نكسة مأساوية غير مسبوقة بتاريخ العراق الحديث

تفاجأ العالم بأسره وبخاصةٍ العراقيون بقيام قطعان داعش (دولة الإسلام في العراق والشام) الوحوش في العاشر من حزيران 2014 بغزو مدينة الموصل مركز محافظة نينوى ثاني اكبر المحافظات العراقية مساحة وذات الموقع الجغرافي المُميَّز استراتيجياً، حيث تحُدُّها من ناحية الغرب سوريا معقل الإرهابيين وعِبر هذه الحدود تتسلَّل عصابات داعش الإرهابية الى العراق منطلقة من مدينة دير الزور. استباح الداعشيون الغزاة الموصل واستولوا على مصارفها الحكومية والأهلية وأفزعوا أهلها ولا سيما المكوَّنات الصغيرة منها غير المُسلمة مُخيِّرين إياهم ثلاثاً، إما اعتناق الإسلام أو دفع الجزية أو ترك منازلهم بكُلِّ ما لديهم من مقتنيات وأموال  والخروج من المدينة ضمن فترة محدَّدة وقصيرة جداً.  

إنَّ مَن ساهمَ في بلوغ عناصر ما تُسمَّى”دولة الإسلام في العراق والشام” الى أهدافها المرسومة لها من قبل مُسانديها ومُمَوِّليها الدول الإقليمية ولا سيما الخليجية منها السائرة في فلك السياسة الأمريكية هم المُهيمِنون على زمام السلطة في العراق أعني بهم المكَوِّنات الرئيسية الثلاثة “العرب الشيعة والعرب السنة والأكراد” تقف وراءَهم قوتان خارجيتان هما الولايات المتحدة الأمريكية ودولة ايران الإسلامية وقوة داخلية هي المرجعية الدينية الشيعية العليا. تسعى هذه القِوى الثلاث رغم عِلمِها باستحالة مسعاها أن تتفق هذه المكونات الى تشكيل حكومة وحدةٍ وطنية لتُنقذ العراق وتُخرجَه من حالة الفوضى المُستشرية في أوصاله أدَّت الى الصِدام المذهبي الدموي بين شيعته وسنَّته، وكما أسلفنا فقد فشلت هذه القِوى في إزالة الحقد الشديد والكراهية المُفرطة المُستحكِمة بينهما، حيث أصرَّت هذه المُكوِّنات المتناحرة على ترسيخ ثوابتها الطائفية وعدم رغبتها في الإنخراط “بالبودقة الوطنية” وليس مستَبعَدا أن يُسفر هذا الصراع عن عواقب جداً وخيمة ليس على العراق وحده بل ستتعدّاه لتشمل منطقة الشرق الأوسط بأكملها.   

وإزاء فشل هذه القوى في إرساء اسُس المصالحة الوطنية، اعتقدت القوتان أميركا وايران ولا زالتا تعتقدان بأنَّ الواقع العراقي لا يصلح له إلا الحكم الديكتاتوري، ورأتا في شخص السيد نوري المالكي بأنَّه الرجل المناسب والقادر على لَمِّ شمل العراقيين وإصلاح الواقع المتردّي، فدعمتاه معنوياً وسياسياً بالرغم من معارضة العرب السنة والأكراد ومطالبتهم مراراً وتكراراً باستبداله! اعتمد المالكي سياسة المُحاصصة الطائفية في تسيير شؤون الدولة  مُستندا على بعض المواد الدستورية المختارة ومُستغلاً ضعف البرلمان المؤلف بغالبيته من أشخاص غير مؤهَّلين دخلوه نتيجة انتخابات سادها التزوير المُقنَّن، ففشل في توحيد الأطراف السياسية المتصارعة، ولم يلبث أن تحوَّل صراعُهم الى صراع البقاء او الزوال، وانطوى كُلُّ فصيل على نفسه جاهداً للحِفاظ على خصوصيته.

دان الحكم للشيعة بشخص السيد نوري المالكي رئيس الوزراء ومناصريه، حيث تولّوا أرفع المناصب في الدولة العراقية وأهمها المدنية منها والعسكرية، وكذلك انفرد الأكراد بإقليمهم الخاص بهم وأداروه بشكل شبه مستقل، له كيانه الخاص وعلاقات دولية تتمثل بالقناصل الذين أقاموا فيه مكاتبهم، كما تتوفر لديهم قوات عسكرية يُطلق عليها”البيشمركه” وهذا ما أزعج المكوَّن العربي السني حيث وجد نفسه بدون كيان خاص به، ولدى محاولته تشكيل اقليم خاص به في المحافظات التي تقطنها الغالبية السنية على غِرار اقليم كردستان ، جوبه بالرفض من قبل المالكي، فقرَّر أخذَ حقِّه بالقوة مُستعيناً بعناصر داعش السنية الذين احتلوا الموصل في 10/6/2014 وأعلنوا عن قيام الخلافة الإسلامية على أجزاء من العراق وسوريا. إذاً ما كان باستطاعة عناصر داعش الإستيلاء على الموصل لولا دعم المكوَّن العربي العراقي السني لهم.

ولكنَّ ما يهمُّنا من كُلِّ ذلك، لماذا سمح المكون العربي السني لعناصر داعش الهمجية لتصُبَّ جام غضبها على المكونات الصغيرة الغير مسلمة القاطنة في الموصل والمناطق المجاورة لها منذ زمن سحيق وقبل الإسلام بقرون، وبخاصةٍ المكون المسيحي منها؟ هل وجدوا فيه انحيازاً للطرف المُعادي للسنة؟ بالتأكيد لا! إذاً ألا يدخل هذا الإعتداء الغاشم الذي لم يسبق له مثيل حتى في أزمنة الجهل والتخلُّف الذي تمثَّل بالقتل والسلب والإغتصاب والإستيلاء على الممتلكات والأموال في خانة الإضطهاد على الهوية لمجرَّد أنَّ هذا المكون العريق يدين  بالمسيحية؟ أليست هذه مأساة ووصمة عار في تاريخ العراق الحديث ستلعنه الأجيال القادمة؟

إنَّ ما ارتبكته عناصر داعش باسم الدين الإسلامي، جعلت من هذا الدين مَمَرّاً لهتك الأعراض باغتصابها للنساء والفتيات الباكرات؟ لقد هتك عناصر داعش الحرمات والدين، أين غيرتكم وشهامتكم يا رجال العرب السنة وأنتم تنظرون الى النساء المسيحيات واليزيديات والمسلمات تُباع في سوق النخاسة والرقيق تحت لباس الدين؟ عناصر داعش تسبي النساء وساسة العراق منهمكون بسرقة خيرات العراق، أين انتم من صفات الشرف المتمثلة بالنخوة والغيرة والشهامة والضمير الحي؟ أين أنتم من نحر العراقيين كالذبائح وأنتم صامتون؟ بماذا سينعتكم التاريخ أليس من حقِّه أن يصفكم بالجُبن والهروب من تأدية واجبكم؟ كان الله في عون المظلومين بلا جنح أو ذنب وهِداية الظالمين الى الحق المُبين آمين.

 

الدكتور كوركيس مردو

في 10/8/2014

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *