تحليل الشخصية المسيحية العراقية / فارس كمال نظمي

 
2010 / 11 / 23

هل نغالي عندما نقول أن أبرز فضائل الشخصية الاجتماعية الحالية في العراق، تتجسد بكثافة في شخصية الفرد المسيحي العراقي تحديداً؟ وبصياغة أخرى، ألم تكن هذه الأقليةُ السكانية على الدوام المرجعَ السوسيوثقافي الأساسي الذي استمدت منه الأكثرية السكانية في العراق أهم فضائلها السلوكية النوعية، في التأريخ المعاصر على الأقل؟ وبصراحة أكثر، إن الأقلية المسيحية “كماً” مارست دور الأكثرية المتحضرة “نوعاً”، إذا ما أعلنتُ انحيازي الكامل لفكرة أن ما يحدد الأكثرية والأقلية هو “النوع” لا “الكم”، وإن المسيحيين في العراق كانوا على الدوام الأكثريةَ الأشد تحضراً بممارساتهم الفعلية لقيم العقل والتسامح والحرية، على العكس من فئات مجتمعية أخرى ظلت مولعة بدرجة أو أخرى بقيم الغيب واحتكار الحقيقة والوصاية على إرادات الناس وحرياتهم.

يتخذ تحليلي الحالي من المنظور النفسي الاجتماعي منهجاً، إذ أن صفة “المسيحي” هنا يُراد بها التعبير عن بنية سوسيوسيكولوجية لا عن معتقد ديني له ثيولوجياته المذهبية المتنوعة، ولا عن أصول عِرقية لها امتداداتها الجينية رجوعاً إلى آلاف السنين على ضفاف الميزوبوتاميا عند فجر الحضارة. إن الانثربولوجيا النفسية وحدها متخصصة بالكشف عن الصلة التكوينية الوظيفية الدقيقة بين التمظهر الاجتماعي الحالي لفئة معينة، وبين جذرها الديني-العِرقي الموغل في عمق التأريخ. وذلك ليس منهجنا في هذه المقالة.

إن تشريح الشخصية الاجتماعية العامة أو الفرعية في أي مجتمع، يتطلب التبصرَ في ثلاثة مقومات تكوينية لها: القيم الاجتماعية-الحضارية لتلك الشخصية، وخصائصها العقلية والانفعالية، واتجاهاتها السياسية العامة. فمن هو المسيحي العراقي إذن طبقاً لهذا التصنيف، بصرف النظر عن جنسه أو مستواه التعليمي أو مكانته الاجتماعية-الاقتصادية؟
1- القيمة الأبرز في الشخصية المسيحية العراقية هي “احترام الحياة” قولاً وفعلاً، إذ يتجسد هذا الاحترام عبر منظومتين متفاعلتين: السلوك الاجتماعي والسلوك الشخصي. فالمسيحي العراقي مسالم ومتسامح وانبساطي ومتعاطف ومهذب ومنفتح على الآخر العراقي أياً كانت هويته الدينية أو العِرقية أو الفكرية، إذ يطغى الطابع العقلاني الصرف ويحل التوازن النفسي المريح أينما يكون للمسيحيين موطأ قدم ودور فاعل في الحياة العراقية.
أما على صعيد السلوك الشخصي للمسيحي، فيتجسد احترام الحياة لديه بقيم الجمال التي يعبّر عنها بممارسته الشغوفة للفن (الموسيقى والرقص والغناء)، وتوقير الطبيعة بكافة مخلوقاتها، والاهتمام بالنظافة والأناقة، واتقان الحرف اليدوية والفنون البيتية، وإقامة التجمعات الاجتماعية الحميمة. والأهم من كل هذا ذائقته الحسية العالية نحو جماليات المكان والوجود، استيعاباً وإبداعاً، على نحو يجعل من فرضية “الإنسان الفاضل” احتمالاً عقلياً لا يجوز رفضه ما دام المسيحيون يستوطنون أرض العراق.

2-التركيبة العقلية للفرد المسيحي العراقي جعلته متزناً في كافة تعاملاته الدنيوية، ومتحرر التفكير، وممجداً للعلم والكتاب، ومخلصاً لروح الاستكشاف والفضول المعرفي الفريد، وممارساً للمحاججة العقلية الهادئة، ومتفهماً لحقيقة الاختلاف والتنوع، وقادراً على التعلم بسرعة والتكيف بكفاية مع المستجدات، ومنظماً في أولوياته، ودقيقاً في التخطيط والإنجاز، وقوياً في ذاكرته المعرفية والاجتماعية. أما تركيبته الانفعالية فجعلت منه وسطياً، ومتريثاً، ورابط الجأش، ومعارضاً بود ومفاوضاً بأريحية، ورقيقاً، ومجاملاً، ورومانسياً محباً لمدينته وحارته وبيته وناسه ومهنته حد العشق، ومتعلقاً بوطنه لا يتنازل عن أحقيته الهوياتية فيه بالرغم من كل عوامل الطرد الكاسحة.

3- النزعة العلمانية الشديدة لدى مسيحيي العراق، جعلتهم سقراطيي البلاد دون منازع نتيجة ولائهم الأمين والعفوي لمفهوم الدولة بكل آثامها، وما ينتج عنها من قوانين تستدعي “التقديس” ما دامت تجعل كافة المواطنين سواسيةً أمام معيار موحد لآدميتهم. فالمسيحي العراقي بهذا المعنى هو المواطن الأشد مدنيةً وعقلانيةً من كل مواطني دولته التي ظلت ممزقة الهوية طوال الأربعين عاماً الأخيرة بين نرجسية البعث وصنمية اللاهوت السياسي. إنه ببساطة يجسد بسلوكه فكرةَ “المواطن” كما طرحتها فلسفات التنوير في القرن الثامن عشر، إذ استحالت عقيدته الدينية إلى فضائل شخصية سلوكية فحسب تنظم علاقته بنفسه وبالمجتمع وبالكون، فيما ظلّ ولاءه السوسيوسياسي باحثاً دون جدوى عن راية دولةٍ لا دين لها لأنها دولة الجميع. وإلى جانب هذه النزعة العلمانية، فإن مسيحيي العراق يساريو الهوى في عمومهم، عدالويو الميول، مساواتيو النزعة إلى حد كبير في نظرتهم وموقفهم من الجنسين، شغوفون بفكرة الحق وضعياً كان أم إلهياً. ولا غرابة أن يوسف سلمان” (فهد) مؤسس الحزب الشيوعي العراقي 1934م ينحدر من أسرة كلدانية نزحت من الموصل إلى بغداد ثم إلى البصرة، بحسب “حنا بطاطو”.
كتبتُ في رؤية سابقة لي: ((إن ما يحصل اليوم في بغداد وبقية أنحاء العراق، يمكن اختزاله بمقولة الصراع بين قيم التقدم وقيم التخلف، أو بين قيم الحداثة والتمدن وقيم التعصب وما قبل التمدن. إنه صراع بين ثقافتين، وبين منظورين فلسفيين اجتماعيين، وبالتالي هو صراع ثقافي وقيمي بين أسلوبين في الحياة)). ولأنه صراع من هذا النوع، فإن مسيحيي العراق اليوم، شاءوا أم أبوا، باتوا يتموضعون في قلب هذا الصراع المحتدم، إلى جانب اقرانهم من عقلانيي العراق وشرائحه المتنورة. ولذلك قضوا السنوات الثمانية الماضية يدفعون على نحو ممنهج ضريبةَ العنف الدموي الناتج عن تلاقح اللاعقلانيتين: الرأسمالية الكولونيالية، بالكهنوتية المتأسلمة. فالمسيحيون بهذا المعنى أصبحوا قوة ثقافية لها تأثيرها في موازين هذا الصراع، لأنهم ببساطة يكتنزون طاقة اللاعنف العاقلة غير المحدودة في سرمديتها. فلا يمكن أن نتصور تطوراً إيجابياً لديناميات هذا الصراع ونتائجه دونهم. وإذا كانت أعز المكتسبات البشرية في ميدان الحرية والعدل، قد عُزيت إلى الدافع المسالم المتحضر من الطبيعة البشرية، فإن ترويع المسيحيين من قوى التطرف الديني المسلح، وتهجيرهم وتغييبهم عن وظيفتهم الإصلاحية الضامنة – من بين عوامل أخرى- لتماسك النسيج المجتمعي، سيلحق أضراراً إضافية بالطبيعة البشرية العراقية المتضررة أصلاً، وسيدفع إلى استقطابات سياسية أكثر عنفاً ومأساوية على المديين القصير والبعيد.

إن تاريخنا العراقي المعاصر في السياسة والفن والأدب والصحافة والتعليم والطب والعلوم عامة، وذكرياتنا الحية عن الحب وأعز الصداقات في ليالي الكرادة والبتاويين والعرصات وشارع أبي نؤاس، تبدو جميعها باهتةً بل كاذبةً دونما الحرف المسيحي الدافيء. العراق ليس عراقاً إذا استبعدنا من ذاكرته الجمعية رموزاً تنويرية مسيحية كبرى أمثال المؤرخين مجيد خدوري و وجرجيس فتح الله والأخوة كوركيس وسركيس وميخائيل عواد، والصحفيين الرواد روفائيل بطي وتوفيق السمعاني وبولينا حسن، والآثاريينِ فؤاد سفر وبهنام أبو الصوف، والعلامة اللغوي الأب أنستاس الكرملي، والدكتور متي عقراوي أول رئيس لجامعة بغداد، والأطباء جلبرت توما وفكتور شماس ووليد غزالة وشوقي غزالة والدكتور حنا خياط أول وزير للصحة في الدولة العراقية الحديثة 1922م، والموسيقيين جميل بشير ومنير بشير وبياتريس أوهانسيان ورائد جورج، والمطربات زكية جورج وعفيفة اسكندر وسيتا هاكوبيان، وقديسة المسرح آزادوهي صاموئيل، والمخرجينِ عوني كرومي وعمانوئيل رسام، والمذيعين ناظم بطرس وجلاديس يوسف وشميم رسام، والشعراء يوسف الصائغ وسركون بولص وجان دمو ودنيا ميخائيل، والكتّاب فؤاد بطي وأدمون صبري ويعقوب أفرام منصور، والمترجم يوسف عبد المسيح ثروت، والمفكر الأب يوسف حبي، والمصورينِ ارشاك وكوفاديس، والرياضيين عمو بابا وعمو يوسف وناصر جكو، والسياسيين اليساريين فهد وجميل توما ونوري روفائيل وجورج تلو وكامل قزانجي وآرا خاجادور وفرانسو حريري وتوما توماس والفريد سمعان، والقائمة تطول وتطول، فمعذرة لهذا الإيجاز *.

إننا مدينون لكم يا مسيحيي بلادنا بأسمى فضائلنا بوصفنا عراقيين وبغداديين وبصريين وموصليين وأربيليين. لقد غرستم في أجيالنا فكرة التنوع والشوق للآخر واحترام الحياة حد افتداء الفرد لآثام الآخرين بحياته. فلا ترحلوا عن وطنكم وتتركوننا عالقين في غربتنا التي لا تمل من التناسل. سيكف العراق أن يكون عراقاً بدونكم. أنتم الأكثرية الحقيقية بحساب التمدن والجوهر الفاضل، فلا تتخلوا عن امتيازكم هذا. لا تغادرونا رجاءً، انتظروا هنا، وتناسلوا بقوة هنا. فلا وطن لكم إلا هنا !

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *