث أي تمرد مستقبلي ضد الإمبراطورية الآشورية.
التجنيد الإجباري والطوعي في الخدمة العسكرية لزيادة عدد القوات العسكرية الآشورية، بعد أن يتم تطبيع الأسرى والمُهَجَرين في داخل المجتمع الأشوري.
المهجرون مصدر جيد لا ينظب للأيدي العاملة في البناء والتعمير، كذلك للحصول على المُبدعين والفنيين والحرفيين الذين سيكونون ظهيراً وسنداً للدولة الآشورية في زمن الحرب والسلم معاً.
وقد أشار الباحث إلى أن الملك (سرجون) إستخدم العديد من المُهَجَرين الكلدان في بناء مشاريعه، حيث يذكرُ في واحدة من حولياته -الحولية هي ملخص أعمال و إنجازات الملك في سنة واحدة- التي وُجِدَت منقوشة على احد جدران قصره في خورساباد، يذكر إنه إستخدم الأسرى الكلدان في بناء عاصمته الجديدة  (دور-شاروكين (خورساباد) فيقول: “بيث أموكاني، بيث دكوري، بيث شيلاني، بيث شعالا في بلاد الكلدان بما فيها مملكة بيث ياقين، إستَخدَمتُ الأسرى الذين جلبتُهُم من هذه الممالك في بناء مدينتي التي أسميتها بإسمي – دور شاروكين … الخ”.
ملاحظة: كلمة شاروكين هي نفس إسم: سرجون أو ساركون .
ويستطرد سرجون قائلاً: “وجعلت هؤلاء الأسرى يعملون في الطين لبناء مدينتي”.
ولا يَستبعد الباحث السيد (حبيب حنونا) من أن أجداد سكان بَلدَتي باطنايا (بيث طينايي) أي بيت الطين، وباقوفا (بيث قوبا) أي بيت الأخشاب، القريبتان من دور- شاروكين (خورساباد) قد ساهموا في بناء مدينة دور- شاروكين.

لم تكن الغاية الرئيسية من التهجير والأسر جلب العبيد او المتاجرة بهم!، فالملوك الأشوريون قلما إعتبروا هؤلاء الأسرى عبيداً، بل كانت الغاية الرئيسية منهم هي تقليل نسبة تمردهم، مع زيادة القدرة البشرية والإستفادة منها في كل من: بناء المدن وتحصيناتها، تقوية الجيش، جلب الأيدي العاملة والحرفيين وتطبيعهم في المجتمع الأشوري وإغناءه من تراث و ثقافات الشعوب المحتلة بما يدر بالفائدة العميمة على الدولة الأشورية على كل الصعد حاضراً ومُستقبلاً.

كذلك نجد أنه كان (الأسر) في غالب الحملات أسراً شموليا جماعياً، ولا يقتصر على الرجال فقط، بل كانوا يأخذون العائلة بأسرها، الصغار والكبار وحتى الشيوخ، ويسمحون للجميع بأخذ مقتنياتهم وحيواناتهم وحتى آلهتهم!، كي يؤسسوا حياة جديدة لهم في البلاد الأشورية، وتلك كانت ايضا بادرة جيدة حتى لا يشعر الأسير بالإغتراب عن عائلته وقومه. وكان يتم تجميع المُهَجَرين الوافدين من منطقة معينة في قرية واحدة بحيث يشعرون أنهم لا زالوا معاً رغم تغييرالأرض التي يسكنونها، وعلى سبيل المثال وإستنادا إلى إحدى المدونات، فكان قد تم إنشاء قرية جديدة بالقرب من مدينة حاران (على الفرات جنوب تركيا)، سموها (كمبولايا)، وفيها تم إسكان أسرى ومُهَجَرين من قبائل (كمبولو) الكلدانية.

* ( التهجير وتأثيره على الخارطة الديموغرافية للدولة الأشورية ):
وقد نتج عن سياسة الترحيل والتهجيرالتي اتبعها الملوك الأشوريون ظهور نوع فريد وجديد من المجتمعات، كان مزيجاً وخليطاً (لملوم) من الجماعات القومية،
وكان ملوك آشور يعرفون أن (النقاء العرقي) أمر غير وارد وغير معقول بالنسبة لشعبهم، حيث منذ العصورالأولى لتواجدهم كان لهم تأريخ عرقي خليط وهجين، وزاد الطين بلة، خطة التهجيرالجديدة المتعمدة التي إتبعوها، والتي أدت إلى زيادة نسبة الخليط العرقي واللغوي وبصورة واضحة جداً.
وكمثال على ذلك كان الجيش الآشوري يتكون من أكثر من عشرة أقوام وأجناس وشعوب وقوميات مختلفة تماماً ومن جغرافيات وبلدان ومدن ولغات مختلفة، وهكذا كان الشعب الآشوري أيضاً، خليطاً ممكن تفرقته بسهولة لولا شراسة وقوة وقسوة الملوك والحكام والمتنفذين في ظبط وتسيير تلك الجيوش الجرارة والشعوب المأسورة!.
إن التواجد الكلداني المكثف في شمال أرض الرافدين في عهد الأمبراطورية الآشورية غيَرَ الخارطة الديموغرافية للمنطقة الأشورية بأسرها نتيجة التهجيرات القسرية للكلدان وغيرهم من مواطنهم الأصلية. وأصبح العنصر الكلداني داخل الدولة الآشورية نداً للعنصر الأشوري، بل -ومع بقية الشعوب المأسورة- زاد عليه كما يقول البروفيسور (بارابولا): “أن العنصر الأشوري أصبح أقلية في بلاده يومذاك” !.

* (حملات التهجير لم تكن حصراً على الكلدان):
لم تقتصر الحملات العسكرية للملوك الآشوريين على الكلدان و الدولة البابلية فقط، بل شملت معظم الممالك والدول المحيطة بالدولة الآشورية ذات إثنيات و شعوب مختلفة، فمثلا قام الملك (سرجون الثاني) بغزو اليهود والأرمن والفينيقيين والعيلاميين وغيرهم من الأقوام، وإستنادا إلى ثلاث لوحات جدارية ضخمة عثر عليها في قصره الفخم في مدينته دور- شاروكين (خورسباد) تبين أن سرجون الثاني أغارعلى مملكة السامرة اليهودية سنة (721 ق. م)، ورحل من سكانها 27.290 يهودياً، وأسكنهم البلاد الأشورية. ويعتقد الكثير من المؤرخين أن سكان بلدة (صندور) شمال مدينة دهوك العراقية ترجع أصول سكانها إلى أولئك اليهود الذين رحلهم سرجون الثاني من السامرة الى الدولة الأشورية. علماً أن بلدة صندور إختفت من الوجود بعد أن غمرتها مياه بحيرة سد دهوك الذي أنشىء عام 1988.
وفي السنة الثانية (720 ق. م) أغار سرجون على حماة، كركر ودمشق وأبادَ 9033 من سكانها، وفي السنة الثالثة والسادسة والسابعة أغارعلى أرمينيا، وأسر من اورسا الأرمنية 4200 أرمنياً وجلبهم الى آشور، وأسر من دلتا الأنهار العليا الألاف من سكانها.

*  أما في الفترة المسيحية، فأغلب الإضطهادات التي وقعت على الكلدان كانت بسبب إنتماءاتهم الدينية بعد أن دخلوا جميعاً في حضيرة الدين المسيحي. وأدناه مُختصرصغير جداً عن هجرة الكلدان عن أراضيهم كنتيجة حتمية للإضطهادات الدينية التي لاقوها بعد دخولهم في الدين المسيحي:
•   مرحلة حكم الفرس:
في عهد شابور (379-339 م)، أردشير الأول، بهرام الرابع، بيروز وخسروا (531 – 579 م).
يقول (أوبري فاين) في كتابه (الكنيسة النسطورية): “وقد اضطر الكثير من سكان السهول -غالبيتهم من الكلدان- الهرب الى الجبال النائية والى مناطق غربي الفرات في سوريا ولبنان وجزيرة قبرص التي كانت تحت حكم الأمبراطورية الرومانية”.
ونقرأ في كل الكتب أن المسيحيين عانوا من إضطهاد الفرس لهم مدة قرنين من الزمان، تخللتها فترات متقطعة من حسن المعاملة على عهد بعض الأكاسرة، وخاصة منتصف القرن الخامس الى بدايات القرن السادس الميلادي، وخلال تلك السنوات استطاعت كنيسة المشرق إسترداد انفاسها وبعض عافيتها بحيث إتسع إنتشارها شرقاً حتى وصلت أقاصي الصين !.
. مرحلة الحكم الإسلامي:
•   في عهد الخليفة الأموي (عبد الملك بن مروان .. 686 ـ701 م) تم فرض الجزية وقوانين الذمة وتحويل الكنائس إلى جوامع. كذلك ولى الحجاج بن يوسف الثقفي على رقاب العراقيين، وكانت واحدة من مظالمه التي لا تُحصى ضد المسيحيين الكلدان هي منعه إستخدام اللغة الكلدانية قراءةً وكتابة في العراق، مما أدى إلى نزوح الكثير من االكلدان عن أراضيهم هرباً إلى شمال العراق.
•   في عهد الخليفة العباسي (المأمون .. 813 – 833 م) حدثت هجرة جماعية كبرى لمسيحيي مدينة بغداد، استقرت في منطقة سنوب (Senope) على البحر الأسود.
•   في زمن الخليفة العباسي (المتوكل .. 847 – 861 م) الذي سام المسيحيين أنواع العذاب والإضطهاد والتنكيل كما لم يفعل أحد من قبل، نراه قد أعاد وعَممَ وطَبقَ فقرات (العهدة العمرية) وبصورة تجاوزت المعهود!، مما أدى إلى هرب المسيحيين ومنهم الكلدان الى المناطق التي كانت خاضعة للروم في سوريا وتركيا، مثل مناطق (دياربكر وماردين ونصيبين والرها وحران.. الخ )، ونقرأ أن (إبن النديم) يُسمي سُكان هذه المناطق بالكلدانيين !.
•   في زمن الطاغية (تيمورلنك .. 1400 م) وعلى يديه كانت كارثة الكوارث، فيوم إحتل  تيمورلنك مدينة بغداد عام 1400م أعمل السيف في رقاب اهلها دون تمييز، ومن تبقى من نصارى بغداد يومذاك هربوا لاجئين الى القرى والجبال الشمالية النائية خوفا من القتل والذبح والإستئصال.
وقد جاء في كتاب (نزهة المشتاق في تاريخ يهود العراق) ليوسف غنيمة ص 151-152: “هَجَرَ النساطرة بغداد والبصرة وكل مدن العراق ما عدا الموصل وتوابعها، والتجأوا الى قمم كردستان وبلاد فارس”.
وجاء في كتاب (تقويم قديم للكنيسة الكلدانية النسطورية) نشره المطران (بطرس عزيز) عام 1917م: “قبل الهجرة الكبرى في القرن الخامس عشر، كان في بغداد وضواحيها ستة عشر ألف بيت مسيحي !!، يدير شؤونها (مطرابوليط) واحد، وسبعة أساقفة ، وخمسمائة كاهن!، أما في نهاية القرن السابع عشر فقد خَلَت بغداد من المسيحيين الا من نزر قليل”!!.
نستخلص من نتائج البحث:
أن الكلدان التأريخيين لم يندثروا ولم تنقطع مسيرتهم وديمومتهم على مسرح التاريخ ولحد اليوم، بل إستقرت خلاصتهم -للأسباب واردة الذكر- في (شمال العراق، شمال شرق سوريا، شمال غرب إيران، ومناطق هكاري والطور في جنوب شرق تركيا)، وبسبب عدد الكلدان الكثيف في المنطقة الأشورية الشمالية، لم تعد البلاد الأشورية احادية الإثنية، بل ثنائية الإثنية، من الكلدان والأشوريين معاً، فإختلط الشعبان وتجانسا على كل الصعد، ثقافيا ولغويا وإجتماعيا، وإمتزجوا وإنصهروا من خلال العيش المشترك والتصاهر فيما بينهم. وعند ظهور المسيحية وإعتناقهم لها جميعاً قويت آصرتهم معاً حتى رغم بعض خصوصياتهم المتوارثة، وإتحدوا تحت راية كنيسة واحدة هي (كنيسة ساليق) والتي سُمِيَت لاحقا (عيدتا د مذنحا – كنيسة المشرق).

* في نهاية المحاضرة أو البحث يقول السيد حبيب حنونا: “لا العقل ولا المنطق يقبلان بفكرة أن الأعداد الضخمة للكلدان الذين إستوطنوا آشور، وتحديداً شمال بلاد ما بين النهرين، ونتيجة للتهجيرالقسري منذ قرون عديدة، قبل المسيحية وبعدها، والذين جاوز عددهم النصف مليون إنسان وربما المليون بموجب مصادر أخرى قد إندثرت ومحي أثرها!!، بينما بقي حياً (العنصر الآشوري) فقط كما يدعي بعض المُغرِضين الإنتقائيين” !!!.
هل تبخر هؤلاء الكلدان من على وجه الأرض، أم تم نفيهم إلى المريخ، أم هاجروا دفعة واحدة بحيث خَلَت منهم أرض أجدادهم، أم ماذا ؟”، وهل كل هذا التنوع في عادات وتقاليد وممارسات وأزياء ولهجات القرى المتناثرة في شمال العراق وجنوب شرق تركيا لا يعني شيئاً للدارس الباحث عن الحقيقة ؟، وإن لم تكن الأصول التأريخية لسكان عشرات القرى الشمالية من جذور ومواقع وممالك كلدانية قديمة مختلفة، فجذور من هي إذن؟.
الحقيقة التي لا يُريد أن يعترف بها الأخوة الآشوريون هي أن موجات البشر من الكلدان النازحين تأريخياً إلى شمال العراق -طوعاً أو قسراً- قد إندمجت وتعايشت معهم جنباً الى جنب، مختلطين معاً في مدن أو قرى وبلدات بُنيت أصلا كمجمعات للأسرى والمرَحَلين إلى المناطق والجغرافيات التي كانت من ضمن الإمبراطورية الآشورية.
كذلك يجهل أو يتجاهل البعض حقيقة أن حياة  ودماء الكلدان إختلطت عبر مئات السنين مع دماء إخوتهم الأشوريين من خلال العيش المُشترك والمصير الواحد، فتطبعوا وتزاوجوا وإنصهروا معاً في بودقة اللغة و التراث والحضارة والعقيدة الدينية والتقاليد وأحياناً حتى في نوع وحجم الإضطهاد الديني والقومي الذي لاقوه على أيدي جلاديهم ومن حاول إستئصالهم عرقياً أو حاول غصبهم على ترك ديانتهم المسيحية.
أن التعايش المشترك للمُهَجَرين الكلدان قسراً نتيجة الحملات العسكرية في عهد السلالة السرجونية والرحيل بشكل أو بآخر نتيجة الإضطهادات الدينية منذ عهد (شابور .. 379 – 339 م) مروراً بإضطهادات خلفاء الدولة الإسلامية بكل تسمياتها، زائداً مهالك تيمورلنك وما تلاه من طُغاة وحكام قتلة وسفاكي دماء، جعلت من الكلدان و الأشوريين أمة واحدة، ومن هذا المزيج ولدت وإنبثقت كنيسة (ساليق أو كنيسة كوخي)، والتي تَسَمَت بكنيسة (المشرق) لاحقا”!.

•  يقول المؤرخ والباحث السيد حبيب حنونا أيضاً في نهاية محاضرته: “لي عقيدة راسخة لا تتزعزع إن في عروق كل من يعتبر نفسه آشوريا دماءً كلدانية، وفي عروق كل من يظن نفسه كلدانيا دماءً أشورية، أن النقاء العرقي غير وارد إطلاقا، لا بالنسبة للكلدان ولا بالنسبة للأشوريين ولا إلى أي قوم آخرين في العالم، ولكن وبنفس الوقت من حق الجميع إعتبار أنفسهم عائدين لهذه القومية أو تلك، فمتى يعي البشر هذه الحقيقة التي لا تقبل النقاش” !؟”.
ويُضيف قائلاً: “شخصياً .. أقدر مشاعر كل من يعتز بتسميته القومية، سواءً تصور أنه كلداني أو أشوري أو سرياني أو أو. وأعرف يقيناً أن من حق كل إنسان أن يعتبر نفسه ما يظن أنه هو، وهذه واحدة من حقوق الإنسان المُعاصر
اليوم، وهي حق الإختيار. ومن خِلال كل ما تقدم أقول بأن فكرة أن الكلدان قد إندثروا وإنقرضوا ما هي إلا إدعاء باطل كيدي وإنتقائي، ما دام هناك من يعتبر نفسه كلدانياً، وهو حق لا يُنتَهَك، ولا يقبل الغلط”.

المجد للإنسان.

الحكيم البابلي 
 
الحوار المتمدن-العدد: 5018 – 2015 / 12 / 19 – 12:29 

طلعت ميشو.

You may also like...

1 Response

  1. joseph putres says:

    على ما ذكر انفا والدليل اننا كلدان مهجرون من جنوب ووسط العراق الحالي ان كل قريه تتميز بلباسها التقليدي ولهجتها الكلدانيه لا توجد قريه مسيحيه ازيائها متطابقه 100 % ولا حتى اللهجه من القوش الى تللسقف وبطنايا وتلكيف وقرقوش وبرطله وغيرها من قرى وقصبات المنطقه ولكنهم عندما يتحدثون يفهمون بعضهم البعض كما الحال الان في جنوب ووسط وشمال العراق لهجات مختلفه ولكن السامع يفهم هذه اللهجات وهذا دليل دامغ علما نحن الكلدان نسمي الاشوريين ( ناشه دبرا ) اي اصحاب ريشه او ( طورايي ) جبليين

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *