كيف نصون تراثنا ونحافظ على هويتنا ونحمي أجيالنا القادمة من الضياع  في المهجر

في دول تتمتع شعوبها بأعلى درجات الحرية المطلقة والديمقراطية الناضجة في كافة مفاصل الحياة، لابد أن تفرز تلك المنطلقات الراقية جوانب سلبية وأمراض إجتماعية عرضية، وتعلق بقوامها أشنات تخدش جمالية شكلها وتشوه جوهر مبادئها، كون الإنسان بسلوكه الغريزي ميال لولوج كل مكمن غريب وخوض غمار كل ما هو مجهول .          ومن أبرز تلك السلبيات هي حالات التفكك الأسري نتيجة إرتفاع حالات إنفصال الوالدين عن بعضهما من ناحية، وغياب أو تقييد دورهما الريادي في حياة أبنائهم بسبب تمتعهم بإستقلالية تامة وخصوصية مصانة وحرية كاملة في التصرف يمنحها لهم القانون داخل البيت وخارجه، فتتوسع فسحة الإنحراف السلوكي عند المراهقين والشباب التي ترافقها أحياناً ظاهرة الإدمان على المخدرات وإرتياد كازينوهات القمار والإنغماس في ملذات الجنس. وقد تصاعدت وتيرة الإنحراف بصدور تشريعات خاصة تُبيح الإجهاض ومنح الحرية الجنسية وقوانين أخرى تتعارض مع القيم الإجتماعية والسماوية وكان أخرها موافقة المحكمة الدستورية العليا الامريكية على قانون الزواج المثلي .

وفي الجانب المشرق من هذه الحضارة، فأن المجتمعات والمؤسسات التربوية في الدول الغربية والولايات المتحدة قطعت أشواطاً بعيدة في تطوير القدرات الذاتية والذهنية للطلبة وتشجيع وإحتضان الموهوبين والمتفوقين بدءاً من رياض الأطفال وصعوداً إلى الكليات والجامعات والدراسات العليا في كافة النواحي العلمية والثقافية والفنية والرياضية وبأساليب متجددة مع توفير كافة المستلزمات الضرورية لينشأوا وسط بيئة صحية، وبنفس الوقت تعمل جاهدة لزرع بذور الثقة بالنفس والشجاعة الأدبية والصراحة المطلقة لدى الصغار والشباب للتعبيرعن أرائهم وقناعاتهم الشخصية بشكل طبيعي دون خوف من عقاب أو حرج من نقد من أجل تطوير مواهبهم وتنمية قابلياتهم لبناء قاعدة راسخة لمستقبل وطنهم.

ومن ناحية أخرى وضعوا أسس  ثابتة لمساواة المرأة مع الرجل، إضافة إلى قيام الدولة بتقديم المعونات المالية والضمان الصحي والخدمات الإجتماعية المتنوعة إلى المعوقين والمحتاجين والعاطلين وذوي الدخل المحدود، وتشجيع الكبار على إكمال دراساتهم في الكليات مع منحهم مخصصات مالية ومساعدات مغرية، ودعم مؤسسات إجتماعية لتأهيل البالغين لكسب خبرات وإختصاصات مهنية من أجل العمل في مجالات يختارونها.

كما أن المصداقية في التعامل وسلوكية التواضع والجرأة في النقد والإعتراف بإرتكاب الخطأ والإقرار بالفشل والحرص على المال العام والتنحي طوعية عن المنصب في تلك المجتمعات ، هي الخصال المميزة لمختلف شرائح المجتمع من قمة هرم السلطة إلى قاعدته، بعيداًعن المحاباة والنفاق في التعامل والمحسوبية البغيضة والعقلية القبلية والإزدواجية في السلوك والغطرسة الجوفاء وتضخيم الذات، هي صفات يتسم بها كثير من القادة وكبارالمسؤولين ورؤوساء الأحزاب في مجتمعاتنا الشرقية والعربية بشكل خاص، إضافة إلى التعلق بكرسي السلطة حتى لو أدى ذلك إلى دمار بلدانهم ومأسي لشعوبهم .

وإنطلاقاً من تقاليدنا وعاداتنا المتوارثة، ينبغي علينا أن نرسم مسار مميز لأجيالنا القادمة بجرأة وموضوعية ونميز بحكمة ما بين قشورالحضارة الغربية المتساقطة التي لا حياة فيها واللب الإنساني الحضاري في جوهرها، ونحاول إقتباس الصالح وننبذ الطالح غير المقبول من وجهة نظرنا لأنها بعيدة عن تقاليدنا، كالزواج المثلي وحالات الطلاق العشوائي ووباء تناول المخدرات والإدمان على إرتياد صالات القمار التي تقوِض الروابط الأسرية وتنخر بكيان العائلة، إضافة إلى بعض طرق التربية المتبعة التي تسمح للأبناء بعد سن الثامنة عشرة بالعيش في شقة منزوية تستفزهم إغراءات الحياة المعاصرة ويغريهم رفاق السوء، فتزداد أمامهم فرص الإنحراف والسير في متاهات المجتمع وأزقته المظلمة، فيقضون زهرة شبابهم في أحد السجون أو ضياع العمر كله.

ومن الطبيعي أن معظم أبناء جاليتنا من البالغين وكبار السن وخاصة الذين يصلون إلى دول المهجر وهم في خريف العمر أو قاب قوسين او أدنى منه، يمرون بمرحلة تحدي إجتماعي وعائلي وأخلاقي متشعب، ويواجهون صراعاً نفسياً مع الذات لأنهم في الواقع يحملون في أعماقهم تناقضات ما بين تقاليدهم المتوارثة عن الأباء والأجداد، وما إكتسبوه من مفاهيم ساذجة وعادات دخيلة من المجتعات التي نشاؤا فيها وما علق بهم في الوطن الأم من أدران ، تركت بصماتها الواضحة على سلوكيتهم وترسخت في اللاوعي من عقولهم، فامسى ذلك كله يتقاطع مع إلتزامات ومتطلبات المجتمع الجديد الذي آصبحوا جزءاً منه، فيصطدم بعضهم بجدارالواقع المرير، فيتخذون أفقاً خاص لحياتهم يلقي بظلاله على من حولهم، وأخرون يتأقلمون ويعيشون الحلم الذي كان يراودهم .

ولان دورة الحياة ماضية ولا يمكن عودة الزمن إلى الوراء ولا إرجاع القديم إلى قدمه، لذا يتوجب علينا إتخاذ منحاً وسطياً ذي طابع خاص في تربية أبنائنا، يجمع بين الحداثة والأصالة، ما بين ترك فسحة كافية لهم لبناء شخصياتهم بشكل طبيعي ينسجم مع التطورالثقافي والإجتماعي الجديد، لكي لا يظهروا متخلفين عن اقرانهم من الشرائح الأخرى، وبنفس الوقت العمل على تقوية الروابط الأسرية بشتى السبل ومختلف الوسائل ومحاولة تقريبهم من أروقة الكنيسة وتسجيلهم في منظمات إجتماعية وجمعيات ثقافية وأندية رياضية وشبابية لجاليتنا، ومحاولة مساعدتهم في إختيار أصدقائهم وتقديم الإرشادات والنصح إليهم كلما توفرت الفرصة عند ملاحظة تغيير في حياتهم وسلوكهم، وبشكل ودي بعيداً عن الأنتقاد والتوبيخ من أجل تجاوز بعض الأزمات النفسية الموقته، مع تذكيرهم بين الحين والاخر بماضينا وبأصالة عاداتنا وتقاليدنا التي ورثناها عن أبائنا واجدادنا في بلداتنا العزيزة.

وحينما يكون الأباء قدوة حسنة ونموذجاً يُحتذى به من قبل الأبناء في جزئيات تصرفاتهم، يكون كلامهم أكثر إقناعاً ، فلا ينبغي أن نطلب منهم التخلي عن سلوك مُدان وفعل مخجل بينما نحن نمارسه في حياتنا اليومية أمامهم أو بعلمهم  ” لا تنه عن خلق وتأتي بمثله، عار عليك إذا فعلت عظيم” ، لأن علم النفس يؤكد أن الطفل بعد ولادته شبيه بورقة بيضاء ناصعة يكتب عليها الوالدان وبقية الأبناء ومن حوله من تلاميذ وأصدقاء خلال تصرفاتهم وأحاديثهم أمامه، فتتجذر تلك التصرفات والأقوال في عقله الباطني وتبقى ملازمةً له طيلة حياته، لأن “التعلم في الصغر كالنقش على الحجر”. أما موضوع ميراث لغتنا النفيس في المهجر وبوادر إضمحلالها في العقود القادمة فيحتاج إلى وقفة طويلة ومعالجة بالغة الدقة والتعقيد .

بقلم : صباح دمّان

14 تموز 2015

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *