سفر الخروج المسيحي (*)

 

1- سفر الآباء والأجداد

في السبعينات من القرن الماضي سُئِلَ رجل عجوز من عشيرتي”الهوزيين” كان في الثمانينات من عمره الطويل (رحمه الله) وكان يسكن في حي الأمين في بغداد عمّا يشعر به وهو في عمره الحالي فقال: كل ما أعرفه هو أنني أهرب منذ أن كنت يافعاً، ولم أستقرّ بعدُ، فقلنا له وكيف ذلك؟؟ قال:

بداية الهروب كان في شبابي في الحرب العالمية الأولى حينما هربنا من القتل والذبح على أيدي جنود السلطان العثماني في بداية عام 1914 تاركين دورنا ومزارعنا وأملاكنا وكنيستنا (مار كدّة) وقريتنا (هوز) باحثين عن الأمان بعد أن قُتِلَ العديد منا على أيدي الجيش العثماني والكثير لاقوا حتفهم أثناء (السفر بر) وهم يسيرون سيراً على الأقدام من تركيا الى روسيا فأيران فالعراق حينما وضعوا الناجين مِنّا في معسكر من الخيم في بعقوبة بداية، ومن ثم سكنّا في قُرى منطقة زاخو وكان نصيبنا قرية فيشخابور، بعد أنتهاء الحرب العالمية الأولى وأستقرار الأوضاع نسبياً في تركيا، عُدنا ثانية الى قريتنا (هوز) في تركيا ولكن لم نستطِع الصمود أمام أعتداءات العشائر الكردية التي قتلت البعض من أبناء قريتنا، فهربنا ثانية في نهاية العشرينات ورجعنا الى فيشخابور ثانية، بقينا في فيشخابور الى نهاية الأربعينات حين قررنا مزاولة الزراعة فذهبنا الى قرية (شكفدلي) في سهل السليفاني، لم تَطُل أقامتنا كثيراً هناك، فقامت الثورة الكردية، فأصبحنا بين نارَين نار الحكومة ونار الأكراد كل منهما يتّهمنا بمساعدة الطرف المنافس له، سافر البعض من شبابنا الى بغداد للعمل وللهرب من أجباره على حمل السلاح لمحاربة الطرف المنافس، ولما لم تستقرّ الأوضاع حتى بعد بيان آذار 1970 فأضطررنا الى الهروب الى بغداد فقلنا له، الحمد لله فأن بغداد هي آخر مطافك، فقال من يعلم؟ وفعلاً كان آخر مطاف له هو مقبرة بعقوبة، ( ألف رحمة على روحه ).

2- سفر الأولاد والأحفاد

بداية هذا السفر كان في نهاية السبعينات في القرن الماضي في بدء الحرب الأيرانية العراقية التي يُحَمِّل كل طرف الآخر مسؤوليتها وهذا ليس موضوعنا، وأشتدّت بعد حرب الخليج الثانية (حرب الكويت) بسبب الحصار القاسي والظالم الذي جعل دخل المواطن الشهري لا يكفي لشراء طبقة بيض، وجعل الآلاف من خريجي الجامعات عاطلين عن العمل أو العمل بأعمال لم يفكروا يوماً بها مما جعل فكرة الهجرة الحل الأمثل لهم، ونتيجة لهذا الحصار القاسي وأنتشار الجوع والبطالة أدّى الى أنتشار الجريمة، فكانت عاملاً مضافاً لسبب الهجرة، وفي هذه الأثناء ظلّت التهديدات الأمريكية بمزيد من الضغط على الشعب العراقي عاملاً مضافاً جديداً للهجرة والهروب، أما الهروب الأكبر والأعظم فكان الأحتلال الأنكلو أمريكي للعراق وألغاء الجيش والقوى الأمنية مما فَلُتَ زمام الأرهاب والمجرمين ليعيثوا فساداً دون رقيب أو قانون، ومما زاد الطين بَلَّةً أحتماء كل طائفة ومذهب بمليشيات مسلحة، والحرب الأهلية بين السنّة والشيعة، وترك المسيحيين بين نيران متعددة الأتجاهات، التهجير القسري للمسيحيين من مناطق سكناهم في البصرة والجنوب وبغداد والموصل كل ذلك تحت أنظار الحكومات المتعاقبة وجيش الأحتلال الذي لم يحرّك ساكناً كجيش محتل مسؤول عن حماية الأمن في البلاد التي يحتلها بموجب القوانين الدولية.

أما ما تعرّض له الكلدان القومية المسيحية الأكبر بين القوميتَين (الآثورية والسريانية) فكان نصيبها مضاعَفاً من كل ذلك، فهي بالأضافة الى تعرّضعها مع المسيحيين الآخرين لكل ذلك، فأنها رأت نفسها وهي مسلوبة الحقوق السياسية في وطنها، والمحاولات جارية على قدم وساق لسلبها أسمها القومي، وتسمية لغتها الكلدانية لأفتقارها الى الصوت الذي يمثّلها سواء في مجلس الحكم أو الحكومة أو البرلمان، وكان يأسها عاملاً آخر مضافاً لعامل هجرتها.

3- المسيحيون في المهجر

دون أدنى شك أن 90% من المسيحيين الذين هاجروا (أو الأصح فرّوا) من العراق ولا سيّما منذ الحصار القاسي ومن ثم الحرب الأمريكية الأخيرة لم يكونوا يفكّرون لحظة بالهجرة وترك العراق لو لم يكن الحصار، أو لو كانت الأمور قد عادت الى طبيعتها بعد الحرب الأمريكية، ولو لم يتم تسليم مقاليد الحكم الى الأحزاب الدينية والطائفية والعنصرية، وسيطرة المليشيات الطائفية على الوضع الأمني والذي كان المسيحيون المتضرّر الأكبر لأفتقارهم الى مليشيات تحميهم في غياب القانون والجيش والأمن وحتى النظام وكانوا مكشوفي الظهر دون دفاع أو حماية, نعم يجب على المسيحي المؤمن تحمل الصعاب في سبيل أيمانه وحمل صليبه في الشدائد ولكن أن كان هناك طريقاً آخر بحيث تحافظ على أيمانك وفي نفس الوقت على روحك وأرواح أطفالك، فلماذا لا نسلكها، ولماذا يُنتَقَد المهاجرون ويُلصَق بهم تُهَم في معظمها غير حقيقية لأنهم أنقذوا نفسهم وعائلاتهم من الظروف الصعبة التي كانوا فيها وأوصلوها الى الأمن والأمان، أن المسيحي العراقي يبقى ذلك المحافظ على أيمانه أينما كان، الظروف التي عاشها ويعيشها العراق ما بعد 2003 جعلت الكثير من المسيحيين حتى في داخل العراق عرضة لتيارات وتجارب مختلفة.

مسيحيوا المهجر (وأنا أتكلّم عن كندا) وهم في ظل ظروف الأمن والعدالة وشعور الأنسان بقيمته وحريته أستطاع أن يثبت وجوده بعد أن ثَبَّت أقدامه فأنصرف الى العمل بالجد الذي عُرِفَ به العراقي وأستطاع الكثير من أبناء الجالية العراقية وفي فترة قياسيّة أن يكون لهم دور خاصّة بهم، والعديد عادلوا شهاداتهم الجامعية ويعملون بأختصاصاتهم، وآخرون فتحوا لهم مشاريع خاصة بهم، ومعظم أبنائهم يدرسون في المدارس الكاثوليكية ولن يبدأ الدرس الصباحي الا بعد الصلاة، وسنة بعد أخرى يزداد عدد الطلبة في الجامعات والمعاهد، ومدرسة الكنيسة الكلدانية المجازة رسمياً من وزارة التعليم في كندا تضم أكثر من (250) طالب وطالبة يتعلّمون كل يوم سبت بالأضافة الى التعليم المسيحي دروساً للغة الكلدانية، بأشراف مباشر من سيادة أسقف الأبرشية، والبعض من هؤلاء الطلبة أصبحوا شمامسة في الكنيسة.

نعم وصحيح قد تكون الأمور في المستقبل المتوسط والبعيد تتجه نحو الأندماج في المجتمع الكندي، ولكن وجود الكاهن الحريص لرعيته، وببذل الجهود التي من واجباته نحو رعيته، وحرصه على تعليم لغته الكلدانية والطقس الكلداني لأطفال كنيسته، وتماسه الدائم والمباشر مع عائلات رعيته ومعرفته الشخصية بهم، وأن لا يترك ال (99%) ويعتني ب (1%)، وأن تكون كنيسته وهاتفه مفتوحاً ليل نهار أمام أبناء رعيته، وقبل كل ذلك أن يكون مطيعاً لرؤسائه وتوجيهاتهم، وأن لا ينسى أن يذكّر أبناء رعيته ولا سيما النشئ الجديد بوطنهم وبلادهم وكنيستهم الأم فكل ذلك سوف يساعد على ترسيخ عاداتنا وتقاليدنا في أذهان مسيحيوا المهجر.

4- نداء غبطة البطريرك

دون أدنى شك فأن نداء غبطة أبينا البطريرك صادر من قلب يملأه الأسى والحزن لما آل اليه وضع المسيحيون العراقيون، وهو أيضاً ثقة غبطته بوعود المسؤولين في الدولة العراقية بتوفير الأمن والأمان للمسيحيين الموجودون منهم أو الراغبون بالعودة، ومع جلّ تقديرنا لرغبة غبطته، الا أن المهاجر في الخارج لم يلمس أي تحسّن في الأمن أو زوال الأسباب التي أدّت الى هجرته لسبب بسيط هو عجز الحكومات في الأوضاع الراهنة عن السيطرة على الوضع الأمني المنفلت والصراعات الدائرة بين الكتل الحاكمة، وهو يرى الأوضاع في مجمل منطقة الشرق الأوسط تسير نحو الأسوأ في كافة المجالات، والمؤامرة التي لا تزال مستمرّة على العراق بصورة خاصة، وما المحاضرة التي ألقاها ((آفي ديختر)) وزير الأمن الداخلي الأسرائيلي السابق حول الدور الأسرائيلي في العراق بعد أحتلاله، ونقلت نصّها جريدة (الجيروزاليم بوست المحلية ) بتاريخ 21\6\2010، الا دليلاً واضحاً على غموض في المستقبل العراقي، وأن الأهداف الأمريكية لا تزال غير مكتملة في العراق. (الرابط أدناه)

http://www.iawvw.com/news/world/324-2013-02-02-03-35-39

* عذراً من الأستاذ الكبير الدكتور حبيب حنونا لأستعارتي هذا العنوان من دراسته ” سفر الخروج الكلداني “

بطرس آدم

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *