هـمسة أكـثر صدقاً في ضمائر الـكـُـتــّاب والـنشـطاء الـكـلـدان

بـداية نحـن مستـقـلون لا نـضاد أحـداً إطلاقاً وحـتى المخـتـلـفـين معـنا في وجهات الـنـظـر فإن كـل واحـد حـرٌ في رأيه ومأكـله وألـوان ملابسه والإخـتـصاص الـذي يمارسه في حـياته ، بل وكـما قال المرحـوم الشهـيـد المطران مار فـرج رحـو ” إذا كان هـناك مَن يريـد أنْ يعادينا فـنحـن نبقى نحـبه ، إنها ثـقافـتـنا تعـلمناها من ربنا ” فالأخـُـوَّة مواقـف أخـوية وليست بضاعة منـتهـية المفـعـولية ، الإخـوة مشاعـر لا يستحـقـها ناكِـر الجـميل ومهَـرِّج الإنجازات الوهـمية ، وإذا نـطـق هـفـوات صبـيانية لا عـتاب عـليه لأنه ينـضح من أخلاقه الكامنة المخـفـية ، ورغـم أن الخـزانات صافـية إلاّ أن الأنابـيب المتهـرّئة تـقـذف زنجاراً من فـوهة الحـنـفـية ، ولكـن لا تخـف ! فالله يغـفـر زلات كـل أبناء الـبشرية .

إن مسيرة الحـياة عَـبر عـشرات ومئات الألاف من السنين وتـنـوّع الـناس في تـنـقلاتهم وإخـتلاطاتهم وإنـدماجاتهم غـيرتْ جـغـرافـيتهم ومسـتوى ثـقافاتهم وأذواقهم ، تـزوَّدوا بطبائع وخـيارات مخـتـلفة ، وبإنـتماءات جـديـدة لم تكـن موجـودة ، شأنهم شأن أبناء الأسرة الواحـدة من والـدَين إثـنين ، أرضعـتهم أمهم من ذات الـثـديَـين ، وبرعايتها إحـتـضنـتهم وفي دار واحـدة حـمتهم ، نراهم في طـفـولتهم يتشابهـون ومن نـفـس المائـدة يأكـلون ، وعـلى ذات الفـراش ينامون وكـثيراً ما يتبادلـون نـفس الألبسة فـيلبسـون ….. وكـلما تـقـدموا في العـمر تـظهـر عـنـدهم ملامح الإعـتـزاز بالـذات والإستـقلالية مع الإحـتـفاظ بمعـزة إخـوتهم وهـذه هي الـبـداية …. ثم تأتي الـتـنوعات في المقاسات والمواهـب والهـوايات وهـذه ليست دخـيلة عـليهم من خارج أسرتهم ولكـنها طـبـيعة الخـَلق هي التي تـمنح لهم ميِّـزاتهم .

وكـلما فاتـت عـليهم السنون تـفـرز عـنـدهم ثـقافاتهم المتباينة وآراءهم المخـتـلفة فـترى أحـدهم يميل إلى الفلاحة وآخـراً راعـياً للغـنم والثالث إسكافـياً أو صياداً هـذا في عـهـد قـديم مضى ، وفي عـهد التـطـور صار أحـدهم طبـيـباً والثاني تاجـراً والثالث مهـنـدساً يعـملون مع العامل والفـنان ناهـيك عـن تعـدد ميولهم الإجـتماعـية …. وكـل واحـد منهم يكـمل الآخـر في أسرة واحـدة أو بـلـدة مجاورة …. وهـذه كـلها شيء ، ” والـنـفـس لأمّارة بالسوء ” عـلة آخـرى .

لـقـد طـفـتْ هـذه العـلة أمام العـيان منـذ القـدَم بصوَر كـثيرة ، منها نـزوع الإنسان إلى حـب الـتـسلط الـذي يقـود إلى عـشق الـتملك ، يـبـدأ بظهـور بوادر الإستحـواذ ما أمكـن عـلى اللعَـب عـنـد الـطـفـل ، وكـلما كـبُـرَ تـوسعـتْ عـنـده مساحة حـب الإمتلاك لـتـصاحـبها غـرائز مفاجـئة تشجعه عـلى تمكـين سـلطـته الـذاتية وتـنعِـش خاصية الإمتلاك الأنانية من أجـل الـتـنـفـيس عـن تلك الغـرائـز النامية فـيـبـدأ الصراع مع محـيطه ، ولكـن وعي الإنسان وضميره وثـقافـته تـصقـل أخلاقه وتجـعـله يقـبل بالحـق وعـدالـته ! أو بالأحـرى يقـتـنع بأنْ ليس له الحـق في إملاء رغـباته عـلى غـيره ولا يرضى من المقابل أنْ يفـرض إرادته عـليه ، وعـنـدئـذ تـزول أسباب الحـيرة ، وهـل تـتـطـلـَّـب الحـيرة أصلاً ؟

عـرفـنا عـلة الإنسان السلـبـية تلك ، لكـن نعـمة الوعـي الإيجابـية هي عـلـته الثانية تـقـوده إلى الحـرية في الإخـتـيارات والأذواق . فالمـذهـب حـرية لـكـل واحـد ، ﭙـروتستانـتياً كان أو نسطـورياً أو معـمـذانياً أو كاثـوليكـياً وغـيرها الكـثير وجـميعـهم مسيحـيّـون ، مثل الشيعي والسني وجـميعـهم مسلمون ، بل أنّ الحـرية تـظهـر بجلاء أكـثر حـين تعـمل مشاعـره مع إرثه فـيخـتار إنـتماءه القـومي كالسرياني والأرمني والآثـوري والعـربي والكـردي والكـلـداني والصابئي والإنـﮔـليزي وهـكـذا . إنّ هـؤلاء جـميعـهم ينـتـمون إلى صنف واحـد وهـو الصنف البشري الآدمي الإنساني .

تعـلمنا في مـدارسـنا شيئاً عـن الـتأريخ والإنسان الـقـديم وتعاقـب الشعـوب وإنجازاتها الـتي صارت تحـت الـتراب ، ولا بأس من تـنقـيـبها والإستـفادة من خـبرات القـدماء وباحـثيها ، كما قـرأنا عـن إنـتـقال موجات بشرية هائـلة من مكان إلى آخـر عـلى سطح كـوكـب الأرض ثم أعـقـبتها موجات متـنـقـلة جـديـدة كالتي نراها تـتـداخـل فـيما بـينها حـتى الـيوم .

فالبشر في حـركة مع أرقام السنين المتـزايـدة ، والمنطـق يرفـض الـمشي إلى الـوراء فلا يمكـن أن نـطلب من 320 ملـيون أميركي الرجـوع إلى بـلـدانهم الأصلية ونبقي ربع ملـيون من الـهـنـود الحـمر لـوحـدهم ، وهـكـذا يستحـيل إرجاع 30 مليون أسترالي إلى حـيث أتـوا ويـبقى الأبورجـينـيّـين أصحاب الأرض الحـقـيقـيّـين ، إنّ تـفـكـيراً كـهـذا هـو ضرب من الخـيال غـير الـسوي .

في مقال سابق كـتبتُ : نحـن كـلـدان اليوم لا نـفـكـر في بناء أسـوار بابل ولا الجـنائن المعـلقة ولا الحـضر ، ولا نخـطط لإيـواء 700 راهـب في دير الربان هـرمزد كـما كان أيام زمان لـترجع هـيـبته ! إنّ جـغـرافـية الكـلـدان ممتـدة عـلى مساحة العـراق الموحـد دون أن نـتحـكم بمصيره لـوحـدنا لأنـنا الـيوم شـركاء ولسنا أمراء ، فالفاو مثـل زاخـو ، وألـبو كـمال مثـل منـدلي هي وطـنـنا وليس من العـقلانية أن نـقـول للعـرب إرجـعـوا إلى حـيث أتيتم إنْ كان من الجـزيرة العـربـية أو غـيرها ، ولا يمكـن أن يُـقال للأرمن إرجـعـوا إلى أرمينيا ، ومَن كان أصله هـنـدياً يرجع إلى الهـند ، بل نـدعـو إلى الـتعايش السلمي بـين الجـميع تحـت قانـون واحـد لا يميز هـذا عـن ذاك فإذا أفـلحـنا نكـون جـميعـنا ناجـحـين ، وإنْ فـشلـنا فجـميعـنا فاشلون ولـنـتـعـلم من دول المهجـر التي فـيها أكـثر من 150 قـومية ولغة ولا مشكـلة بـينهم فحـقـوق الجـميع محـفـوظة بقانـون واحـد للجـميع ، ولا حاجة إلى الـتـقـوقع القاتل .

أتـذكـر أيام زمان في المحافـظات الكـبـيرة كانت كـل مجـموعة عـوائل تعـيش في دار واحـدة ، تشتـرك في مطبخ واحـد وحـديقة واحـدة والـنوم عـلى سطح واحـد صيفاً ، ولكـن لكـل واحـد خـصوصيته في غـرفـته ونوعـية آثاثه وملـبسه وغـذائه وكـنيسته وإخـتـيار مـدارس لأبنائه وجـميعـهم منسجـمون ، فـماذا دهانا الـيوم ؟ لماذا أريـد أن أتحـكم بمصيرك ، أو تريـد أن تـتـسـلط عـلى كـياني ؟

إن كـل واحـد يعـتـز بنـفـسه وبأبـيه وأمه وعـمه وخاله وجـميع أفـراد عـشيرته ثم أبناء بـلـدته ووطـنه ، ولـو شاءتْ الـصدفة أنْ نـلـتـقي بأناس من كـواكـب أخـرى سنـفـتخـر أمامهم بكـرتـنا الأرضية لِما فـيها من غابات جـميلة ومحـيطات واسعة وعـلوم متـقـدمة … ولا ضير في ذلك .

والـيوم حـين نكـلـم أبناءنا عـن ماضينا وتراثـنا إعـتـزازاً بإسمنا إنما الغاية هي الإستـفادة منه وليس لإعادة تلك الأمجاد كـما كانت فـنلغي بغـداد ونرفع راية فـوق بابل عاصمة للعـراق ونقـيم من بـينـنا نـبوخـذنـصر ثاني فـيسبي الـيهـود ، لأن هـذا تخـلـف ورجـوع ألاف من السنين إلى الـوراء لا يقـبله عاقـل ، وهـكـذا نفـكـر نحـن الـكـلـدان ولا نملي إرادتـنا عـلى غـيرنا ، ولا غـيرنا يفـرض أوامره عـلينا ، ولم يـبق من جانبنا سـوى أن يقـبلـنا ونـقـبل الـذي أمامنا .

بقـلم : مايكـل سـيـﭙـي / سـدني ـ 9 آذار 2013

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *