ذكرى 52 لأستشهاد قامة شامخة من تللسقف!!

كشاهد عيان وأنا طفل صغير أتذكر الأحداث الدامية التي وقعت قبل وبعد الأنقلاب الفاشي الدموي القاتل للشعب والمدمر للوطن، خصوصاً في 8 شباط عام 1963 قبل أكثر من نصف قرن وعامين مضت في العراق، ولا زالت الدماء والدموع تسيل وتسكب في بلد مليء بالعنف والدمار والتهجير والخطف والقتل على الهوية، بفعل أنسان عراقي بالضد من أخيه العراقي طمعاً بالمال والمنصب والكبرياء والضعف وهلم جرا، نتيجة ضعف الوعي الأنساني عبر ممارساة مشينة للسلطات العراقية الاستبدادية الرعناه، على حساب قيّمه وخصاله ناهيك عن حقوقه المستباحة.

رغم صغر سني في حينها لكنني كنت واعياً جداً للأحداث الدامية، بسبب الألتزام التنظيمي للمرحوم والدي صادق عجمايا حينما أصطحبني معه الى بيت أوراها قينيثا والد المرحوم الشهيد كوريال عام 1959 عندما تم أطلاق سراحه من السجن في الموصل بكفالة ضامنة، حيث كانت آثار التعذيب الجسدي والنفسي ظاهرة عليه بشكل كبير، كان يلتحف فروة والده في عز الصيف ونحن جالسون على السطح، وبعد مشاهدته والأطمئنان على صحته المتدهورة ذات القوام النحيفة جداً بسبب السجن والتعذيب، بادرت بسؤال عفوي طفولي لوالدي: لماذا كوريال جالس ويغطي نفسه بالفرو ونحن في الصيف الحارق؟! جاوبني المرحوم والدي: في السجن كانوا يفرشون الأرض بالماء والسجناء السياسيين نيام لتتبلل أفرشتهم للقضاء عليهم وهم أحياء ناهيك عن التعذيب والمعاناة اللاأنسانية داخل السجن!!

بعد الأنقلاب الفاشي في 8 شباط عام 1963 كان المرحوم الشهيد من اوائل المعتقلين من قبل الحرس القومي في الموصل، ليتم تحويله ضمن المعتقلين السياسيين الشيوعيين الى سجن الكوت السيء الصيت، وبعد حدوث الأنتفاضة الشعبية لأهالي الكوت تم كسر أبواب السجن المذكور، ليتم تحرير السجناء جميعاً والشهيد كوريال أحد الفارين منه ليختبأ في بغداد مدة من الزمن، ومن ثم يرتب التحاقه مع قوات الأنصار وفق خطة رسمت من قبل الأنصار وعائلة الشهيد بالتنسيق عن طريق منظمة الحزب الشيوعي في تللسقف، بممارسة عمله كمساعد سائق الباص الكبير (النيرن) الناقل للركاب من القوش الى بغداد وبالعكس.

التحق الشهيد مع قوات الأنصار للحزب الشيوعي التي تواجدت أحدى قواعده في دير الربان هرمزد بعد الأنقلاب الفاشي، تميز الرفيق الشهيد كوريال أوراها قينيثا بخصال فريدة من نوعها في الجانب السياسي الوطني والطبقي والقومي، حيث كان محباً فذاً لوطنه ومضحياً فريداً لحزبه وأهدافه النبيلة في حب الأنسان وعدم أستغلاله، ومع الفقراء والكادحين من العمال والفلاحين والكسبة، كما كان يسهر على راحة أبناء شعبه وتوفير أمنتهم وسلامتهم، وأرتبط بالحزب الشيوعي وأتحاد الطلبة العام منذ كان طالباً في المجموعة الثقافية في الموصل، ليتخرج معلماً ومربياً للأجيال وبعدها مباشرة أدخل السجن اللعين في الموصل نتيجة الوشايات المتعددة من قبل حذالة المجتمع في تللسقف، التي كانوا يطلقون عليها الرجعية المحلية في حينها، حيث كانوا متعاونين مع الرجعية في الموصل بالضد من أبناء جلدتهم وخصوصاً الطبقة المثقفة التي نذرت نفسها لخدمة الفقراء والمحتاجين والكادحين ومحبتهم لشعب قومهم، ومنهم الناشط الشاب الشهيد كوريال المتمتع بثوريته المعتادة وجروته التي لا تلين وبلا خوف ولا مجاملة لأحد، صادقاً مع نفسه وشعبه لا يهاب الموت من أجل الحق، نذر نفسه وضحى بمستقبله وشبابه من أجل سعادة شعبه وحرية وطنه.

بعد ألتحاقه بقوات الأنصار في قاعدة دير الربان هرمزد، لم تثنيه قوة وجبروت السلطة الدكتاتورية بالرغم من قسوتها وجبروتها وهو هارب من السجن، حيث كان يتردد بأستمرار على قريته تللسقف غفية وفي الظلام الدامس، حيث كان متزوجاً من جليلة شمعون شوريس عمها المرحوم المطران شموئيل شوريس – أبرشية أيران، وعند أستشهاده بالقرب من دير الربان هرمزد في 1963/7/7، كانت زوجته حامل لتنجب ولدان توم سموهما صلاح وكفاح وفي المعمودية كوريال وبطرس، تيمناً بوالدهما الشهيد وبرفيق دربه الذي أستشهد معه الشهيد بطرس جركو من القوش.

قصة أستشهاده:

آخر مرة كان المرحوم كوريال قينيثا لوحده زارنا في الكبرة (بستان البطيخ) كالعادة يوم 1963/7/4 حاملاً بندقية أنكليزية طويلة شبيهة بالبرنو تسمى فورتين حسب ذاكرتي، تحمل في داخلها خمسة أطلاقات فقط، وفي الصباح الباكر بعد منتصف الليل من يوم 5\7\1963 غادر الشهيد كوريال تللسقف للألتحاق بقوات الأنصار في جبل القوش.

في ليلة 6 على 7/ تموز عام 1963 شاهدنا قوة كبيرة جداً من الجيش والجحوش متوجهة الى القوش مروراً بتللسقف، كان المرحوم والدي قلقاً جداً على المرحوم الشهيد كوريال متوقعاً وقت وصوله للقاعدة الأنصارية لم تكون لصالحه، وفعلاً تبين حدسه فيما بعد خروجه ومعه رفيقه بطرس جركو باكراً في 1963/7/7 من القوش قاصدين القاعدة في الدير دون علمهم بقرار الأنسحاب الصادر من مسؤول القاعدة، وعند وصولهما الى دير مار هرمزد تفاجئوا بعدم تواجد رفاقهما في المقر، ففرضت عليهما المعركة الغير المتكافئة بعددها وعدتها وهما في ريعان شبابهما، قاوما الجحوش والجيش ببسالة قل نظيرها حتى فقدا عتادهما وهما جريحين حسبما قيل في حينها، ولكنهما سمعا أشخاصاً يتوجهون اليهما ناطقين بنفس لغتهما (الكلدانية) ومرتدين ملابس شبيهة بقوات الأنصار (شال شبك)، فأختلطت الأمور عندهما متوقعين رفاقهم وليسوا أعداءاً لهما، فتبين أنهم من الجحوش وقيل في حينها ريكانيين جندتهم سلطة الحرس القومي البعثية ومعهم الجحوش الكرد من الزيباريين والهركيين، فوقعوا في خدعة كبيرة ليدفعا بحياتهما ثمناً لحرية الوطن وسعادة الشعب.

في عصر نفس اليوم وصلنا خبر أستشهادهما عن طريق أحد رفاق القوش قاصداً المرحوم والدي ليعلمه بالخبر المؤلم الدامي وحسب ذاكرتي أسمه الرفيق سادونا، فلم يستطع المرحوم والدي من كتم الخبر حتى غلبت عاطفته وأغرفت دموعه بغزارة، وبعد برهة من الزمن أستفاق وأمرني بالتوجه الى بيت والد الشهيد كوريال المرحوم أوراها قينيثا لأبلغهم بالتوجه الى دارنا فوراً، فعلم والد ووالدة الشهيد كوريال بالحدث الدامي من دون احداث أي ضجيج عاطفي، وبعد ستة أشهر أمر القائد المرحوم الفقيد توما توماس وبقرار من الحزب بنقل رفات الشهيدين الخالدين كوريال وبطرس بدفنهما في الجانب الأيمن من الدير، وهناك أقيم أحتفالاً مهيباً في المناسبة وبحضور الرفاق الأنصار وغالبية الشيوعيين في التنظيم الحزبي في المنطقة وأولياء وأقارب الرفيقين، وأتذكر تم دفنهما في صناديق محترمة بمقامهما مع أطلاقات نارية كعرس حي لشهادتهما.

أخيراً بعد السقوط تم تكريم الشهيد كوريال بتسمية أحد الشوارع الرئيسية في تللسقف بأسمه بعد 2003، تلك المدينة الخالدة بخلد مناضليها، التي وقعت تحت سيطرة داعش في 7\8\2014، وبعد عشرة أيام تم تحريرها من قبل البيشمركة الأبطال الذين دفعوا دماء زكية بتحريرها من داعش قرابة خمسة شهداء وعدد من الجرحى، ولحد الآن القوات الكردستانية متواجدة فيها، ليعبث قسم من ضعيفي النفوس بممارساة غريبة عجيبة أساءت وتسيء ولا زالت تسيء لسمعة البيشمركة من دون أن تضع السلطة الكردستانية حداً لهذه التجاوزات المدانة، من كسر أقفال البيوت وسرقة ممتلكات شعب تللسقف لنفوس ضعيفة وكل ذلك يثبت ضد مجهول. يا ترى من هو المجهول ومن أين أتى ويأتي هذا المجهول؟؟ هل هو سراب مخفي لا يرى بالعين المجردة؟! أم هناك من يحفر الخنادق تحت الأرض ليباح البلدة ويسرق والقوات الكوردستانية تحمي المنطقة والديار وتواجه الداعش عسكرياً؟؟ وآخرها كسر أقفال كنيسة مار ياقو التي لها تاريخها القديم، ليتم كسر القازة (الخزنة) وبعثرة محتويات الكنيسة وهدم تماثيلها الرمزية في الأيمان، أنه بحق عمل مشين لا يمكن أن يشوه سمعة البشمركة الأبطال لكنها هذه هي الحقيقة لابد عرضها بأمانة وصدق لكي يعلم أصحاب القرار.

لذا نطالب حكومة كردستان بالتعويض الكامل لجميع البيوت في مدينة تللسقف التاريخية المستباحة، ورد أعتبار لشعبها المضحي دوماً من أجل أحقاق حقوق الشعب الكردستاني بجميع مكوناته القومية والأثنية طيلة الفترة التاريخية للثورة الكردستانية، يمدونها بالرجال والمال والسلاح والتموين والملبس والمأكل وأستشهد من أستشهد من أبناء مدينة تللسقف من شيوعيين أنصار وبارتيين وديمقراطيين، بالرغم من قوة وجبروت السلطات الأستبدادية الجائرة عبر الزمن الدامي العاصف، حتى أن شعبها منح غالبية أصواته لمرشحي كوردستان في الأنتخابات البرلمانية الأتحادية، بالرغم كان من أهل تللسقف مرشحين ذو قاعدة جيدة وسمعة وفيرة ونضال دؤوب، حجبوا أصواتهم عليهم بحجة القوات الكردية تحمي الديار وتؤمن الأمن والسلام، واليوم يشرد شعب تللسقف وينزح في مناطق مختلفة من العالم، ليتم الأستيلاء والتصرف بجميع ممتلكاتهم من بناء ومال وحاجيات بيتية والخ، لم يبقى شيئاً لهم في داخل بيوتهم المستباحة وهذا العمل الجبان لابد من أدانته من قبل السلطات الكورستانية قبل المجتمع، الواجب الأدبي والأخلاقي تعويض الأضرار التي لحقت بالشعب من قبل حكومة كورستان، وهو حق يجب أن يكون مكفولاً لأبناء تللسقف الكرام، أحترماً وتقديساً للتضحيات الرخيصة من جميع النواحي من أجل الوطن والشعب والثورات الكردستانية في العراق.

صدق المثل القائل: مصائب قوم عند قوم فوائد… ولكن أية فوائد هذه يا ترى!!!

منصور عجمايا

10\تموز\2015

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *