لماذا الرياء والصفاء في الدين؟

< فاستاءَ رئيسُ المجمع لأنَّ يسوع أجرى الشفاءَ في السبت >/ يوحنا 13: 14 >

الإستنتاج الذي نستخلصُه من الحدث مُذهل جداً، إنَّهُ مشهد يعكس تبايُناً عميقاً بين الرب يسوع ورئيس المجمع اليهودي في أهَمِّ موضوع ديني. إنَّهُ خلاف بين واضع الناموس وبين مُفسِّره! وعلى ماذا يعني يوم السبت، وإنَّ حِفظُـه يُعَدُّ أهمَّ ما يأمر به الناموس. لم تكن هذه الواقعة الوحيدة التي تُبرز خلافاً كهذا. بل إنَّ يسوع كثيراً ما اُتِّهِم بمخالفة سُنَّةِ الآباء بعدم حفظ السبت. فدخول يسوع الى المجمع وإبراؤه لإمرأةٍ منحنية الظهر، فسَّره رئيس المجمع خرقاً للناموس، بينما اعتبره يسوع من صُلب الناموس وكمالاً له!

إنَّهُ مشهدٌ ذو تأثير بالغٍ لخلافٍ عنيفٍ بين نقاء الدين وريائه، بين أصالة الدين وبين تفاسيره، بين أهداف الدين وبين حدوده، بين التقليد في نقله للإيمان وتسليمه من جيل الى آخر، وبين تقاليد تُضاف الى جوهر الدين عِبر الأجيال! وهنالك في علوم الأديان بعض نظريات تؤكِّد صفاء الدين في عهد مؤسسيه فقط، وفيما بعد يُدخل المفسِّرون إضافات إليه هي ليست فيه ولا منه!

جاءَ في كتاب التكوين بأن الله اوجد كُلَّ شيء في ستة أيام، والإنسان خلقه في اليوم السادس، ورأى كُلَّ شيءٍ ليس حسناً فحسب، بل حسناً جداً، فاستراح في اليوم السابع وجعله مقدَّساً. ولذلك يرى اليهود بأنَّ الناموس أعطى لليوم السابع اهمية كبيرة، والواجب يقضي عليهم حفظه بدقة، لأنَّهُ يومُ الرب. وبهذا الصدد قال رئيس المجمع: <  وهناك ستة أيام يجب العمل فيها… > لوقا 13: 14. إذاً الخلاف بين يسوع ورئيس المجمع دار حول تفسير راحة الرب في يوم السبت، ففي موقعٍ آخر قال يسوع لرؤساء الشعب: < أبي يعمل وأنا أعمل حتى الآن > ألا يدُلُّ ذلك وكأنَّ الآب لا عطلة له يوم السبت لكنَّه يعمل باستمرار، فلم يكن  الخلاف إذاً عابراً بل جوهرياً بصدد تقديس يوم السبت وفَهمِ راحة الله وعمله! إنَّ رواية سفر التكوين بأن الله استراح في اليوم السابع لا تعني أنَّه بعد تعب ستة أيام استراح، بل إنَّما بعد خلق الإنسان في اليوم السادس، أتمَّ عملية الخلق، وإذ شاهد بأنَّ كُلَّ ما أراده أن يكون جاء حسناً جداً سُرَّ بذلك! إنَّ الله لا يستريح من العمل، بل يستريح في حالةٍ خاصة بالإنسان والعالَم، ولهذا سألهم يسوع في واقعةٍ اخرى: < أيحلُّ عَمَلُ الخير في السبت أم لا؟ > أليس في هذا القول تكمن راحة الله ويُعطي معنىً للسبت؟ أي إنَّه العمَل المحصور بالرغبة الإلهية، والإهتمام بما يخصُّ الإنسان جوهرياً وليس بما يخصُّه بيئياً!

إنَّ أيام الإسبوع هي للعمل من أجل سَدِّ حاجة الإنسان. والعمل يوم السبت هو كُلُّ ما له علاقة مع الله، ويتضمن بحسب الكتاب: عمل الخير والإهتمام بما يُرضي الرب، وليس بتلك التي تتعلَّق بحياة الإنسان اليومية. فيوم الرب يحلُّ به عمل الخير للإنسان، وبذلك يتمجد الله! وراحة الله في السبت تكمل بتفرُّغ الإنسان بخدمة القريب وتمجيد الرب.

وفي يوم السبت الذي دخل فيه يسوع الى المجمع وشفى المنحنية الظهر، كان عملُـه تسبيحاً لله وخدمة للإنسان، لكنَّ رئيس المجمع أدان العمل، لأنَّ يسوع تنكَّر لإعتبار مزيَّف فرضه رؤساء المجمع على السبت! إنَّ ضحالة المعرفة في تفسير حقائق الدين، يكمن خطرُها واضحاً في التصوُّرات والتقاليد التي تُسيء الى الدين، وبهذا الصدد عَبَّر يسوع في واقعة سبتية اخرى بعبارة قوية وحاسمة يوم جاع تلاميذه وكان سبتاً، فقطفوا سنابل القمح واكلوا حيث قال: < السبت للإنسان وليس الإنسان للسبت >

ليس جديداً وإنما على مَرِّ الزمن وفي كُلِّ القضايا الدينية والإجتماعية تظهر تياراتٌ متباينة مِنها ” مُحافظة ” حتى على الحرف وبكُل دِقة. وأخرى ” متحرِّرة ” تُفرط في التصرُّف حتى حدود الإباحية < الحرف يقتل والروح يُحيي > إنَّه أسمى قانون نادى به أكثر الناس قسوةً على الناموس وأشدُّهم عِداءً له، وكان رسول الأمم بولس الأكثر التزاماً به والأكثر تطبيقاً له. القول الإنجيلي يُجدِّد في الإنسان حِسّاً مُرهفاً يدفعه الى محاسبة دائمة ” لتصرُّفاته الدينية ” لكي تتوافق مع الإيمان لا مع الشكل! العبادة المقبولة هي الكائنة بالروح والحق، وليس على هذا الجبل او ذاك، وهذا ما اوضحه يسوع للمرأة السامرية.

قال يسوع إسهروا وصلّوا لئلا تدخلوا في التجربة، الصلاة وحدها ليست كافية ولا الصوم وحده… كُل عملٍ لا يُحقِّق الغاية منه يغدو رياءً. تحقيق غاية الممارسة يتِمُّ في نقائها، وهذا ما يرتاح إليه الله! الدموع والتوبة هما كُنهُ الصلاة، أما اعتبارها فخراً او تبريراً او قياماً بالواجب فهو رياء، الإمتناع عن الأطعمة عند الصوم بغياب انكسار القلب هو رياء. الفقر بالروح هو صفاء الصوم.

إدِّعاء الإنسان بعمل الإحسان هو رياء، أما مشاركته المُعتاز باللوعة والإنكسار هي نقاء، المِعيار بين نقاء كُلِّ عمل وريائه هو تحقيق الغاية المرجوة منه. دليل تطبيق الناموس يكمن بخلاصته التي هي المحبة. كُلُّ عبادة يُقدمها الإنسان وكُلُّ فضيلة مسيحية يُمارسها، تحتاج الى فحص، لئلا تتعارض يوماً مُمارستُه مع واضعِها وغايته منها، كما جرى لرئيس المجمع مع يسوع! < الله روح، والساجدين له بالروح والحقِّ يَقبلهم > على المؤمن أن يُسلِّط نور كلمة الكتاب على أعماله دوماً ليؤديها بالحق وليس بالشكل!  (الإستيحاء من كتاب <السائحان بين الأرض والسماء> – الله والإنسان – ج 2)

الشماس د. كوركيس مردو

في 1/8/2015

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *