مسيحيّو الشرق يُعرقِلون تحويلَ الماءِ نفطاً

 جريدة الجمهورية

مصير كل شعوب المنطقة في خطر بسبب الأنظمة الظالمة أو بسبب الثورات الضالّة. أما مسيحيّو الشرق فالخطر عليهم من هذه الأنظمة والثورات معاً. فبين بنادق الأولى وسيوف الثانية يكثُر الصَلب ويَحتجِب الصليب. وترتفع أصوات تطالب الغربَ حمايةً أو تندّد بلامبالاته، بينما الحماية الحقيقية هي بمقاومة الشرّ والانحياز إلى الحرية والحياد تجاه الأحداث العسكرية.

 

زيارة البابا بنديكتوس أيقظت وجدان المسيحيين، وعزّزت شراكتهم الوطنية (جوزف برّاك)

ظالمٌ من يتَّهم الدول الغربية المسيحية بالتخطيط لتفريغ الشرق من المسيحيين. وواهمٌ، بالمقابل، من يظنّ أن هذه الدول مستعدة لشنِّ حرب من أجل بقاء المسيحية المشرقية. الشرق بالنسبة إلى الغرب أرضٌ (وما تحت الأرض) أكثر مما هو إنسان. والغرب الذي لم يأبه في عزّ فورته الإيمانية لمسيحيّي الشرق، ليس اليوم سيأبه لهم، والإلحاد يطغى على مجتمعاته.

لكن إذا كان الغرب لا يشعر بحقّ الدفاع عن مصير المسيحيين كجماعة دينية، فواجب عليه أن يدافع عنهم كجماعة إنسانية تتمتع بحق الحياة والحرية والكرامة انطلاقاً من شرعة حقوق الإنسان والقانون الدولي، وانطلاقاً من مدى قدرة هذه الجماعات ذات العلاقة الخاصة بالغرب على أن تلعب دوراً في السلام الإقليمي والعلاقات الدولية في زمن صراع الحضارات، وقد وازى صراع المصالح.

من خلال هذا المفهوم الإنساني المطلق يتّحد مسيحيّو الشرق ببيئتهم، فيرتاح الغرب بدفاعه عنهم لأن لا إحراجَ بالدفاع في الإنسان كإنسان، كما لا أحد يُفسرّ هذا الموقف بأنه موجهٌ ضد أديان أخرى بل ضد أنظمة جائرة وجماعات متطرفة خارجة عن القانون الدولي والثورات الحقيقية.

تحت هذا العنوان دافع الغرب عن الأكراد في العراق وتركيا، عن السُنّة في البوسنة، عن شعب التيبِت في الصين، عن المسيحيين في جنوب السودان، عن الفلسطينيين في إسرائيل، وعن المسلمين في مالي.

منذ سبعين سنة والغرب يدعم دولة إسرائيل اليهودية ويحميها غير عابئ بارتدادات هذا الموقف عليه. بينما مسيحيّو الشرق لم يكلّفوا الغرب، طوال ألفي سنة، رصاصة واحدة. لم يورّطوه في حروب، لم يعرّضوه لحظر نفطي ولم يتسبّبوا بانتقال الإرهاب إلى عواصمه. لا بل دفع مسيحيّو الشرق ثمن علاقتهم بالغرب، وهو دفَّعهم ثمن علاقته بالآخرين.

بعض أهل الغرب يعتبر مسيحيّي الشرق مجرد “علامة مساحة” في الجغرافية المسيحية تذكِّر السائح بأن المسيح وُلد هنا. إنه موقف اللامبالاة المبني على عدم وجود جدوى اقتصادية من الدفاع عن دور سياسي لمسيحيّي الشرق، وبالتالي عن وجود مسيحي حر في الشرق.

مؤسف أن يكون الغرب سبق المسلمين باعتبار المسيحيين في الشرق عدداً أو بقايا نزحت قيادتهم إلى الغرب، فلمَ هم لا ينزحون بعد نهائياً؟ لماذا يعاندون ويكابرون؟ لماذا يعرقلون تحويل الماءِ نفطاً والنفطِ ذهباً؟ لماذا يحملون الصليب بالعرض؟ (هكذا حمله المسيح على درب الجلجلة).

هكذا، تلتقي مصالح المسيحيين الغربيين والجماعات الإسلامية المتطرفة. وهكذا يجد مسيحيّو الشرق أنفسهم في صراع مع الفريقين حول دورهم. وقد يكون تموضع مسيحيّي لبنان منذ اتفاق الطائف نموذج ما يتمناه الغرب لأهم حالة سياسية مسيحية في الشرق، أعني “المارونية السياسية”. لذا لا بد من الخروج من الاصطفاف مع الآخر إلى التحالف الحر معه.

لامبالاة الغرب بمسيحيّي الشرق تعزّزت بعد قيام دولة إسرائيل واكتشاف النفط العربي. أثّر اليهود والعرب على مراكز القرار في الغرب، وحاولت دول الغرب التأثير على الفاتيكان. لكن البابا الراحل يوحنا بولس الثاني تصدى لتلك المحاولات وأطلق “سينودوس من أجل لبنان” إيماناً منه بأنّ تثبيت المسيحية في لبنان هو الممر الطبيعي لتثبيتها في الشرق.

ثم أكمل البابا الحالي بنديكتوس السادس عشر الرسالة بإطلاق “سينودوس من أجل كنائس الشرق” بعد حرب العراق وقبل اندلاع الثورات العربية والإسلامية في العالم العربي. وذهب البابا الحالي حدّ المجيء إلى لبنان بين 14 و16 أيلول 2012 في زيارة تاريخية أيقظت وجدان المسيحيين، عززت شراكتهم الوطنية، ورفعت معنوياتهم في مرحلة عصيبة من جودهم في لبنان والشرق.

لا أنظر إلى الاضطهاد الذي يتعرض له المسيحيون في الدول العربية من زاوية جغرافية ضيقة وكأنه مرتبط بهذا النظام أو بتلك الثورة فقط، إنما من زاوية عالمية لأنّ المسيحيين يتعرضون للاضطهاد والقتل والتهجير ولإنكار هويّتهم في كل دولة يوجد فيها حالة إسلامية متطرفة مثل الفيليبين وإندونيسيا ونيجيريا وباكستان وأفغانستان والشيشان ومصر وتونس وسوريا والعراق وأخيراً… في لبنان. والتطرف الإسلامي لا يقتصر على تنظيمات مثل القاعدة وجبهة النصرة، بل يشمل أيضاً مناهج فكرية إسلامية تفرز بتزمتها تنظيمات جهادية عسكرية سنية وشيعية.

ولا أستبعد بالتالي أن تتحول موجة تغيير الأنظمة العربية، وهي أنظمة فاسدة وقمعية حتماً، إلى قيام أنظمة تتواصل مع مشروع إقامة “الإسلامية العالمية”، على غرار الشيوعية الدولية في القرن الماضي، وذلك على حساب الإسلام الوطني (كتيار المستقبل).

لذا، على مسيحيّي لبنان ألا يترددوا في اختيار ما يناسبهم من قوانين انتخابية ودساتير ووحدات وكيانات. رَضِيَ من رضي وغَضِب من غضَب. وتصحيح الخلل في التمثيل الانتخابي هو بداية النضال لا نهايته. إن مصير المسيحيين لا يتقرر على تغريدات “التويتر”، بل “على دعْساتَك نِحنا مشينا”. ليس الرهان اليوم أن أكون طائفياً أو علمانياً، وحدوياً أو تقسيمياً، بل أن أكون…

 

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *