حمار باطنايا السعيد الذِكر

 

قيل ويقال أن الذي لا يفكـّر أو يستخدم عقله بالشكل الذي ينبغي، فهو “حمار”. كما ألصقت لفظة “حمار” و”مطي” و”كديش” و “زمال” بالتلميذ البليد والمتهرب أو”الكسلان” في المدرسة والصانع القاصر المقصـّرالذي يعمل لحساب صاحب مهنة حرة، خاصة الميكانيكي (الفيترچـي، باللهجة العراقية). وجاء في باب الغيرة مثل شعبي يقول بأن “اللي ميغار حمار” (الذي لا يغار فهو حمار). كما دأب الكثير من الآباء والأمهات على تقريع أولادهم ونعتهم بـلفظة “حمار”، إن لم يـُنعتوا بـ “إبن حمار” زيادة عليه، كلما أخفقوا في تحقيق شىء كـُلفوا به أو كانوا مصدر إزعاج.

 

دفعني هذا الإستهلال من واقع الحياة العراقية للدفاع عن الحمار الذي يبدو أنه يفكر على طريقته. فهو لا يخفق في عمله، قبل كل شىء، ولا يغار من طرق عيش أقرانه أو الحيوانات الأخرى أو حتى الناس وسلوكهم. بطل حلمي ليلة أمس حمار عايشته في طفولتي قبل أكثر من نصف قرن. كان أهل قرية باطنايا (15 كلم شمال مدينة الموصل) يطلقون عليه الحمار الأزرق أو الحساوي لبأسه. إمتطيته (ومن هنا جاءت تسميته الثانية “مـُطي”) كما فعل رفاق الدرب قبل شروق الشمس وسلكنا الطريق الترابي المؤدي إلى الخوصر (خلف دير مار أوراها الواقع شرق القرية) لغرف حاجتنا اليومية من الماء المنحدر من زاب في أعالي دجلة لقلة مياه الآبار في القرية. تذكرت من هذا الحلم نتفا حالما استيقظت. لم أعد صغيرا في هذا الحلم، بل كهلا يدندن أغنية عراقية للمطرب سعدون جابر فأطربت الشلة التي كانت ترافقني على ظهور حميرها، بل والحق يقال، أطربت الحمار الذي كان يهز أذنيه مغتبطا. همست في أذن حمارنا المنزلي وقلت له: “أتعلم أن البشر بات يغار منك ويحسدك على صبرك الجميل في هذه الأيام العصيبة من عمر العراق؟” إلتفت إلي بزاوية حادة مكشّرا وكاشفا عن أنيابه ورافعا شفته العليا ليسمعني صوت نهيقه كما لو كان يعـده سمفونية الصباح. تسمـّر معاندا فسطـّر شيئا بحافريه على التراب، ثم هدأ واستمر بالتقدم لينضم إلى القافلة. إلتفتُ إلى الوراء وتمعنتُ بالخربشات التي خلـّفها وراءه فوجدتها أقرب إلى نقوش سومرية أو مصرية أو صينية أو طفولية تعذ ّر علي فكّ طلاسمها، ولكني توصلت إلى نتيجة مفادها بأن الإيماءات والإشارات التي أرسلها لي حمارنا “الشاطر” قد تحمل دلالات تتلخص بكلمة “شكرا” على إطراء ناله مني باستحقاق. ومن حقه أن يعدها مديحا مليحا لأنه الوحيد من بين كل الحيوانات الذي يتردد إسمه ومرادفاته على ألسنة الناس ومسامعهم، وإن كانت كل المسميات إستهجانا. وهو الوحيد الذي لا يتذمر إلا عندما يأبى المسير قدما فتجده مضروبا بالعصا ويتمنى أن يكون فرسا أصيلا يتباهى به فارسه. كما أنه لا يسعى لرئاسة بني جنسه أو يتهافت على الألقاب الرنـّانة، كـ “سفينة الصحراء” التي يكنى بها الجمل أو “ملك الغابة” الذي يتغنى به الأسد أو “معالي ” كذا و “دولة” كذا و “عطوفة” كذا أو ما شابه ذلك في عالم البشر والحشر. يكفيه أن يكون خادما مطيعا لا يكلّ ولا يملّ ولا يحتاج سوى إلى صلاة “أعطنا خبزنا كفافنا اليوم” يتلوها بصمت. هو قنوع بـ “حصته التموينية” ولا ينتمي إلى “حزب الحمير” لينتخبوه حمارا أحمرا أو أزرقا أو رماديا، بل يأبى أن ينتخب بغلا معمما أو ذئبا ملـّثما إنتحل إسمه. هو قنوع بسنـّة حياته وحظيرة تقيه برد الشتاء القارس. هو سعيد بصاحبه الراعي الذي يقود قطيعا من الغنم بحماية كلب واحد بين المراعي الخضراء في موسم الربيع. هو نباتي لا يعاني من داء السكر أو ضغط الدم العالي والكوليسترول وانفصام الشخصية.

 

أفقت من نومي مبتسما وهرعت إلى مكتبي لأسجل ما تبقى من الحلم الجميل قبل أن يغدو طي النسيان كغيره من الآف الأحلام الجميلة والوردية والجهنمية والبغيضة والمرعبة والمهلكة. وأول عنوان اخترته لهذا الحلم هو “حمارنا يفكـّر”. تراجعت عن هذا الاختيار كي لا يمتعض دعاة “الفكر” من المقارنة، وقد أكون واحدا منهم. ثم تسائلت: إذا كنا جميعا نفكـّر، ولو بطرق مختلفة، أما يجوز لنا أن نقول بأن حمارنا كان يفكـّر على طريقة “جـُحا وحماره” عندما توقف فجأة؟ صحيح أنه “حمار حلم”، ولكن عجيب أمرنا عندما نتكلم عن الحمار في يقظتنا سلبا بينما تزخر دنيانا بمن لا يرقى إلى مستوى “حمار باطنايا” لأن الحسد والغيرة والطمع والحقد والسطوة والخيانة والربح غير المشروع والسرقة والنهب والتهريب وتكفير الآخر، وما إلى ذلك من موبقات، باتت تجردنا من إنسانيتنا وتعبث بالفضائل التي نحسد الحمار عليها. لذلك، آثرت أن يكون عنوان هذا الحلم: حمار باطنايا السعيد الذِكر.  

 

 

الأردن في 29/9/2010

gorgis_3@yahoo.co.uk

 

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *