حرب التسميات: ما هكذا تورد الإبل، يا كتـّابنا الأفاضل

حرصت على قراءة معظم ما ينشر على المواقع الإلكترونية بشأن التسميات والسعي المحموم لإيجاد تسمية موحدة، وخرجت بنتيجة تشبه إلى حد بعيد ذلك اللقيط الذي يبحث عن ذويه، وكأنما نجهل فعلا هويتنا. ترددت كثيرا في الكتابة حول الموضوع كي أبتعد عن الاتهامات وآثرت التعبير عن موقفي برسائل خاصة (وهي محفوظة لدي بتواريخها). طلب أحد الأخوة علنا معرفة هويته بسبب الحروب الكلامية التي يبدو أنه سئم منها، كما سئم منها الآخرون. سأدلو بدلوي هذه المرة على الملأ، فقد طفح الكيل، وإن قلتها لماما في مناسبات أخرى وترجمتها على أرض الواقع.

 

لم يعد خافيا على أحد بأننا قبلنا، شئنا أم أبينا، بتسمية “مسيحي” التي أفرزتنا عن “المسلم” في “الجنسية” أو “هوية الأحوال المدنية” العراقية على المستوى الرسمي في العهود السابقة، وما زال هذا الفرز ساري المفعول، ناهيك عن استخدام لفظة “نصراني” المرادفة في سياقات معروفة و”فلا” الكردية. وكنتيجة لهذا الفرز الديني، دخلنا صاغرين الإنتخابات البرلمانية الفائتة بـ “حصة” مسيحية مفروضة وغير متناسبة مع العدد الحقيقي، رغم علم الجميع بأن “الأرمن” مسيحيون كذلك، بينما أضحت لفظة “سرياني” على المستوى الثقافي الرسمي هي الرائجة، وخير شاهد على ما أذهب إليه هو “مجمع اللغة السريانية” الملغى والمدارس وقسم اللغة السريانية بجامعة بغداد،…إلخ. أما على مستوى التجمعات الشعبية (والقروية)، كنسية كانت أم إجتماعية، فكلنا يعلم بأن ما جمعنا ويجمعنا هو لفظة “سورايا” أو “مشيخايا”. وإضافة إلى ذلك، فقد مارسنا أدوارا إثنية (عرقية) بعلم الحكومات المتعاقبة تمثلت منذ القرن الماضي بالنادي الآثوري، أو الأرمني، بشقيه الإجتماعي والرياضي، ونادي بابل الكلداني أو المشرق، مثلا.  فذاك الذي كان منتميا للأول كان آثوريا أو أرمنيا قطعا ولا تسمع بين منتسبيه سوى اللهجة الآثورية أو اللغة الأرمنية. وكذا الأمر بالنسبة إلى الكلدان أو السريان، ولو بدرجة أقل، ما عدا بعض الاستثناءات التي طفت على سطحها العربية مما حدا بالآثوري أن يتهم الكلداني، والسرياني خاصة، بانتمائه إلى العروبة. وقد يكون محقا بهذا الاتهام لأن الكثير من الأسماء ولغة التخاطب في العائلة الواحدة أضحت عربية، خاصة في بغداد، في الوقت الذي تناسى من يوجه إتهاما كهذا بأن الكثير من الأسماء، بغض النظرعن التسميات الطائفية، أصبحت أجنبية أيضا، بيد أن حصة الأسد من الطقوس الكنسية الكلدانية أو السريانية أخذت منحى عربيا أو ثنائية عربية/سريانية لأسباب وضعية لا مجال لتبريرها.

 

لم تتأثر علاقاتي بالمئات من أصدقائي وطلابي من الآثوريين والكلدان والسريان طوال أكثر من نصف قرن من عمري لأن لفظة “سورايا” هي التي قربتني منهم روحيا ولغويا، وليست المسميات “كلداني، آثوري، سرياني”، أو “كلدوآثور” المركبة. وعلى هذا الأساس كان اقتراني بآثورية. بل لم يناقشني أحد يوما ما حول انتمائي من عدمه إلى ما يسمى اليوم بـ”القومية الآشورية” أو “القومية الكلدانية”. كما لم أستخدم الصفة القومية إلا منذ سنة 1977 عندما طرق بابنا في الموصل/منطقة الدواسة السيد “العداد” المغلوب على أمره أثناء الإحصاء السكاني. عندما سألني عن إسمي الكامل وقوميتي، قلت له “كلداني” بالفم المليان، والديانة “مسيحية”. رفض تثبيتها، فقال لي: لدينا تعليمات بإثنين فقط، إما عربي أوكردي، فأجبته: “بكيفك”. فقال بأن المسيحيين محسوبون على العرب”، وسجلني عربيا. وكذا الأمر بالنسبة إلى زوجتي التي قالت له بأنها “آثورية” (ولم تقل له “آشورية” في حينها). والجدير بالذكر، أن رسالة الماجستير التي تقدمت بها إلى جامعة بغداد سنة 1975 كانت عن اللهجة الكلدانية، بيد أن عنوانها كان “اللغة السريانية”. لماذا؟ أنا باحث أكاديمي وأعلم علم اليقين بأن لهجاتنا المحكية في العراق هي “سريانية” شرقية، حتى وإن كان البعض منها محسوبا على الغربية، بسبب تجاور أقوامنا واختلاطهم وتزاوجهم، وأن السريانية هي الآرامية الحديثة بعينها كما يجمع عليها علماء اللغة. أما أن يأتيني اليوم كاتب ويقول بأن الآرامية أو السريانية، بضمنها لهجاتنا، هي آشورية أو كلدانية دون إجراء دراسة علمية تقارن بين اللغة المسمارية البائدة واللهجات السريانية الحالية هو أمر مرفوض جملة وتفصيلا إلا إذا أثبت المدّعي عكس ذلك بدلائل مادية كافية يـقتنع بها العلماء أهل الاختصاص. نعم، هنالك مفردات أكدية ما زلنا نتداولها في لهجاتنا العراقية، بضمنها العربية، ولكن ما هي أوجه التشابه النحوية والمعجمية بين المسمارية (سومرية، أكدية، آشورية، بابلية) والآرامية القديمة أو الحديثة بلهجاتها المختلفة؟ سأكون مسرورا لو جائني باحث وقال بأن السومرية أو الأكدية هي اللغة الآشورية أو الكلدانية أو ربما كلاهما. ترى من لا يقبل بنتائج العلم، بعيدا عن العواطف الجياشة ؟ أما التخريجات اللغوية البسيطة، على شاكلة قل “قـِمـّة” ولا تقل “قـُمـّة” لأن الأخيرة من “القـُمامة”، وهي “الزبالة” (التي أزعجت أهل “قـُم” الأيرانية)، فهي لا تمت إلى علم اللغة وأصوله بصلة وينقصها البيان العلمي الرصين. وهذا ينطبق على قول أحدهم بأن السين والتاء والثاء والألف في اللفظة الإنكليزية أصلهما كذا وكذا والإستعمار فعل بنا ما فعل وفرّقنا، متباكيا، للإستدلال بأن السريانية (الآرامية) هي الآشورية المسمارية، مثلا. كنت أتمنى أن أجد على الخارطة المدرجة في كتاب المؤرخ والآثاري جورج رولنسون لفظة “أسيريا”، وإنما وجدتها “آتوريا” (أو آطوريا)؟ فهل يـُعقل أن تكون هذه اللفظة مساوية للفظة “السريانية” وبالتالي للفظة “الآشورية”؟ نعم، يـُعقل للبعض، خاصة عندما نجد باحثا قوميا متزمتا، وهو عضو متمرس في الاتحاد الآشوري العالمي منذ عقود طويلة، يترجم “الأمة السريانية” التي يقصدها مؤلف الكتاب التالي:

 

Malech, George David (2009 [1910]). History of the Syrian Nation and the Old Evangelical-Apostolic Church of the East: From Remote Antiquity to the Present Time. Whitefish, MT: Kessinger Publishing LLC.

 

إلى “الأمة السورية” خطئا، ثم يقول أن لا فرق بين “السريانية” و “السورية”، فكلاهما يعنيان “الآشورية”، علما بأن المؤلف يؤكد في متن كتابه عدة مرات بأن الكلدان والآشوريين والسريان يشكلون مجتمعين “أمة سريانية واحدة”، وليس “أمة سورية واحدة” أو “أمة آشورية واحدة”. وفي مقال آخر يتهم صاحبنا الباحث زملائنا الكتـّاب الكلدان بالعجز الفكري ويطلب من الله أن ينـّجيه من الكلدان “الضالين” لأنهم، وبحسب قوله، لا يتمتعون بـ “عقل ومنطق سليم”. ماهكذا تـورد الإبل، يا أستاذنا الفاضل، فرحمة بالذي يسمي نفسه كلدانيا ويفتخر بكلدانيته.

 

ونعم، يـُعقل مرة أخرى، عندما نجد أن هنالك من لا يتمالك أعصابه، فينطلق لسانه بالقدح والذم وشتم الآخرين ممن يخالفه الرأي على المنبر الحر ويكرر على مسامعنا تخريجاته اللغوية ليقول لنا (نقلا عنه حرفيا): “الاصل اشور ومنه الاشتقاقات:- اثور، اتور، أسور، سور، سورايا، سوريويو أو سوريايو، عسرايا، سريان مشارقة، نسطوريين، جبليين، فليحي”، وهو لا يعلم قطعا بأن لفظة “فلـّيحي” هي أقرب إلى الشتيمة منها إسما مشتقا من آشور. وأهل الموصل أيام زمان أدرى بها، حالها حال لفظة “تلكيفي” التي كانت تطلق على كل مسيحي هاجر من الشمال وسكن أحياء بغداد الشعبية في عقد النصارى والعوينة والمربعة والسنك وآخرها البتاويين والأورفلية في منتصف القرن الماضي.

 

ونعم، مرة ثالثة، فالمضحك المبكي فيما أسميته في العنوان بـ “حرب التسميات”، هو أن يخرج علينا أحدهم بمقال منشور على منتديات عنكاوا يجزم فيه بأن الرقصة الفلانية هي آشورية 100% لأنها هكذا وردت في أرشيف بلاد آشور وهو يجهل تماما بأن الآثاريين لم يحصلوا على نقش واحد يحكينا قصة هز الكتف وحركة الأرداف والرقص الشعبي المختلط. كفانا استسلاما لعواطفنا الجياشة ولنتكلم علما موثقا وواقعا معاشا، ورحمة بالقارىء العادي الذي قد يصدق التهويل والتسويف والتخريج معا.

 

 حرية التعبير، يا سادتي، تحكمها معايير أخلاقية، أهمها الإلتزام والتوثيق الصحيح والدقيق والابتعاد عن الإطناب غير المبرر والتلاعب بالألفاظ. ما يزعجني حقا  في كتـّابنا، وأحدهم يذيل خطابه بصفة مسؤول إعلامي، هو إتهام غيره علنا بالعجز اللغوي (كارتكاب الأخطاء الإملائية والنحوية) في الوقت الذي أرى بأن هذا المسؤول، مثلا، يقدم المفعول به في رده على صاحبه ويرفعه متصورا أنه مبتدأ كما لو كان سيبويه زمانه. كلنا نخطأ لغويا، وهذا ليس بعيب، وإنما العيب هو في الشخصنة ومحاولة التشفي من الآخر على المكشوف والتصيـّد في الماء العكر أو التهرب من جوهر الموضوع والالتفاف عليه بأساليب ملتوية، كلدانيا كان الكاتب أم آثوريا، لا فرق، والأمثلة على ذلك كثيرة. قبل عدة أسابيع، قرأت مقالتين لكاتب جيد يبدو في ظاهره معتدلا، وأشاد باعتداله آخرون. مكـّنته لغته الجيدة، والحق يقال، من التلاعب بالألفاظ  ليخرج علينا بنتيجة مفادها أن “التسمية الآشورية حضارية”، جاعلا بذلك من التسميات الأخرى، وقصده الكلدانية، غير حضارية أو بربرية، وليحقق بالتالي شعار”الغاية تبرر الوسيلة” من حيث يدري أو لا يدري، ويطلب من الآخرين أن يعتمروا عمامته. بالله عليكم، ألا يتكدر الكلداني من سفسطته؟ كفانا تشويشا ولغطا إعلاميا. وإن كانت إحدى فوائد الكتابة هي خلق حالة من الوعي الثقافي لدى أبناء وبنات شعبنا، إلا أن ما نكتب قد يسىء أكثر مما يفيد. ولست هنا في باب تبرئة ذمتي من بعض الإثم غير المقصود، فأنا أكتب عن تاريخ الكلدان كما ترويه المصادر، وهذا شىء حسن، وإن فسّره الآخرون في الخندق الآخر سلبا، ولكني أعيش عصر المعلوماتية وأنا شاهد عليه. أنا كلداني مذهبا وقومية وزوجتي آثورية قومية وكلدانية مذهبا، وغيرنا سرياني غربي وكلنا أعضاء في جسم أمة حية تمشي على الأرض وتتنفس وتضم بين أحضانها شعبا ناطقا بالسريانية بمختلف لهجاتها، وهو جزء لا يتجزأ من الشعب العراقي بقومياته المتعددة. أفتخر بكلدانيتي مثلما تفتخر زوجتي بآثوريتها، وما يجمعنا هو سقف واحد لا غير، وهكذا يجب أن يكون جميع أبناء وبنات شعبنا بمختلف هوياتهم التي يشعرون بالانتماء إليها فطريا، ومن المخجل حقا محاولة شطب أي منها بجرة قلم سياسي. إن الذي ينهل من التأريخ الرافديني المطمور شيئا ثمينا كان غائبا عن وعينا ويعي الحاضر ويستشرف المستقبل هو ذلك الذي يردّ على المتزمت بسلسلة متعاقبة من الأسئلة التقريرية التي لا تحتاج إلى شاطر كي يجيب عليها، ومنها:

لماذا لا نستأنس بسجلات دوائر المخابرات والشرطة وملفات اللاجئين لدى الأمم المتحدة ومنظمة الهجرة الدولية، مثلا؟ هل تدوّن هذه الدوائر لفظة “الكلدانية” مذهبا و”الآشورية” قومية؟ هل تفرض هذه الدوائر علينا التسميات أم كل قوم بإسمه يـُعرف؟ وهل من قوة، مهما كانت غاشمة، ستفرض على الكلداني أو الآثوري تغيير قوميته في التعداد السكاني القادم إلى ثلاثية؟ أرجو ألا يحدث ذلك رأفة بالفطرة التي نشأ عليها كل قوم.

 

إن ما يعوزنا في المرحلة القادمة هو تثقيف شعبنا بأننا جميعا ننتمي إلى أمة سريانية واحدة بتسمياتها المحلية التي نفتخر بها. وشخصيا، لا أسمي هذه التسميات إنقساما أو تقسيما، بل تنوعا، وفي التنوع قوة. وهل الشعب الأمريكي أمريكي القومية أبا عن جد، أم متعدد القوميات؟ لكي نضع حدا لحرب المسميات وأفضلية هذه على تلك، على السياسين تبني الأمة السريانية الواحدة (بعيدا عن التخريجات اللغوية غير المجدية) تحت علم موحد تتفق عليه الأطراف الحزبية والإعلامية المتناحرة، وبتمثيل دبلوماسي واحد في كل المحافل العالمية ذات العلاقة بالدولة العراقية، وإسم واحد في الدستور العراقي والإقليمي، بدلا عن “المكون المسيحي” الذي يعزز النزعة الطائفية سيئة الصيت، وبدلا عن تثبيت إسم قومي فئوي واحد يقوم مقام الوصي على غيره من الأسماء المتناظرة، مما يخلق حالة من الغبن في التمثيل، وبالتالي البلبلة والتناحر بين الأقوام الناطقة بذات اللغة المشتركة. أقول هذا لإيماني المطلق بمقولة: “لا تتحزبوا لئلا تتفرقوا”. وفي غياب واجهة إعلامية سياسية موحدة، تتبعثر الجهود ولا يمكن لنا أن نضمن حقوقنا السياسية والقومية الوطنية كاملة ما لم نكن قلبا واحدا. هل تعوزنا الشجاعة في أن نقول “وداعا” لحرب التفضيل بين التسميات ونبدأ بتسجيل تراثنا الحاضر، بفروعه الثلاث، بكل مفرداته إحتراما للخصوصية لنودعه أمانة تحت مظلة لغوية وثقافية حضارية واحدة في أعناق الأجيال القادمة قبل فوات الأوان؟

 

الأردن في 8/9/2010

 

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *