خريطة طريق واضحة امام سفينة الكنيسة الكاثوليكية للشعب الكلداني

العلوم البحرية تتألف من مختلف الفروع المتعلقة بالعمل البحري ، منها هندسية وأخرى ملاحية وثالثة بيولوجية وأخرى جغرافية وبيئية وهلم جراً ، وبالنسبة للملاحة في اعالي البحار تتطلب دراسة وخبرة وممارسة وأدوات وأجهزة لكي تساعد الربان على الإبحار في البحار والمحيطات والوصول الى هدفه بسلام ،. إن السفينة وطاقمها مهددان في كل لحظة بهبوب عواصف عاتية تجعل من السفينة ريشة في مهب الريح .

يفتح ربان السفينة امامه خريطة الطريق الذي يسلكه وعليه ان يرسم خط يمر بالمواقع التي يسلكها من موضعه الى المرفأ المنشود للرحلة ، وهكذا ينبغي ان تكون امامه خريطة واضحة ، وبهكذا خارطة وبتوجيه بوصلته نحو الهدف إضافة الى خبرته وحكمته ، سوف يضمن سلامة وصول السفينة بقيادتها وبملاحيها ومهندسيها وكل طاقم القيادة مع ركابها الى شاطئ السلامة .

الكنيسة هي السفينة التي يمسك دفتها البطريرك الكلداني والمساعدين والملاحين هم من الأكليروس من مطارنة والآباء الروحانين والرهبان والراهبات والشمامسة .. والركاب هم مؤمني الكنيسة الكاثوليكية من ابناء الشعب الكلداني ومن بقية مسيحيي العراق .

اللافت على ضوء المعطيات الناجمة عن الأوضاع السياسية بعد ما يطلق عليه الربيع العربي ، ان المسيحية في الشرق الأوسط تتقلص مساحتها تدريجياً وعلى مدى التاريخ تحت تأثير وتوسع مساحة الإسلام كدين ودولة ، فبالرغم ان المسيحية ديانة شرقية المنبت ، فالسيد المسيح ولد في فلسطين وتحدث بالآرامية ، وعن طريق التلاميذ والرسل انتشرت المسيحية ووجدت طريقها نحو اوروبا لتصبح ديانة اممية ، وعلى مدى قرون وفي زمن الدولة الرومانية تفاعلت الحضارة الثقافة الأوروبية مع اللاهوت والتعاليم المسيحية ، وكما قال البابا الراحل يوحنا بولس الثاني :

ان الأرث الثقافي الأوروبي في الوقت الحاضر مبني على النسيج الثقافي للمسيحية .

الملاحظ اليوم في القارة الأروبية التأثير الدور الكبير للثقافة المسيحية روحياً وسياسياً على حد سواء ، ومن يتجول في عواصم والمدن الأوروبية سيلاحظ بجلاء تأثير الثقافة المسيحية ، إن كان بكنائسها ومعالمها العمرانية او بثقافة النسيج المجتمعي المسالم لهذه الدول .

لكن في منبعها الأصلي في الشرق ، تقلصت المسيحية بمرور الأجيال على مدى 1400 عام ، واليوم يجابه الشرق الأوسط واقع مأساوي في تسلط التيار الأسلامي السياسي على زمام الأمور ، وقد مرت على العراقيين المسيحيين من كلدان وسريان وآشوريين وأرمن وبقية المكونات الدينية كالمندائيين والإزيدية ، مرت على هؤلاء سنين عجاف لا سيما بعد سقوط النظام في عام 2003 ، إذ لاحظنا كيف تفجر الكنائس وكيف يصار الى قتل المصلين داخل الكنيسة في كنيسة سيدة النجاة في قلب بغداد والقائمة تطول لا مجال للاسهاب . واليوم انتقلت العدوى الى سوريا وبوتيرة اشد مما حصل في العراق .

مع كل تلك الأجواء الغابوية ( من الغابة ) نحن نروج لكلمة اسمها (التعايش) وإذا ما علمنا ان التعايش يعني امكانية الشراكة في حقوق المواطنة والعيش والمصير المشترك ، فمقارنة اولية تبين اننا في حالة تعايش كاذب ، لا اكثر .

وسط تلبد السماء بالغيوم السوداء وهبوب الرياح العاتية ، يحرص البطريرك الكلداني ان يمسك دفة قيادة السفينة لكي تبقى سالمة لحين بلوغها مرافئ السلامة والتعايش والتسامح في الوطن العراقي .

كان البطريرك الكاثوليكي الكلداني مار لويس روفائل الأول ساكو الكلي الطوبى ، يدرك حجم المسؤولية وخطورتها ، لكن عمق ايمانه المسيحي وتجربته الحياتية وإخلاصه ، ومحبته لتقديم الخدمة لشعبه ولوطنه ، تجشم ثقل المسؤولية ووضع امامه خريطة الطريق التي شملت خطوطها العريضة : الإصالة والتجدد والوحدة .

لقد مرت سنة وتبين ان عجلة البطريركية تدور بخطواتها المدروسة ، لتسير في الأتجاه الصحيح ، قبل ايام كان انعقاد السينودس الكلداني في بغداد والذي انتخب ثلاثة أساقفة للابرشيات الشاغرة ومعاوناً بطريركياً ، والأساقفة هم : هم: الأب د. يوسف توما مرقس الدومنيكي، رئيس أساقفة أبرشية كركوك والسليمانية (التي تمّ دمجها قانونيًا وإداريًا بأبرشية كركوك)، والأب حبيب هرمز ججو النوفلي، رئيس أساقفة أبرشية البصرة والجنوب، والأب د. سعد سيروب حنّا أسقفاً فخريًا للحيرة ومعاونًا للبطريرك ، كما وضع الحل النهائي لمشكلة المطران الجليل مار باوي سورو ، ليصار الى قبوله في الكنيسة الكاثوليكية الكلدانية .

بالعودة الى خارطة الطريق في معنى التجدد بمواكبة روح العصر والمضئ في عملية التحديث مع عدم إغفال او نسيان الإصالة والجذور فنحن لنا تاريخ راسخ في هذه الأرض ، ولنا اسم قومي كلداني وحضارة مشرقة فلا يمكن الأنقطاع ومعاداة الماضي امام زخم التجدد والتحديث . ويمكن وضع موازنة عقلانية حكيمة بين الماضي والحاضر ، وفي شأن الوحدة كان انفتاح وتحرك غبطة البطريرك مار لويس روفائيل ساكو لتجسير اواصر التفاهم والتعاون مع كل الكنائس وفي المقدمة كانت الكنيسة الآشورية ، ولم يدخر جهداً في سبيل ذلك .

مصير الكنيسة وشعبها منوطان باستعادة الدولة العراقية لمكانتها وهيبتها ، وإرجاع الأوضاع الطبيعة للمجتمع في كل المدن العراقية ، وهكذا عملت البطريركية الكاثوليكية الكلدانية على تقريب وجهات النظر لمختلف أقطاب القوى السياسية العراقية ، ونالت باطريركية بابل على الكلدان في العراق والعالم مكانة سامية ومحترمة بين اوساط القيادة العراقية وهي محل تقدير واحترام كل الأطراف في هذه القيادة وذلك لموقفها الوطني الحكيم النابع من اخلاصها لمفهوم الوطن .

إن هذا الموقف المعتدل المقبول من جميع الأطراف ، يعتبر موقف مبدأي ومنذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة في اوائل العشرينات من القرن الماضي ، والتي اسست على انقاض الأمبراطورية العثمانية المنهارة ، لقد كانت الدولة العثمانية تعامل الأقليات بمبدأ نظام الملل الذي يعني منح مساحة من الحكم الذاتي للملة مقابل دفع الضرائب المترتبة عليها للباب العالي ، ويكون الرئيس الديني ( البطريرك ) للملة هو الحاكم الدينيوي لملته ايضاً .

في الدولة العراقية بات الرئيس الديني ( البطريرك ) هو الرئيس الديني فقط ، والمسائل الدينوية تعود مرجعيتها الى قوانين الدولة التي تسري على الجميع ، لكن هذا الوضع لم يمنع الدولة العراقية من وضع صيغ للمساواة بالجوانب السياسية ، فقد كان مجلس الأعيان يتكون من 20 عين يصار الى اختيارهم من قبل الملك مباشرة ، وكان البطريرك الكاثوليكي الكلداني عضواً في هذا المجلس ، إضافة الى كوتا مسيحية مؤلفة من 4 نواب وبعد هجرة اليهود كانت الكوتا المسيحية عام 1952 تتألف من 8 نواب .

إن مسيرة مؤسسة الكنيسة الكاثوليكية الكلدانية في المجال السياسي كان مناصراً للدولة بجهة تطبيقها حكم القانون ، وكانت مع استقرار الأوضاع ، لأن الأوضاع المستقرة تضمن الظروف الملائمة للعيش المشترك ، وهي تسعى لضمان حقوق شعبها الكلداني والمسيحيين بشكل عام ، ليس في ضمان حقوقهم الدينية في العبادة والشعائر فحسب ، بل السعي لمساواة شعبها الكلداني في الحقوق القومية والوطنية كما هي لبقية المكونات .

لقد كان واضحاً لكل ذي نظر ، بأن هنالك محاولات مفضوحة لدق اسفين التفرقة بين الكنيسة وشعبها الكلداني ناسين او متناسين انهم جميعاً في سفينة واحدة تمخر عباب البحر وينتظرها مصير واحد ، ويقودها ربانها الحكيم وعلى متنها طاقم القيادة مع الركاب ، وإن الجميع ينتظرهم مصير واحد ، وإن مصلحتهم جميعاً ومصلحة الوطن تكمن في رسو السفينة على شاطئ السلام والأمان ، كما ان تلاحم الكنيسة مع شعبها ضمان لهذا الأمان والأستقرار .

إن مؤسسة الكنيسة الكاثوليكية الكلدانية في العام المنصرم ، إضافة الى نشاطها الكنسي ، وعلى مستوى الإداري والإعلامي ، فقد كان زاخراً بنشاط وحراك على مستوى المؤتمرات للدفاع عن المسيحيين في العراق وفي الشرق الأوسط عموماً ، كما كان ثمة حراك على مستوى الوطن لرأب الصدع بين اقطاب الساسة في العراق بهدف تحقيق عملية سياسية ناجحة ، لنقع على حالة من الأمان والأستقرار لوطننا العراقي . وهي امنية الجميع إذ إن الأمان والأستقرار حالة مطلوبة وتصب في مصلحة النسيج المجتمعي العراقي برمته .

د. حبيب تومي / اوسلو في 16 / 01 / 14

 

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *