خاطرة لمن لم يسرق الزمن بعد … من عمره السنين … عندما تدورالأيام وتعود الذكريات ويرسم الماضي صورة الحاضر…

 

حينما وضعت صورتي على الفيس بوك وفتحت لي فيه رصيد، بدأت أتجول في رحابه الفسيح وأتصفح صورأقرباء وأحبة قدماء بعثرتنا أصابع الزمان بعد أن كنا نعيش بمودة وإنسجام، حاصرني الشوق بين جدرانه كسجين وتفجرت في عروقي ينابيع الحنين، فأخرجت ما لدي من صور قديمة من مخبئها الرصين، وقضيت ساعات دون أن يقاطعني رقيب وأنا أتمعن النظر إلى ملامح بعض الزملاء والأصدقاء لأستلهم شعاعاً يحملني كطير البر إلى سنين خلت، فعادت بي الذاكرة إلى عقود مضت، ومرت من أمامي بعض المناسبات واللقاءات والحكايات كسحابة صيف تمهلت أمامي، توقفت برهة ثم إختفت .

تيقنت بأن صورة لنا ما هي إلاَ ومضة في هذا الزمن الرخيم، كلما تأملناها ينساب منها الشجى وهو يداعب وجوهنا كرقة النسيم، ويغمرنا إشتياق دفين يُذكِرنا بلحظة لقاء العاشقين، فتعزف ذكريات الماضي في أعماقنا لحناً حزيناً كالأنين .

نعود لتلك الصور، نعاتبها ونطيل النظر إلى ملامحها كلما دارت بنا عجلة السنين وهي تطوي مراحل عمرنا المبين بكل ألوانه كنضوب العطر من ورد الياسمين.

نستفيق من حلمنا الجميل ونحن نسير في ممرات الخريف، نسمع همسا حينما تمر بنا شمس المغيب من إحدى نوافذ العمرالرتيب، يحكي لنا كيف تلاشت الأيام كلمح البصر وكيف خطف الدهرأعمارنا ونحن في النوم غارقين !

ننهض قلقين لنرى بأن الربيع الذي مرَ بنا لن يعود مهما فعلنا بكل يقين، نستعيد ذكرياتنا، نلتفت حولنا، نبحث عن حب الوالدينِ، حنان الشقيقة… وفاء الشقيق… كلهفة الفطيم حين يبحث عن حلمةِ ثدي أمه الرقيق، أو عن عزيز درب حمل همَّه العتيق ورحل إلى المجهول بلا رفيق …

نناجي أنفسنا : هل كنا في حلم غارقين أم سرقتنا الأيام ونحن يقظين …؟  لم نعد كالسابق نستأنس بالتجوال فرحين أو بحضور إحتفال مستمتعين، ولا التأمل في الشفق مبكرين، ولم يعد يغرينا التنزه في البساتين ونحن متلهفين لمداعبة زهور النرجس والرياحين. في الليالي نبقى ساهرين، فنشتاق لصوت موال حزين أو لطرق على النافذة من جار حميم. وعند الصباح نسترق السمع لقهقهات الأطفال يلعبون في الساحات فرحين ولصخب الجيران جالسين أمام الأبواب وهم يتبادلون الأخبار والأحاديث والبعض من همهم صامتين، وبين الفينة والاخرى نختلس النظرات لمداعبات العُشاق في الطرقات وهم يمشون متعانقين، ولكن…

لا شيء باقي غير جمر تحت رماد، رؤوسنا يعلوها غبار وعلى وجهنا رسم الدهر تجاعيد السنين، وحوالينا تتساقط أوراق شاحبة صفراء بعضها تؤرقنا بينما نحن إلى نهاية الدرب سائرين. تتلاشى أمنيات وتتزاحم ذكريات في مشاهد الفصل الأخير، نسمع صوتاً حزيناً يقول ” رحل ذلك الشاب الوسيم وترك بقاياه جالس في الظل يبحث عن نديم.”  فيظهرأمامنا شريط سينمائي مثير، فننظر إليه كطفل سقط من يده القنديل: أفراح ومناسبات في البيت القديم، ومواقف مؤلمة في توديع ورحيل، وأحداث مؤسفة في الديار كناقوس يدعونا للصلاة ودقاته من أساها تمور، وأحبة مرَ بهم الردى وطيفه بيننا كل يوم يدور.

نتذكر كيف كنا نتلهف للغد ونُسرع الخُطى دون تفكير، ونتمنى أن تمضي الشهور كالبرق وعلى جناحيها نطير. كنا نحلم بيوم ننهي فيه دراسة الإعدادية… نحصل على شهادة من الكلية… نتوظف في دائرة رسمية … ثم نبحث عن فتاة جميلة … من عائلة كريمة … معلمة… موظفة في شركة حكومية … نتزوج … ننجب الأطفال … نتلهف إلى يوم نجاحهم في الإبتدائية بلهفة شجية … وبعدها بتفوق يحصلوا على شهادة جامعية … يتوظفوا… يتزوجوا وينجبوا، ثم يتركوا أطفالهم في دارنا يوميا …

وتدور عجلة الأيام… أبناؤنا وأحفادنا يكبرون بسرعة ويتقمصون الشخصية فنرى أنفسنا فيهم مثلما ننظر إلى مرآة عادية، فرحون حين نراهم نحو أهدافهم يهرولون بعد أن منحناهم كل ما كانوا يبتغون، ولم يعد لدينا من رحيق الدنيا ما نرتشف منه ونحن راحلون … فيحملنا الشوق للماضي الجميل لنعانق من لم نفكر يوماً بأن يد المنون ستخطفه ونحن عنه ساهون. نعود مسرعين لمن ما زالوا منتظرين لنكمل معهم بقية السنين، ومع الاخرين نكمل المسير حين نودع أخاً، عزيزاً، وصديقاً… فنرمي على ثراهم وردة ونسير.

أحيانا تُراودنا في زحمة الحياة تأملات … نتوقف … نصمت… نستدير : فاتنا قبل أن نرحل شيئاً، حينما طرقنا باب هذه الدنيا ونحن عراةُ صارخين، كضيوفِ مستغربين وأهلنا بمقدمنا يقبلون بعضهم مستبشرين… وأسفاه … نسينا أن نعيش… وأمضينا مقداراً من العمر في أمور تافهة، وعشق أفكار مُزيفة، والجري خلف أهداف مضللة، وشعور الخيبة من تضحيات ساخرة، وفي المعاناة سنوات مضنية وكأننا مبرمَجون، فتراودنا شكوك وتساؤلات:

هل كنا في وعينا وفعلنا كل شيء بقناعة وسرور وأحياناً بعناد وغرور؟ أم كنا مُسيرين ودون مشيئتنا جرت الأمور، وكُتبَ قدرنا قبل أن نُخلق بعصور؟ ولكن الاملُ يبقى أملاً  كلما أشرقت الشمس وإحتضنتنا بأشعتها الدافئة ونحن نترقب مولداً جديداً في الأفق البعيد.

بقلم : صباح دمّان

26 / 10 / 2014

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *