مواقـف شخـصية صارت تجارب حـياتية قـد تـفـيـد بعـضاً من أبناء الجالية / الحـلقة الأولى

بعـد الخـدمة العـسكـرية الإلزامية صدر أمر وزاري في عام 1973 بتعـيـيني مـدرساً في الكـوت ، وتـنـقـلتُ بـين إدارات مـدارس مخـتـلفة لأسباب متباينة حـتى 1992حـين غادرتُ العـراق … أربع سنـوات أولى في ثانـوية كـنتُ أذهـب إليها في الغالب مشيا عَـبر سـدة الكـوت … والسنة الأخـيرة في مـركـز المدينة أصِل إليها بـدقائق قـليلة .

في بغـداد سنة واحـدة في متوسطة / حي جـميلة ( لي تجـربة أخـرى منـذ الساعة الأولى فـيها سنأتي إليها لاحـقاً ! ) لم تكـن مشجعة لي ولا يحـق لي النـقـل منها إلاّ بتـوصية المشرف العام المخـوّل فـخـيّـرته إما نـقـلي أو إستـقالـتي ، فـنـقـلـني إلى إعـدادية الجمهـورية قـضيت فـيها سنة واحـدة فإبتـدأت الحـرب الإيرانية وكـثرت الشواغـر في المدارس ولابـد من سـدّها فإنـتـقـلتُ إلى إعـدادية قـرطاجة القـريـبة من سـكـني / الحـبيبية ، أصِل إليها مشيا بـ 16 دقـيقة ، وبعـد 8 سنوات تحـولت بناية مـدرسـتـنا إلى مـركـز مهـني فإنـتـقـل طلابنا ومِلاكـنا الـتـدريسي إلى إعـدادية في مدينة الثورة ، وفي أثـنائها كان سكـني قـد تغـيّـر فإنـتـقـلتُ إلى إعـدادية قـريـبة / الـدورة / ميكانيك / حي آسيا ….. تخـللت هـذه السنين خـدمة عـسـكـرية إحـتـياط لمدة سنـتين كاملـتين في الجـبهة مع خـبرات حـلـوة .

وبالمناسبة ، إن المـدرس هـو قائـد داخـل صفه ، والمـدير قائـد داخـل مـدرسته ، وهـكـذا الملك قائـد في دولته ، وعـليه كـل واحـد منا قائـد في مساحة عـمله ، فلا يمكـن للمـدير أن يـدخـل عـشـوائياً داخـل الصف وأنا فـيه إلاّ بإذنٍ مني ، أما إذا كان هـناك عـنجهي لا يـبالي بالتعـليمات وينـطلق من منـصبه الأعـلى وقـوته فـيتجاوز عـلى حـقـوق المـدرس أو أي موظف أدنى منه منـصباً فـتـلـك مسألة أخـرى … ونـتـذكـر أن صدام قال يوماً : عـلى كـل واحـد أن يتـصرف كـقائـد في موقعه !! بل وذهـبَ أبعـد حـين أمر كـل مسؤول كـبـير أن يمارس وظيفـته من موقع أدنى للإطلاع عـلى ظروف العـمل .

*********************

( بوش ) كـلمة شعـبـية تعـني في القاموس العـربي : (1) إزدحام ، كـثرة ….. أما الـدارج بـين العـراقـيّـين فـتعـني (2) إستيكان أو قـدح فارغ بعـد شـرب الـﭼاي منه فـنـقـول جـيب البوش أو غـسّـل البوشات …… ولكـن تستخـدم سخـرية وإنـتـقاداً بمعـنى (3) رخاوة …… وهـذا نريـده في مقالـنا .

هـناك ظاهـرة مألـوفة قـد تـكـون طبـيعـية وهي أن الشـد والحـزم والخـنـق والمراقـبة والضبط واليقـظة والضغـط والإلحاح والتـوتـر ، كـلها تميل بمرور الزمن إلى التراخي والإنـفـكاك أو التراجع عـن هـذه الحالة أو تـقـليلها !! يعـني حـين تـشـد رزمة بحـزام وتـتـركها فلا يزداد شـدّ الحـزام ، بل بالعـكس يتراخى ذاتياً بعـد فـتـرة بسبـب الحـركة والتغـيرات المناخـية كالحـرارة والبرودة ….. ولأجـل ذلك حـين نـشـد جهازاً أو صنـدوقاً عـلى قاعـدة أو عـلى عـربة متـنـقـلة بإستخـدام الـبراغي ، فإن الـتـنـقـل والإهـتـزاز والتـقـلبات الجـوية من تمدد وتـقـلص تسبِّـب زعـزعة وضعـف قـوة شـد البرغي وكأنه يميل إلى حـل نـفـسه ، أي يتراخى مما يجـعـل الشيء المشـدود يتحـرّك من مكانه بعـض الشيء ونسمع صوتاً عـنـد تـنـقـله …. فلإعادة تـثـبـيته مرة أخـرى يحـتاج إلى أن نـشـد البرغي قليلاً بإستخـدام ( سْـﭘانة ، دَرنـفـيس ، ألِـن كِي ) فـكأنـنا نأخـذ رخاوته ونـزيل قـلقـلته …. فـنـقـول بالعامية : أخـذنا بوشه أو ضبّـيناه سِـنـّـين يعـني شـدّيناه دَورتين …..

أما البرغي المشـدود بثبات وقـوة ، فإنه لا يتراخى مع الزمن رغـم الحـركة والإهـتـزاز وتغـيـرات الجـو ، فلا يكـون بحاجة إلى شـد ولا يتطـلب أن يأتي شخـص ويأخـذ بوشه !!!! وللعـلم إن صلابة ونـوعـية معـدن الـبرغي تـلعـب دَوراً مهماً في ثباته عـلى شـدّه …….. والآن حان وقـت السؤال : أين مواقـف الحـياة من كل هـذا يا تـرى ؟ أين ربّاط الكلام ونحـن في زمن الربـط ؟ .

كـنت شاباً بعـمر قـبل منـتـصف العـشرينات حـين تعـيَّـنتُ مـدرساً طريّ الوجه نحـيف الجـسم سريع الحـركة وحـتى صوتي لم يكـن فـيه بحّة كاهـل أثـقـلته تجارب الحـياة ، بمعـنى أن مظهـري لم يكـن مَهـيـباً ولا محاطاً بأبّهة ، وهـناك مقـوله عـنـد الطلاب الوقـحـين ضعـيفي النـفـوس رديئي التربـية ، يستبقـون المـدرس الجـديـد في المـدرسة بقـولهم (( نأخـذ بوشه ــ يستـغـلـون رخاوته أو تـسامحه )) كي يهابهم ويواصلـوا وقاحـتهم فـيحـدّوا من سلطته عـليهم ويصبح بالتالي أضحـوكة بـينهم ……..

إن الـدرس الأول للمدرس الجـديـد في المدرسة هـو الـذي يحـسم الموقـف ، فإما يأخـذون بوشه أو هـو الـذي يأخـذ بوشهم جـميعهم طيلة سنين عـمله ( ليس فـقـط في تلك المـدرسة ) وإنما في تلك المـدينة وأبعـد منها ……

من جانب ثاني عـلى المـدرس تجَـنـُّـب المشاكـل كي لا تـؤخـذ نـظرة سلـبـية عـنه ، وفي الحـقـيقة هـو صراع ما بـين المـدرس والطالب بـوجـود المـدير الـذي له تأثير عـلى العـملية بـدون شـك ….. فما الـذي يجـب أن أعـمله وأنا حـديث العـهـد في الحـقـل الوظيفي ؟ كـيف أسلك كي أكـون متـوازناً ؟

في دواخـلي لا أريـد التجاوز عـلى القانـون والسلطة ، وبالمقابل لا أسمح لأحـد أن يـدوس عـلى كـرامتي ، إذن يتـطلب مني أن أكـون حـذراً رزناً في سلوكي وتـصرّفي في اللحـظات الحاسمة عـنـد الحاجة ، فإما أن أفـرض نـفـسي عـلى الوقـحـين الطلاب في مجال عـملي وأكـون محـتـرَماً غـصباً عـنهم … أو أستـرخـص شخـصيتي فأصبح ألـعـوبة بأيـديهم …. والعِـبرة هي في أول طلعة عـلى المسرح أمام الجـمهـور عـنـد بـداية المسرحـية . 

كان أول درس لي كـمدرس حـين دخـلـتُ الصف الرابع الثانـوي (  Year 10 ) رأيتُ المراقـب واقـفاً أمام السبورة وبـيـده وردة حـمراء ــ لم أكـتـرث لها ــ صاح قـيام ! قام الطلاب ، سلمتُ عـليهم ثم قـلت تـفـضلوا إجـلـسوا …. وبدلاً من أنْ يـذهـب المراقـب إلى مقـعـده بقي واقـفاً ، ومن براءة نيتي تـصوّرتُه يحـتـرمني وينـتـظر إيعازاً مني فـقـلتُ له : تـفـضل إجـلس .. فـرمقـني بنـظرة فـطيرة ! ثم رفع الوردة إلى أنـفه ! وصار يشمشم بها ! وهـو ينـظر إليّ أثـناء مشيه إلى مقـعـده في مؤخـرة الصف …. أعـتـرف لكم بأنه إستـفـزني ولكـني تمالكـتُ أعـصابي لأنه ليس معـقـولاً أن يستخـف بمدرسه ، وأنا لا أعـرف أحـداً ولا يعـرفـوني …. بقي الطلاب ينـتـظروني لأعـرّف نـفـسي لهم ولكـني بقـيت ساكـتاً أفـكـر بسرعة كـيف أتـصرف أمام هـكـذا مشهـد .

فإنْ تجاهـلت حـركـته وعـبَّـرتها عـليه وعـفـوتُ عـنه سيقـول للطلاب ( شـفـتـو شـلـون أخـذت بوشه ؟ ) وإنْ ردعـته فإني سأخـلق مشكـلة منـذ الـدرس الأول في حـياتي ، قـد تـؤثـر سلـباً عـلى الـتـقـرير الـذي سيكـتبه المـدير عـني وأنا تحـت التجـربة لمدة سنة واحـدة ( حـسب التعـليمات ) ثم أثـبَّـتْ في الوظيفة … فـصرتُ حائـراً والطلاب صافـنين ! وأنا في هـذه الأثـناء أخـطو خـطواتي أمام السبورة أحـدّق عـلى الأرض ، لكـني في النهاية قـرّرتُ الردع !! ولا تهـمني العـواقـب والـتـداعـيات ، فأنا مستـعـد أن أشتغـل عاملاً كادحاً بكـرامة أفـضل من مـدرس ماخـذين بوشه .

تـقـدمتُ إلى مؤخـرة الصف حـيث مقـعـد المراقـب وسألته هـل أنت مراقـب ؟ قال نعـم …. ﮔـوم عـلى حـيـلك ، فـوقـف … سألته : ماذا كـنـتَ تـقـصـد بتـلك الحـركة التي عـملتها والوردة بـيـدك ؟ قال : ما بـيها شي أستاذ … فـفاجأته بضربة كـفٍ قـوية غـير متـوقعة عـلى وجهه الأيسر ، فـتـفاجأ هـو والطلاب … كـررتُ سؤالي له : ما بـيها شي ؟ قال : نعـم ما بـيها شيء ! فألحـقـته بأخـرى عـلى وجهه الثاني وقـلت : أﮔـعُـد كـن حـذرا مرة أخـرى …. سـكـتَ ولم ينـطق بحـرف واحـد طيلة سنـوات وجـوده في المـدرسة .

إن سلوكي هـذا سـواءا كان قانـونيا أم لا ، فأنا تـصرّفـتُ وصارت عِـبـرة كافـية لجـميع الطلاب عـلى مـدى خـمس سـنـين ولم تـصادفـني مشكـلة إطلاقاً ، فحَـميتُ نـفـسي أنا المسيحي الوحـيـد في مـدرسة طلابها يرسمون الخـناجـر والمسـدسات عـلى الرحلات وبـيئة المنـطقة عـشائرية غـير مثـقـفة غـنية عـن الـبـيان !! وعـلى أثـرها صار الطلاب يحـكـون فـيما بـينهم لسنـوات قائلين أن هـذا المـدرس يـبـسط .. وأود أن أكـون صريحاً الآن وأقـول : كان في تلك الأيام قانـون ودولة ووزير ورئيس ومؤسّسات ، أما الـيوم لو كـنتُ في العـراق لا أستـطيع أن أسلك ذات السلوك .

الخلاصة :

عـلى القائـد الحـكـيم الرزن مهما كان قـوي الشخـصية ، أن يردع الوقحـين النمامين المنافـقـيـن في أول موقـف معـهم لأن ذلك سيكـون مقـياساً لشخـصيته عـنـدهم ، بل عـليه أن لا ينـتـظر وإنما يخـلـق موقـفاً وهـمياً ليعَـبِّـر فـيه عـن قـوة شخـصيته فـيهابـونه ، وإلاّ سيأخـذون بـوشه مـدى عـمره … وتجارب الحـياة ستـثـبت ذلك لكـل قائـد ، نعـم ستـثـبت ذلك لكـل قائـد …. والله المعـين .    

  بقـلم : مايكـل سـيـﭘـي / سـدني

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *