ذكـرياتي في رحاب الكـنيـسة ــ الحـلقة الحادية عـشرة ــ

 مواقـف في كـنيسة مار زيا ، مار يعـقـوب ، دير مار متي

دعاية في كـنيسة مار زيا :

في عام 1989 أو نحـو ذلك ، شاء البعـض تـرويج دعاية مفادها أن مريم العـذراء ظهـرتْ في كـنيسة مار زيا المجاورة للمعـهـد الكهـنوتي / منطقة الميكانيك – بغـداد ، ورغـم عـدم قـناعـتي مسبقاً بمثـل هـذه الأخـبار إلاّ أني ذهـبْتُ لأستـقـصي الأمر . ولما وصلتُ ودخـلتُ الهـيكـل رأيتُ أناساً كـثيرين يؤشـّـرون بسبّابتهم إلى الزاوية العـليا اليُسْرى من ستارة الهـيكـل ( صطـْـرا ) ويقـولون : إنها هي ، تلك هي ، إني أراها ، هاها هي ، وبعـض الشباب غـير المسيحـيّـين قـد دخـلوا الهـيكل يستهـزئون ويقـولون : إني أراها تضحـك ! (( والمشكـلة أني لا يمكـنـني أنْ أحاججهم )) سألتُ أحـد المنـتمين لتلك الكـنيسة : أين هـي ؟ فأشَّـرَ وقال : إنها تلك . قـلتُ له : هـل يمكـنك أن تحـدّد لي أين مكانها بـدقة كي أراها ؟ فأشار بأصبعه إلى الزاوية العـليا اليسرى ، فـقـلتُ له : إني أركـّـز نظري فـلستُ أرى شيئاً ، قال : إنك غـير مؤمن ، قـلتُ له : أنا مؤمن ولكـني لستُ أرى سوى القـماش . فـقال لي : لا يمكـنك أن تراها لآنك خاطىء ــ فأدخـلني بإيـراد ومصرف ــ قـلتُ له : أنا أحـوج إلى رؤيتها لأنـني خاطىء كي أتوب ، قال : إنّ نظرك ضعـيف ، قـلتُ له : عـينايَ سليمتان وقـوة نظري هي ألف وستة عـشر عـلى سـتة !! . ولما رأيته مُشعْـوِذاً تركـْـتــُه . سألتُ غـيره من الواقـفـين الذين يدّعـون أنهم يرَوْن مريم العـذراء وقـلتُ : هـل يمكـنك أن تقـول لي أين هي الصورة بالضبط وكـيف تراها ؟ قال : أنظر إلى تلك الزاوية ، تـقـدّمْ إلى اليمين ، إصعـدْ ، إسـتدرْ ، إنـزل … ولما نـظـرتُ وتـقـدَّمـتُ وصعـدتُ وإستـدرتُ ونـزلـتُ …. وتابعـتُ المكان حـسبَ وصفه ، لم أرَ سـوى غـباراً عـلى الستارة المعـلقة من الأعـلى والمنحـنية طولياً بسبب ثـقـلها ، ولستُ أدري هـل أنَّ المنحـني أوحى لهم أن يكـون بمثابة ( قـوس أو ما يشبه ذلك ) وبالتالي فإن عـيونهم تـرى وجهَ مريم العـذراء ! … أنا أرى كـل ذلك إستهـزاءاً بالقـيم الـدينية ، ثم لماذا مريم العـذراء بالـذات ؟ فـقـد تـكـون القـديسة ترازيا مثلاً أو القـديسة مارت شـموني ؟؟ قـلتُ له : هـذا غـبار يا أخي كالغـبار الموجـود عـلى ستائر نوافـذ دارنا أو عـلى أي سطح كان ، ثم لماذا تـظهـر مريم العـذراء بهـذه الصورة الغـبارية المَخـفـيّة المموّهة وعـلى حافة قـماش ، أليس هـناك كـرسي تجـلس أو أرض مفـروشة أو سـوق لـتـقـف بـين جـماعة ؟ قال : إنها تأتي بالروح ، قـلتُ له : وهـل تـرى الروح ؟ فـلم يقـتـنع بل لم يفـهم ماذا قـلتُ ( لا و ﭼـماله هـوَّ إللي ما راضي عـني لأني ما دَ أشوفـها لمريم ) ولما رأيتــُه فارغاً لا يستحـق هـدر الوقـت معه تركـتــُه أيـضاً وخـرجْـتُ من تلك الكـنيسة وقـلتُ في نفـسي : ( دع أهـل الغـبار يرَون غـبارهم ) .

ترميم كـنيسة مار يعـقـوب :

في حـوالي عام 1991 كان الأب الفاضل شليمون وردوني ــ حالياً مطران ــ مسؤولاً أعـلى في الدير الكـهـنوتي ، وقـد وجَّه نداءاً إلى المؤمنين الذين يحـضرون القـداس في كـنيسة مار يعـقـوب وقال : إن كـنيستـكم هـذه بحاجة إلى ترميمات كـثيرة ( وإنّ بـيت الله ، الله يـبنيه ) ! ….. وعـليه أطـلب منكـم أنْ تــُشَـكـّـلوا فـيما بـينكـم لجاناً تـتولـّى مهـمة تحـديـد الأماكـن الـمنـدثرة والتخـطـيط لها وجـمع التبرّعات وصرف المال اللازم لإنجاز أعـمال ترميمها الضرورية وأنـتم تكـونون مسؤولـين عـنها ، فـعـندكـم كـوادر من جـميع الإخـتصاصات المطلوبة ، لذا نهـيب بكم التبرّع لبناء بـيت الله . فـهـبّ الناس للتبرع لأيام عـديـدة ، ولكـن الأب الفاضل أصبح هـو الذي يجـمع مَبالغ التبرعات وهـو لجـنة التخـطـيط وهـو لجـنة العـمل والإشراف والصرف وبإخـتـصار هـو الكـل في الكـل ، وبعـض الشباب يعـملون مجاناً بجـهـدهـم العـضلي وأخـيراً رُمّـمَتْ الكـنيسة ، ولم نعـرف كم من المَبالغ جُـمِعـتْ وكم صُرفـتْ ولم نعـرف أيضاً هـل أنَّ مجـموع التبرعات كانـت كافـية لأعـمال الـتـرميم أم أنَّ أبونا إحـتاج إلى مبالغ أخـرى ؟ وهـل أخـذ نـقـوداً من ميـزانية الـﭘـطـريركـية ليُـكـمل الـنـقـص ! أم أنَّ ذلك كـله ليس من شأن المؤمنين ولا حاجة لهم أنْ يعـرفـوا الـتـفاصيل وإنما عـليهم الـدفع فـقـط ؟ طبعاً هـذا ليس حال تلك الكـنيسة فـقـط .

مراهـقة تـتحـدّاني أثـناء القـداس :

في أحـد الأيام وأنا أخـدم القـداس في كـنيسة مار يعـقـوب أسقـف نصيـبـين ، بدأتُ بمقام ( راسـت ) ورغـبة مني للحاضرين ولكـل مَن له أذن موسيقـية أن يستـلـذوا به ولا يحـدث أي نشاز في مسامعـهم ، كان عـليَّ المحافـظة عـلى المقام . ولمّا كـنتُ أعْـلم أن بعـضاً من مراحـل القـدّاس تـتهـيَأ جـوقة البنات خلالها لترتـّـل نشيداً ، ومن خـبرتي أعـلم أيضاً أنَّ تلك الجـوقة تخـتار الترتيلة عـشوائياً بسبب مدرّبتها المراهـقة التي لا تعـرف شيئاً عـن الـذوق الموسيقي وليست مُـلمّة بالمقامات ، فالتراتيل عـنـدها متساوية ، لذلك بعـثـتُ إبني ــ القـريـب مني ــ إليها لينقـل توصيتي لها مكـتوبة عـلى ورقة صغـيرة فـيها أسماء عـدد من التراتيل المعـروفة لـديهن وتـناسب مقام ( راسـت ) عـلى أمل أنْ تخـتار واحـدة منها ، فـماذا كان ردّ الفـتاة المراهـقة ؟ قالت لإبني : [ ﮔـُـلـّه لأبوكْ ، إحْـنا بْـكـيفـنا ، مو بكـيفه ! = قـُـل لأبـيكَ ، نحـن نعـمل برغـبتـنا وليس برغـبته ] فـسكـتّ محـتـرماً نـفـسي أمام تلك المراهـقة لأنها ما كانت لـتـردّ عـليّ بذلك الرد ، لو لم تكـن مسنـودة الظهـر مِن قادة الكـنيسة .

صدفة في حي آسيا صارت صداقة في أستراليا :

وأتذكـّر صباح يوم عـيد ميلاد الرب يسوع المسيح سنة 1990 وفي القـداس الإحـتفالي في هـذه الكـنيسة قـرأتُ القـراءة الأولى ( قـريانا – عـربي ) باللحـن الألـقـوشي وليس المصلاوي ، أما الرسالة فـقـد قـرأها شماس آخـر بكـفاءة وبعـد القـداس تبادلـتُ معه التهاني بمناسبة العـيد وأصبح ذلك اللقاء القـصير نواة مخـزونة في الذاكـرة تجـدّدَتْ في منـتصف عام 1992 بمكالمة تلفـونية بين بغـداد وأستراليا ، وفي نهاية عام 1992 بعـثـتُ برسالة من اليونان ، ألحـقـتـها برسائل ومكالمات متـتالية من أثينا إلى سـدني … وأخـيراً بتاريخ 16/5/ 1997 فاجأتـُه من مركـز الحجـز فيVillawood / سـدني بمكالمة هاتـفـية إلى داره في Hamilton Road ــ فـيرفـيـلـد متـظاهـراً له ــ ومازحاً ــ بأنـني في اليونان … وأخـيراً زارني أكـثر من مرة قـبل حـصولي عـلى الـﭭـيزا الـدائمية ، ثم صارت بـينـنا صداقة أفـتخـر بها … إنه الشماس الإنجـيلي المهـندس سامي يعـقـوب ديشو .

 

في دير مار متي :

في شهـر أيار 1990 سافـرتُ إلى ألقـوش ومن هـناك قـمتُ بزيارة إلى دير مار متي وطريقه داخـل الوادي فـيها 20 منحـنياً في أعـلى الجـبل . رأيتــُه مُرَمّـماً بصورة جـيدة ( وذلك من تبرّعات رجـل متـنفــّـذ في السلطة آنـذاك ) وكانت هـناك إضافات أخـرى قـيد البناء . إلتقـيتُ بأحـد رهـبانها وتجاذبـتُ معه حـديثاً شـيّـقاً ثم طلبتُ منه أن يردّد لي بعـض التراتيل فسمعـتـُها وكانت شبـيهة بألحان كـنيستـنا ولكـنها باللهجة السريانـية .

إحـتفال التـناول الأول 26/7/1991 في حي آسـيا :

في هـذه السنة كان أولادي قـد أنهَـوا الصفـوف الإبتـدائية ( الثالث والرابع والخامس ) وقـرّرنا أن نحـتـفـل بهم سوية في تـناولهم الأول للقـربان المقـدّس . ولما أقـدمْـنا عـلى تسجـيل أسمائهم لدى هـيئة التسجـيل في كـنيسة مار يعـقـوب فـوجـئـنا بأن تـدابـيرهم تـقـضي بقـبول مَن أنهى الصف الخامس الإبتدائي وفي الحالات الضرورية يمكـن أن يقـبلوا مَن إجـتاز الصف الرابع . فـقـلتُ لهم : أنا تـناولتُ القـربان المقـدس حـين أنهـيتُ الصف الثالث وقـبل 34 سنة في كـركـوك ، والأجـيال في تطوّر فـما الحـكـمة من تأجـيل ذلك إلى الصف الخامس ؟ قالوا : كي يكـون بإمكانه أن يقـرأ الكـتيب المخـصّص لهـذه المناسبة ويفـهـمه . قـلتُ لهم : أولاً إن بـيتـنا هـو كـنيسة ومدرسة ، ثانياً إخـتـبروا إبني الأصغـر في قـراءته ، وإذا نجـح فـهـذا يعـني أنه مؤهّـل للمشاركة وإلا فأنا سأؤجّـل جـميع أولادي إلى السنة المقـبلة ؟

ولما إخـتبروه في القـراءة نجح فـقـبلوهـم جـميعـهم وإحـتـفـلنا بهـم سوية في كـنيسة مار ﭘـطرس وﭘـولص في الميكانيك وبقـداس إحـتـفالي أقامه الـﭘاطريرك الراحـل مار روفائيل بـيداويذ وبمرافـقة الأب شـليمون وردوني وكان المصوّرون يزدحـمون عـند المذبح لإلتقاط الصور لأولادهـم ولم يمنعـهم أحـد لأنها مناسبة سعـيدة ، وعـنـدها إلتـقـطـتُ صوراً لأولادي وهـم يتـناولون القـربان المقـدس فـتبقى ذكـرى جـميلة عـنـدهم . ومما ذكـرَه غـبطة الـﭘاطريرك في خـطابه باللغة العـربـية قال : إنّ الناس تـتـكـلم عـني وتعـلـّـق عـلى سفـراتي إلى الخارج ولكـن هـل تعـرفـون لماذا أذهـب ؟ أنا أذهـب كي أجـلب لكـم خـبز . وفي اليوم التالي زارنا في الـبـيت الأب شـليمون مع معـلم ومعـلمة لـتـلك الـدورة من المتـناولـين لـتـقـديم الـتهاني …

** وكان بـودّي أن أعـلق عـلى المساعـدات الخارجـية الـنـقـدية والعـينية التي كانـت تـصل إلى دير الميكانيك بالتريلات ! أفـضـّـل تأجـيلها .

قـراري بمغادرة العـراق :

حـين قـرّرْتُ مغادرة العـراق كان لا بد لي من تهـيئة بعـض الوثائق كـشهادة العـماذ فـحـصلـتـُها لإبنـتي الصغـيرة من كـنيسة مار ﭘـطرس وﭘـولص لعـدم وجـود كاهـن مقـيم ولا سجـلاّت في كـنيسة مار يعـقـوب . ثم إتـصلتُ بكاهـن كـنيستـنا الأولى … للغـرض نفـسه وحـدّد لي موعـداً لإستلامها لأولادي الـثلاثة ، ولما حـضرتُ في الوقـت المحـدد كان غائباً عـن الكـنيسة مما إضطـرني إلى الإنـتظار ــ ساعة ونصف ــ ثم جاء الأب الموقـّـر إبتـسـمـتُ أمامه عـلى إعـتـبار هـو أبونا وقـلتُ له مازحاً : ابونا أنا بإنـتظارك منذ زمن ! فـقال لي بلغة غـير كـهـنوتية : وما الذي تريده منـّي ، هـل أترك أعـمالي لكي أقابلك ؟

فـسكـَـتّ ُ! لأنه يمكـن في تلك اللحـظات أن يؤخـر طـلبي أو يؤجـله بحجة أو بأخـرى وأنا في حاجة ماسّة وأحـسب الساعات ، ولمّا أردتُ أن أفيَ له لقاء خـدمته هـذه ، رفـض . ولكـني عـلمتُ لاحـقاً أن كل الكـنائس في بغـداد ( وفي تلك الظروف فـقـط ) كان رعاة الكـنيسة يتساهـلون في منح شهادات العـماذ وبسرعة ولا يقـبلون أيّ مبالغ لقاء ذلك ، ولستُ أدري لماذا !.

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *