كلمات في اربعينية الكاتب حبيب تومي

مع الفقيد حبيب تومي في القوش، بعدسة ولدي رافد دمان- ربيع 2014

     سيتحدث كل من عرفه بالتركيز على فترة الستينات، التي فيها بزغ نجم الفقيد حبيب يوسف صادق توما تومي الملقب تحبّباً( حُبَّه) ، عندما اصبح احد رجال الفقيد توما توماس، وارتبط اسمه مع صباح توماس، حيث لم يفارقوا بعضهم الا نادراً، خصوصاً بعد اصابة صباح وسفره الى موسكو للعلاج، كانوا شبّاناً في اوج قوتهم واندفاعهم، خاضوا النضال المسلح بشجاعة قلَّ مثيلها، وفي فترة كان مقر القوة في دير الربان هرمزد، اختاروا محرساً في الجهة الغربية من الدير، واصبحت تلك الرابية تسمى لهذا اليوم بغرفة( صباح وحبّا)، في تلك الفترة ايضا غنّى الشباب مقطعاً بإسميهما، وكأنهم يخاطبون معلمات مدارس القوش الموصليات، بالقوليا معلمات لا تروحون لكَاره دبّا- اسم موضع في الجبل- لا يأخذوكم صباح وحبّه”. التحدث عن حبيب في تلك الفترة طويل ومتشعب، كان يكفي ذكر اسمه، ليدخل الرعب في اعوان السلطة بالقوش واطرافها، اما مجمل القوة فكانت: قوية العزيمة، عظيمة المعنويات، تزينها اندفاعات الشباب وحماسهم، وقد اجترحوا المآثر الخالدة، في التصدي للحكومات الرجعية المتعاقبة بعد انقلاب 8 شباط الدموي.

صورة للبطلين: صباح وحبّه في القوش، بعدستي ربيع 2012

 

    في نهاية الستينات ترك حبيب الجبل الى بغداد، وانقطعت اخباره عني حتى عام 1992، حيث قرأت له مقابلة مع معمّر من القوش، وهو المرحوم روئيل تومي المولود عام 1907 ، المقابلة كانت شيقة، تطرق فيها المعمر الى مسرحية شاهدها امام عينيه سنة 1922، في صحن كنيسة ماركوركيس، وكانت بعنوان( قلعة اسمافا) من تأليف واخراج المرحوم القس فرنسيس حداد.

    في نشرة المهرجان الثقافي الرابع لنادي بابل الكلداني الصادرة في بغداد عام 1998، قرأت له مقالاً، بعنوان( مهن وحرف يدوية في القوش ايام زمان) عدّد فيها المهن انذاك: النجارة، الحدادة، صناعة الاحذية، صناعة اللباد، عمل الغليون، صناعة الجص للبناء، ثم تطرق الى مهنة الحياكة التي اختصت بعض بيوتات القوش بها، ومنهم: والده يوسف الملقب( كتي) واعمامه كيكا وروئيل والياس، حتى حبيب نفسه جلس فترة على آلة الحياكة القديمة الاثرية في القوش، وبذا كان متميزا في التطرق الى مفردات تلك المهنة بالسريانية، والتي ندر استخدامها في هذه الايام، بل لم يعد احداً يحيك الملابس، البسط، والخرج، كما في السابق.

      بعد عدة سنوات، ومع دخولنا القرن الحالي، استقر في دولة النرويج، وصرت اقرأ له بعض المقالات، ذات الطابع الوطني العام بإسم مستعار، في جريدة المؤتمر الوطني العراقي، منها على سبيل المثال( مأساة أب عراقي) تكلم فيها بحزن عميق عن عمّه كيكا، واستشهاد ولده البطل حكمت، ونسيبه يوسف في اقبية التعذيب الفاشية، ومقتل ولده الاخر ثائر، في انفجار بجبل القوش.

    ومن النرويج انطلق يكتب ويتواصل بكثافة وزخم قل نظيرهما، لاحقاق ما بات يؤمن به وبشدة، وهو الشعور القومي الكلداني، فواصل الليل بالنهار لسنوات تالية تجاوزت العقد منها، وتخلل ذلك استقطاب جمهرة واسعة من المؤيدين والمعارضين لافكاره. في احدى رسائله لي كتب الآتيفي يوم كنا في سفرة الى مدينة يوتوبوري في السويد حيث كان شبابنا من اوسلو يلعبون كرة القدم مع فرق من شعبنا هناك، وفي الليل كانت ثمة حفلة في احدى القاعات، وأنشدت الأناشيد الوطنية الآشورية ونحن نصفق لها. في هذه الحفلة بعد ان اخذنا شيئاً من المشروب اقبل نحوي لفيف من شباب وعرفوا انفسهم بأنهم من القوش، وعرفتهم بعد ان سألت عن عوائلهم ، وقالوا لي بالحرف الواحد أن هؤلاء الآشوريون ( كِم……) وقالوا نحن نقرأ لك فنطلب منك ان تكتب دفاعاً عنا لأننا لا نملك مثل هذه القابلية، ووعدتهم بأن كل شئ سيكون كما تريدون” .

    هذا المفترق من حياته، امتص كل طاقته وجهده، وبرأيي الشخصي، لو انه سلك طريقاً آخراً للتعمق في التراث والادب وتقاليد الشعوب، لكان ألّف العديد من الكتب، لقابليته وتمرسه في الكتابة، باسلوب مشوق، سلس، ومفرداة منتقاة بعناية. في تلك الفترة صدر له كتاب في بغداد عام 2003 بعنوان” القوش دراسة انثروبولوجية” فاقتنيته بتلهف وقرأته، فكانت لي ملاحظات عليه بلغت 33 ملاحظة، وفي نهايتها كتبت ما يلي”  في الختام نبارك الجهد الكبير الذي بذله المؤلف في هذا الانتاج الغني، ونجلب انتباه المهتمين بهذا الموضوع التراثي، ليقيموا تلك الجهود التي بذل في سبيلها الوقت الكثير والسفر المتواصل والمال الكثير، اشد على يديه مهنئا ً والى العمل التالي والانتاج الاوفر والاعم الذي يشذب ما وقع فيه وليتلافى ذلك في الاعمال القادمة والرب قدير بمنح الطاقة اللازمة للمؤلف ليضطلع بالخطوة التالية” ، كتب تعقيبه على ملاحظاتي بنفس ديمقراطي، وتفهم وحرص، جعلني احترمه واتواصل معه دون انقطاع.

    جلب انتباهي الجهد الكبير الذي بذله في كتابه، خصوصاً موضوع مفردات لغتنا السريانية الدارجة( وقد سمّاها السورث) من صفحة رقم 311 الى 368، فكان اروعها، وقد بلغ عدد المفردات فيها 801 مفردة، وضعت على التسلسل الابجدي، اعتبره انجازاً مهما للاجيال، وللحفاظ على المفردات المستعملة في القوش من الزوال والاندثار. ووردني ايضا بانه طبع كتابين: احدهما( البارزاني مصطفى قائد من هذا العصر) والثاني( الالفاظ المحكية المشتركة بين اللغات) كلاهما لم يصلاني بعد، ولازلت اتطلع الى يوم اقرأهما.

    في خضم استمتاعي بكتابه القيّم، ومن خلال مراسلاتي معه، عرفت انه اوفد في بداية السبعينات الى الاتحاد السوفيتي، للدراسة على حساب الحكومة العراقية، فدرس فترة في باكو عاصمة اذربيجان، ثم انتقل الى مدينة بيلكورد دنسروفسكي بالقرب من اوديسا، ومنها تخرج مهندساً بحرياً عام 1977، ليعود الى الوطن ويعمل في الموانئ والبحار والثروة السمكية، حتى استقالته عام 1986 وانصرافه للاعمال الحرة.

    في عام 1994 نشرتُ مقالة بعنوان( كلدان ام اشوريون) في صحافة ديترويت المحلية، وبعد استحداث الانترنيت، اعدت نشرها في مواقع الانترنيت عام 2004، رد عليها بمقال( اين الصواب في مقال نبيل دمان كلدان ام اشوريون) . وفي عام 2000 نشرت موضوع بعنوان( اقدم مغترب كلداني الى القارة الامريكية) وعندما اعدت نشره في المواقع الالكترونية عام 2011، وبعنوان جديد( قصة اول مغترب للقارة الامريكية) ، كتب مقالا بعنوان( عزيزي نبيل دمان لا يجوز الكتابة مع ميلان الريح) استهلها بهذه المقدمة اللطيفةاعترف ان الأخ نبيل دمان كاتب طموح ومثابر، وهو في حركة دؤوبة يسعى الى جمع المعلومات من مصادرها عن الشخصية او المسالة التي يروم الكتابة عنها، وهو يعشق القوش وتراثها وينتمي الى الوطن العراقي ويعظم هذا الوطن وتاريخه وحضارته وإنسانه. وانا واحداً من قراء ومتابعي ما يسطره قلم نبيل دمان من تحقيقات وكتابات عن شخصيات القوشية او عن تراث القوش، وأنا معجب بنشاطه وهمته.

    كل ذلك لم يؤثر على صفو علاقتنا، فقد التقيت به بحفاوة لاول مرة عام 2012 في دير الربان هرمزد، وكان يرتدي الزي الألقوش الجميل، وتحدثنا بصراحة تامة، وبمودة واحترام متبادل، وكان حاضرا اللقاء: كل من المرحوم سعيد سيبو، ابن عمه الفنان عمانوئيل تومي، والمهندس سالم جبرائيل رزوقي وغيرهم. ثم التقينا في اميركا على هامش اللقاءات الكلدانية، وكان اللقاء بحضور ابلحد افرام، والدكتور عبد الله رابي، وغيرهم. واخر لقاء جمعنا في ربيع 2014، عشية انتخابات البرلمان العراقي وكان مرشحا في قائمة بابليون التي ترأسها الشيخ ريان الكلداني، وجلسنا نتحدث في نادي القوش العائلي، وفي تلك الامسية عرفته بابني رافد الذي كان يزور معي ارض الوطن.

    حقيقة كان لفراق الصديق حبيب تومي، وقعاً مؤثراً في نفسي، كنت اتمنى ان تتغير الظروف نحو الأفضل، فنلتقي في القوش، ونتوصل الى تقارب في وجهات نظرنا، هكذا قلت له يوما، باننا سنلتقي في توجهاتنا، ولكن اللقاء أضحى سراباً. رحمة الله عليه ومغفرة منه، لتدخل روحه الى جنات الخلد، فتخلد الى الراحة والسكينة. لعائلته الطيبة، الوديعة، المحترمة، ولعيون اولاده، وفي المقدمة انجيلا العزيزة وزوجها الكريم فرج يوسف بولا اسمرو، واخيه الصديق جلال، ولكل معارفي واقاربي من بيت تومي( بدوكي) والى اصدقاء ومعارف الفقيد الذين يصعب حصرهم، ولأهالي بلدته الحزينة في فراقه، لهؤلاء جميعا انشد الصبر والسلوان.

وداعاً الاستاذ الصديق حبيب تومي!

سيبقى اسمه محفوراً في قلوبنا!

نبيل يونس دمان

nabeeldamman@hotmail.com

كاليفورنيا في 15- كانون الثاني- 2016

 

 

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *