عندما يلوي الأقوى ذراع الأصلح / بلقم : الدكتور دنحا طوبيا كوركيس

 مرثية ذاتية لها بقية…

خاطرة قصصية رقم (11) بعنوان:

عندما يلوي الأقوى ذراع الأصلح

بقلم: أ. د. دنحا طوبيا كوركيس

 

كم كنت غبيا (ربما شجاعا) عندما صدرت عني عبارة “كيلو التمّن (الرز) صار بثـْمانين دينارْ” أيام الحصار الإقتصادي الذي تسبب في فرضه على العراقيين من تسبب في تسعينيات القرن الماضي. اطلقتها حنجرتي عفويا في حضرة أقرب زميلين إلى نفسي كردّ فعل سلبي على طلب مسؤولنا الحزبي (وهو أحد طلابي) بتسديد الإشتراكات الحزبية. لم أكن اتصور أن التصريح بحقيقة ثمن كيلو التمّن في ذلك الوقت قد ينقله طالب من طلابي حرفيا بتقرير إلى مسؤوله (وهو زميلي وصديقي) ومن ثم إلى قيادة الفرقة الحزبية التي استدعتنا نحن الثلاثة بعد بضعة أيام للاستجواب. كنا نجهل سبب استدعائنا، ولم يخطر ببال أي منا أن رائحة التمّن تسربت إلى أنوف الرفاق في الفرقة التي فسرت التصريح على أنه امتعاض من “السياسة الحكيمة”. لم نكن نتصور أبدا أننا على موعد مع “محاكمة” تهين كرامتنا. وبينما كنا نضرب أخماسا بأسداس أمام باب القاعة، نودي عليّ. دخلت وأديت التحية. لم أسمع سوى بضع تمتمات كردّ على “أحسن منها”. تفاجأت من عدد رفاق الفرقة (ربما كانوا ثلاثين) ومن الوجوه التي وقع نظري عليها. كان أغلبهم طلابي وزملائي، ولكن في لحظة من لحظات الزمن الغادر تبخرت روح الزمالة وعلاقة الطالب بالأستاذ وساد محلهما الترهيب والترغيب، بل غابت اللياقة و “الكرم العربي”. ولما لم يُطلب مني الجلوس شعرت بأن في الأمر اسوأ مما تخيلت. ولكن ما أن بدأ أحدهم بالثناء على علمي وعملي وسلوكي الايجابي في الجامعة، إنطلق صوت آخر من موقع متميز بين الجمع، صوت مألوف جدا لأحد طلابي الفاشلين:

–         رفيقي، هل تعترف بأن الكويت محافظة عراقية؟

سؤال إستفزازي يعرف جوابه سلفا، ويعلم جيدا بأن الماثل أمامه لا يمكن له أن يجادل في قضية الكويت أو غيرها من القضايا الساخنة والباردة التي يمليها الحزب على كوادره المتقدمة والمتخلفة. وعليه، ليس بمقدور أحد أن يتجاوز الحدود البايولوجية التي وهبها رب العالمين للببغاء:

–         بالتأكيد، رفيقي. وهل تشك في موقفي؟

–         لا، أبدا، ولكن لمَ قلت بأن كيلو التمّن “صار بثمانين دينار”؟

–         كانت مجرد ملاحظة اقتصادية عن ارتفاع الأسعار بسبب الحصار الجائر والمبرمج على القطر.

–         ولكن ملاحظتك خطرة وتسيء إلى الحزب والثورة.

–         لم يكن قصدي الإساءة لأن التصريح بالسعر لم يكن سوى اقتباس لحالة السوق.

تداخلت رفيقة (إبنة أختها طالبة فاشلة بين طلاب الماجستير):

–         الدكتور الرفيق “دنحا” معروف بنزاهته وعلمه وأخلاقه، ولا يمكن أن يسيء للحزب.

وأثنى على المديح صوت من علية القوم في صدر “المضيف”:

–         وأنا أرشح الرفيق للعضوية. شكرا رفيقي. كانت غايتنا اللقاء والتعارف عن كثب على رفاقنا في القواعد. بارك الله فيك. مع السلامة. نادونا على الرفيق (س).

دخل (س) وخرج بابتسامة هجينية. نودي على (ص). دخل مرتعبا وخرج مصفرا. لم يكن بوسعنا مناقشة الحدث بسبب هواجسنا من وجود أجهزة تصنت مخفية، ولكننا تبادلنا النظرات المعبرة عن سخريتنا وهلعنا في آن واحد.

 

كم هو مؤلم أن يتحكم طالب فاشل بأستاذه للمرة الثانية. مضى على الواقعة الأولى قرابة عقدين من الزمان عندما كان هذا الفاشل قياديا في الاتحاد الوطني لطلبة العراق. إستطاع من موقعه القيادي إقناع رئيس القسم (الخائف من ظله) بأنني لا أصلح لتدريس الصف الذي كان فيه. بيد أن هذا الفاشل الذي كان يعجز عن نطق الباء المهموسة أو كتابة جملة إنكليزية سليمة واحدة، والشهود من زملاء صفه أحياء يرزقون، حصل على الماجستير من جامعة الموصل بطرق ملتوية وأصبح تدريسيا وزميلا لي. مُنح زمالة دراسية حزبية لدراسة الدكتوراه في بريطانيا، ولكنه عاد بخفي حنين بعد بضعة اشهر بعدما تمتع ببارات ومراقص إنكلترا بحجة أن مشرفته “صهيونية” حتى النخاع. عاد مولانا الفاشل وكأن شيئا لم يكن. وبدلا من مقاضاته ماديا، هلل رفاقه وانتخبوه عضوا لقيادة الشعبة تقديرا لموقفه القومي العروبي المشرف. يا للشرف! وإن شعرت في تلك اللحظة بأنني اصغر من أبو بريص (السحلية) أمام ديناصور، غير أنني تنبأت بأنه وأمثاله سينقرضون عاجلا أم آجلا مثلما سقطت أعتى الامبراطوريات في التاريخ وزالت عن الوجود. كما تنبأت أيضا بأن الأيام القادمة ستكون حُبلى بأكثر من سفاح. ظلت وقائع “المحاكمة” جاثمة على صدري وفكرت في إيجاد وسيلة  للهرب، كما فعل غيري، عن طريق جبال العراق. ولكنني تريثت حرصا على سلامة عائلتي وأطفالي الأربعة لأن الأخبار أفادت بأن نفرا من أساتذة جامعة الموصل قـُبض عليهم وأودعوا السجن بينما تمكن الآخرون من الفرار.

 

كانت توقعاتي صائبة، فقد تلبدت السماء بغيوم سوداء وصمّت آذانها غير آبهة بدعواتي لانتشالي من الجحيم الذي رُميت فيه. قدّم الرفيق الفاشل أوراقه وبحوثه إلى لجنة الترقيات في الكلية سعيا إلى نقله إلى مرتبة “مدرس”. وبما أن لجنة الترقيات كانت تعلم جيدا بأنني لا أساوم في المسائل العلمية، وقع عليّ الاختيار لأكون محكّما لبحوثه، وربما اختارني هو على خلفية “المحاكمة” التي استمد منها جبروته وقناعته. كنت أعلم سلفا بأنه لم يكتب أيا من البحوث الثلاثة المقدمة للترقية. ومع ذلك، قرأت البحوث بعناية وسجلت ملاحظاتي وختمت التقرير بعبارة “غير صالحة للترقية”. لم أفعل ذلك انتقاما من قيادته للمحاكمة المشؤومة أو إقصائي عن التدريس قبل عقدين، فـ “العين بالعين والسن بالسن” ليس ديدني مهما تجاوز الظلم حدوده، وإنما لأن اللغة التي كتبت بها البحوث (المشتركة) كانت لغة أحد طلابي في دراسة الدكتوراه. معذور هذا الطالب الذي كان يعفيه الرفيق الفاشل من الخفارات الحزبية الليلية، ولكن لن ألتمس له عذرا على تبنيه سياسة “شيلني داشيلك” في حياته الأكاديمية، وإن كان طالبا متميزا وتدريسيا جيدا وإنسانا مؤدبا ولطيف المعشر.

 

مرّ شهر تقريبا على تحكيمي، ولم يخطر ببالي أن الفاشل سيسعى لمعرفة مقيّمي بحوثه. لقد جرت العادة في كل المؤسسات الأكاديمية على وجه الكرة الارضية أن تـُحاط إجراءات الترقية بسرية تامة، ولكنه استطاع الحصول على الأسماء بحكم موقعه الحزبي. بطـُل الكلام وقـُرأ السلام على السلام، وكان ما في الحسبان من مظالم لا يمكن لها أن تبقى طي النسيان. إنقطعت صلتي بالعالم الأكاديمي الخارجي باستثناء المراسلات البريدية. كلما قدمت طلبا لحضور مؤتمر دولي، جائني الرفض لأن قرار الجامعة مبني على موافقات قيادة الفرقة الحزبية والأمن،

وللمرثية بقية …

 

الأردن في 15/4/2010

 

 

 

  

 

 

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *