ذكـرياتي في رحاب الكـنيـسة

ــ الحـلقة الـخامسة ــ طرائف الكـهـنة :

أولاً : في عام 1963 مرّتْ عـلى عائلتي أياماً غـير سعـيدة ، وفي تلك الأثـناء وصلتـنا رسالة مُـقـلقة من أخـتي في كـركـوك فـسافـرتُ برفـقة والدتي لتـفـقــّدها . وكان في ألقـوش كاهـن من بطـنايا هـو السعـيـد الـذكـر الأب ﭘـولص خـمّـي يَعـرف ويشعـر بمنغــّصات حـياتـنا العائلية ، وفي حـينها كان يُحـبّـبُـني ليخـفــّـف الوطأة عـني ، بالإضافة إلى ولعه بالمقامات فـكان يستمتع بخـدمتي لقـداسه ، فـكـتـبْتُ له رسالة من كـركـوك وشرحـتُ له عـن سفـرتـنا وظروفـنا بعـض الشيء . وفي جلسة إعـتيادية للكهنة في المطرانخانة ( قـونـَخْ ) مع المرحـوم المطران عـبد الأحـد صنا يتـداولون الحـديث عـن ألقـوش وظروف أهاليها في تلك الأيام العـصيبة ، تطـرّقـوا إلى ذِكْـرعائلتي ( كان رجال الـدين يتابعـون أبناء أبرشـيتهم ! ) وهـنا سأل المطرانُ الكـهـنة : لا ندري ما الذي تعـمله هـذه العائلة الآن وما هـو مصير رب الأسْرة ! فـقال الأب ﭘـولص : إنّ أمّ البـيت وطفلها مع إبنها الشماس سافـروا إلى كـركـوك لبضعة أيام لتـفـقــّد إبنـتهم وسوف يرجـعـون عـن قـريب ، وهـنا إنـبرى المرحـوم الأب أبلحّـد عـوديش وقال : وكـيف عـلمتَ بهذه التـفاصيل ؟ فأجابه الأب ﭘـولص : في الحـقـيقة البارحة وصلتـني رسالة الشماس من كـركـوك وقـد ذكـر فـيها وصفاً لجانب من ظروفهم ! فـثار الأب أبلحّـد أكـثر قائلاً : وفـوﮔاها رسالة ! كـيف وأنت غـير ألقـوشي تعـمَّـقـتْ العلاقة بـينكم وأتيتَ عـلى بالهم وصارتْ بـينكـم مراسلات ، ونحـن أهـل ألقـوش لسنا ببالهم ولا نعـرف عـنهم شيئاً ؟ إذا كانت الأمور تسير بهـذه الصورة فـنحـن بعـد مدّة سنهاجـر من ألـقـوش إلى بلد آخـر ! فـردَّ عـليه الأب ﭘـولص : يا أخي لماذا تهاجـر وأنت إبن هـذه البلدة ! أنا سأهاجـر إلى مكان آخـر …. وفي الأخـير إنـتقـل الأب ﭘـولص إلى قـضاء الشيخان وحالياً في سان ديـيـﮔـو / أميركا .

ثانياً : في أوائل عام 1964 باركَ الأب يوحـنان ﭽـولاغ زواج أخـتي ليلى من سالم وزي ، ثم في سنة 1965 أنجـبتْ إبنها الأول داود ، وحـين بلغ عـمر الطفـل السنة الواحـدة ( 1966 ) ، شاءتْ الصدفة أنْ مـرّ المرحـوم الأب أبلحـد عـوديش من أمام دارهم في يوم عـطلة وسمع صوت زوجـها فـدخـل عـندهم فـحـسبوه كاهـناً ضيفاً سيبارك دارهم . فـقال لهم : إنّ زواجَـكم باطل !! فـقال له الرجـل ( سالم ) : لماذا يا أبونا ، أليس الأب يوحـنان ﭽـولاغ هـو الذي باركـنا وأمام الملأ ؟ قال : أنـتم الآن في حالة حـرام ! قال الرجـل : ما هـو السبب ؟ قال الأب : إنّ جـدّتـك ( كـﭽـْـكِ ) وجـدّة زوجـتك ( ملـّي ) أخـوات من جهة الأب !! قال الرجـل : وما الضرر في ذلك ؟ قال الأب : إنكم خالفـتم قانون الكـنيسة ، فـقال الرجـل : وما هـو الحـل الآن ؟ قال الأب : تدفـع ما يفـرضه عـليك القانون ، قال الرجـل : وما هـو ؟ قال الأب : تدفـع الآن نصف دينار ! فـمدّ الرجـل – سالم وزي – يده إلى جـيـبه وأعـطاه 500 فـلساً وسأله : هـل أصبحـنا الآن حـلال ؟ قال الأب الفاضل : نعـم ، ثم غادر …. (( فإذا كان للنصف دينار ذلك التأثـير عـند الكهـنة واضعي القـوانين وبحـوزتهم كـلمة المرور السرية ( Password ) لفـتح باب السماء ، والـدخـول إليها مثل دخـولـنا إلى الفـيسبوك والإيميل ، فـيجـعـلون الحـرام حلال والحلال حـرام في وضح النهار )) إذن أية فاعـلية نـفاذة ستكـون عـنـد آخـرين اليوم في غـيهـب الليالي حـين يتـلقـفـون دفاتراً من دولارات الآغـوات وغـير الآغـوات ، وهم يرفـضون ذلك المطران الجـليل ويحـمون أولـئك الكهـنة الـذين وصفهم قـداسة الـﭘاﭘا بالسـيِّـئين ؟ ولكـن حِـبال الله طـويلة …… أما حلاوة طرف اللسان فهي مراوغة الـثعـلب لا تـخـدعـنا وما تعـبر عـلينا ، ومَن له أذنان فـليسمع !!!.

ثالثاً : من المعـروف أن هـناك قـرى صغـيرة قـريبة من ألقـوش وتابعة لأبرشيّـتها وفـيها كـنيسة ولكـنها بدون كاهـن وسكانها محـرومون من الطقـوس الدينية وحـتى من القـداس يوم الأحـد مثل : بـيندوايا ، شرفـية لأن تعـداد سكانها ضئيل ولأجـل ذلك كان المرحـوم المطران عـبـد الأحـد صنا وحـسب عـلمي يبعـث صباح كـل يوم أحـد في السنوات ( 1963 – 1966 ) كاهـناً وشماساً بسيارة مدفـوعة الإجـرة من حـساب المطرانخانة إلى هاتين القـريتـَين لإقامة قـداس الأحـد فـيها خـدمة لمؤمنيها ، وقـد توفـرتْ لي الفـرصة مرة أن أرافـق المرحـوم الأب يوحـنان ﭽـولاغ إلى قـرية بـيندوايا عام 1964 ، وأخـرى مع المرحـوم الأب هـرمز صنا وبرفـقة أعـضاء الأخـوية آنذاك وديع يونس ﭽـولاغ وأكـرم صادق يلدكـّو إلى قـرية الشرفـية عام 1965 ، وفي هـذه الرحـلة الدينية أقـمنا القـداس وبخـدمتـنا نحـن الشمامسة الثلاثة ، ثم دعانا مخـتار القـرية إلى داره لـتـناول الفـطـور، كـيف لا والـ ( رابي قاشـا معـنا ) فأتـتْ سـيدة الدار بإناء كـبـير من لبن الغـنم الطازج مع الخـبز ( قـلـّـوريه) وكان فـطوراً رائعاً إلاّ أنه بـدون شاي ! ومع ذلك إنـتـظرناه عـلى أمل أن يأتينا بعـد الفـطور ، فـتداولنا الأحاديث وإستفـسرنا عـن أحـوال القـرية وتكـلـّمْـنا ونكـّـتــْـنا وليس هـناك صوت ( ﭼـقـﭼـقة الإستيكانات ولا حَـكـّة شخاطة ولا قـدحة قـدّاحة ، ولا ريحة هـيل ، ولا ماء ولا شاي ! ) فـما العـمل ورابي ( ورمز) يشتهي الشاي خاصة بعـد اللبن وكـلـنا مثـله نشتهـيه أيضاً ؟ فأصبحـنا نـتكـلم في قـلوبنا وكـل واحـد منا يسمع الآخـر بصمتْ . فـنحـن شمامسة صغار وعـلينا السكـوت أما الكلام فـهـو للكاهـن الذي لا ينزل إلى مستوى طلب الشاي ولكـنه يشتهيه مثـلـنا فـما العـمل ؟ إستخـدم ذكاءه بما يحـفـظ كـرامتـنا جـميعاً وإستغـلّ أصغـرنا وهـو الشماس أكـرم ، وقال بصوت واضح وعـلى مسْـمَع المخـتار رئيس القـرية : ( أكـرام لا زَدْإتْ ! دَها بدْ ميـثيه ﭽاي – لا تخـف يا أكـرم ! الآن سيأتون بالشاي ) فـصاح الرئيس بصوت عالي إلى زوجـته وقال : ( هـيه ، ميثيه ﭽاي طـْلا رابي قاشا وْ طـْلا يالونـْكـيه – إجـلبي الشاي لأبونا القـس وللأولاد ) فـنجحـنا وشـربنا الشاي وبعـد أنْ إرتوَينا منه غادرنا متوجهـين إلى ألقـوش . وبالمناسبة فإن أكـرم صادق كـنت قـد إستـطعـتُ أن أستميله إلى الكـنيسة فإنخـرط في أخـوية الجـيش المريمي لسنوات رغـم تأثـره بـبـيئة أعـمامه أيام زمان ، ولكـن مع كـل الأسف حـيـنما تـَفــَرّقــْـنا وإنـتـقـلنا إلى بغـداد جـرفه الموج مرة أخـرى وفي نهاية المطاف لم يقـبض ثمرة لا هـو ولا أهـل بـيته وإنما جـلب عـليهم الوَيلات مِن جـرّاء إنجـرافه مع أقاربه وجـرفَ معه غـيرَه . ولكـن سبحان مغـيّر أحـوال أعـمامه اليوم …….

رابعاً : حَـكـَتْ لي سيدة في اليونان وهي اليوم في أستراليا عـن قـصة طريفة لإمرأة عـجـوز مؤمنة بسيطة غـير متحـضرة أيام الخـمسينات في العـراق . كانت تملك بعـض الدراهـم وفــّرتــْها من التـقـتير عـلى نفـسها أو عـن بـيع بـيض دجاجاتها أو باقات البصل في بستانها ، وربما مِن عـملها كـخـبّازة لجـيرانها أو من نقـود يـبعـثها لها إبنها ، وقـل ما شـئـْتَ من الإحـتمالات . ولما كان الكاهـن في ذلك الوقـت هـو المتعـلـّم والمعـلم المرشـد وحافـظ الأسـرار وهـوالمخـْـلِص الموثوق به والصادق الأمين ، فـقـد لجأتْ إليه عـجـوزتـنا لتسـتشيره في مسألة مصيرية بالنسبة لمستـقـبلها عـن كـيـفـية الحـفاظ والتأمين عـلى مُدخـّـراتها ، فـقالت له : أبونا – أنا أملك مقـداراً من المال ، أخاف عـليه من الضياع أو السرقة ، وأنا أفـكـّر في شراء قـطعة أرض زراعـية تـدرّ عـليّ بعـض الغـلـّة سنـوياً أو داراً بسيطة أسكـن فـيها أو أؤجـّرها فأستـفـيد من واردها ، فـما رأيكَ ؟ . فـقال لها الأب الفاضل : لماذا تـفـكـرين في أطماع هـذه الدنيا الفانية ؟ إن الدار ستـندثر والأرض ستبقى لغـيركِ فـما الذي ستستـفـيدينه ؟ فـقالت له : إذن بماذا تـنصحـني يا أبونا ؟ قال : توجـد منازل في السماء لا تـندثر وتبقى لكِ إلى الأبـد ! قالت : ومَن يأخـذني إلى الدلاّل المسؤول عـنها كي يمكـنـني شراء واحـدة منها ؟ قال لها أبونا : أنا الوكـيل المعـتمـد ! إعـطيني كـل ما تملكـين ، فـمن جـهة سوف سـتؤمّـنين عـلى نقـودكِ عـنـدي ولا تضيع منكِ ، ومن جـهة أخـرى ستـضمنين لكِ داراً أبـدية في الحـياة الآخـرة ! فـوافـقـتْ جـدتـنا العـزيزة عـلى إقـتراح الكاهـن الوكـيل وصانع الجـميل ، الأمين الجـليل . وبـين فـترة وأخـرى كانـت تـتجـمّع لديها بعـض النقـود وتأخـذها إلى الـ رابي قاشا الموقـر وتسأله : رابي ، كـم بقي من سعـر المنزل ؟ فـكان يقـول لها : إنّ الدار الأبدية شيء رائع وثمنها لا يوفى حـتى اليوم الأخـير من الحـياة !! وأترك بقـية القـصة للقارىء .

خامساً : كان المرحـوم الأب أبلحـد عـوديش كاهـناً قـديماً ذو خـدمة طويلة في الكـنيسة ولمّا أكـملَ الخـمسين سنة في خـدمة المذبح أقام قـداساً بمناسبة يوبـيله الذهـبي وصار الناس يقـدّمون له التهاني بـيومه السعـيد هـذا . وبهـذه المناسبة باركه البعـض قائلين : هـنيئاً لك يا أبونا بهـذه الخـدمة الطويلة عـلى المذبح الإلهي وأنـت تعـبد وتسـجـد للرب وتـكـرز وتـعـمـِّـذ وتبارك … فأكـيد إنّ مكانك مضمون في المنازل السماوية وسط الملكـوت ! فـصفـن الأب الفاضل برهة من الزمن ثم تـنهـّد عـميقاً وقال لهم : ولكـنـنا لسـنا ندري ! هـل هـناك شيء من هـذا القـبـيل في السماء ، أم لا !! …… ( لو هـيـﭽـي إيمان لكاهـن بعـد 50 سنة من رسامته ، لو ما لازم ) .

سادساً : في عام 2013 وأنا بجـلسة ودّية رائعة ضمتـني مع شماسَـين إثـنين ، وكاهـنين أخـرَين عـصريّـين منـفـتحَي الفـكـر إنـطـلقـنا جـميعـنا فـرَحاً ومرَحاً ونـكـتاً ( بغـياب أصحاب الرتب العـلـيا ! ) و سَـوّيناها هـوسة أصدقاء ، حـكى الكاهـن لـنا قـصة حـقـيقـية حـدثـتْ في إحـدى قـرى شمال العـراق أيام زمان ، حـين أراد رجـلٌ من بُـسـطاء القـوم الفـقـراء أن يُـكـرم والـده الـمتـوفي فـيوصي له بقـداس أبـدي فـينـتـشـله من الـنار ويـنـقـله إلى الفـردوس السماوي ، ولمّا لم يكـن عـنـد الرجـل نـقـود ، إرتـضى أن يعـرض بقـرته الـوحـيـدة عـلى كاهـن القـرية ثـمناً لـذلك الـقـداس . فـقال له : أبونا ، أريـد أن أوصيك بأنْ تـقـيم قـداساً أبـدياً للمرحـوم والـدي ولا أملك نـقـوداً ، ولكـن عـنـدي بقـرة حلوب ووَلـود وسمينة فـهل تـقـبل أن أمنحها لك بـدلاً وثمناً لـذلك ؟ فـقال الكاهـن : نعـم …. فـجاء الرجـل بـبقـرته وسـلـّمها بكـل تلهُّـف ومحـبة للكاهـن عـلى أمل أن يُـقـيم القـداس الأبـدي للـمرحـوم والـده فـيخـلـصه من الـنار المشتـعـلة بلهـيـب ذي ألسنة سعـيرة ليل نهار ، ولا أدري بهـذا الرجـل ( أو غـيره ) لماذا يفـترضون مقـدَّماً أنَّ والـدهم في الـنار ؟؟ أما من جانب رجال الـدين في كـنيستـنا فـمع الأسف لا يشـرحـون لـنا معـنى هـذا القـداس ( ومتى يـبـدأ مفـعـوله ومتى ينـتهي ، وهـل هـناك مَن إستـفاد منه ، وكـيف نـتأكـد من نـتائجه ) أما صاحـبنا الكاهـن فـكان كـل يوم يحـلب البقـرة ويصنع من حـلـيـبها لـبَـناً أو جـبناً لـبـيته ….. وبعـد مُضي أكـثر من سـنة ولـدتْ له عـجلاً من فـضل ربِّه ، فـهـنيـئاً له ….. وعـنـدها أراد الرجـل صاحـب الـبقـرة أن يستـفـسر من أبونا عـن مصير والـده الـذي ضحّى بـبقـرته من أجـله ، فسأله قائلاً : أبونا ، ما مصير والـدي وأين وصل ؟ قال الكاهـن : وما أدراني بوالـدك فأنا لا أعـرف عـنه شيئاً ! فإستغـرب الرجـل وقال : يا أبونا ألله يخـليك أنا منحـتـك أغـلى ما عـنـدي بقـرتي أملاً في أنْ تـسعِـف والـدي فـتـنـتـشـله من نار جـهنم ، فـكـيف لا تعـرف شيئاً عـنه طيلة هـذه المدة ؟ قال الكاهـن : حـتى والـدي لا أعـرف أين هـو ….. فـقال الرجـل : إنْ كـنتَ لا تعـرف أين هـو والـدك فـكـيف ستعـرف إين يكـون والـدي ، لـذا أرجـو أنْ تـتـوقـف عـن متابعة قـضية والـدي وتـتركـها ، ولا أريـدك أنْ تـصلي من أجـله بعـدُ ، وسأترك أمره لله والآن رُدَّ إليَّ بقـرتي بأسرع وقـت …. فإستـرجع بقـرته من الكاهـن وترك أمر والـده لله . وهـناك طرائـف أخـرى نـتركـها للمستـقـبل .

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *