بطرس يَشهَد بلاهوتِ يسوع

 

ولَمَّا وَصَلَ يسوع الى نواحي قَـيصرية فِـيلِـبُّس سأَلَ تَـلامـيـذَه: ” مَنِ ابنُ الإنسانِ في قَولِ الناس؟ ” فـقالوا:” بعضُهم يقول: هو يوحنا المَعمَذان، وبعضُهم الآخَر يَقول: هو ايليا، وغيرُهم يقول: هو إرميا أو أَحَدُ الأنبياء. فقال لهم: ومَن أنا في قَولِكم أنتُم؟ فأجابَ سِمعان بُطرس: أنتَ المسيحُ ابنُ الله الحَيّ (متّى16: 13- 16) مرقس8: 27- 30 ولوقا9: 18- 21)

قيصرية فِيلِبُّس مدينة يهودية تقع في سفح جبل حَرمون بشمال الجليل، تبعُدُ مسافة ساعةٍ عن نَبْعِ الأُردُن، كانت تُسمَّى في السابق “لايش ودان” (قُضاة18: 27- 29) وتُدعى اليوم “بانياس” مُجَدَّدٌ لإسمِها القديم، إذْ فيها كان هيكل”بان” أحدُ آلهة اليونانييـن.جَـدَّدَ بِـناءَها رئيسُ الـرُّبعِ فِـيلِـبُّس بن هـيرودس الكبير. قام بِـتَوسيعِها وتزيينِها، وأطلقَ عليها اسم “قَـيصرية” إكراماً لِطيباريوس قيصر روما. ثُمَّ أُضيفَ اسمُه عليها فأصبحتْ تُرَف بـ “قيصرية فِيلِبُّس” تمييزاً لها عن قيصريةٍ اخرى مبنية على ساحل بحر الروم بين يافا وعَـكَّا.

في وقـتِ وصول يسوع الى قُـرى نواحي قيصرية فِـيلِـبُّس للتبشير والتعليم، وبَـينما هو مُسافِـرٌ بين قَريتين مِن تلك القُرى سأل رُسُلَه الإثني عشر السؤالَ المُنوَّهَ عنه أعلاه:

مَنِ ابنُ الإنسانِ في قَولِ الناس؟ إبن الإنسان لَقَبٌ أضافَه يسوع الى شخصِه إشارة الى ما ورد في (دانيال7: 13 – 14) إذْ أُشار إليه دانيال في رُؤَى الليل…كان سؤال يسوع هذا ليس رَغْـبةً مِنه في استطلاعٍ لرأي الناس فيه، وإنَّما أراد بذلك الإرتقاء بأفكار تلاميذِه الى مستوى أرفع مِمّا هم عليه مِن حيث معرفة حقيقـته الشخصية ولقبه الأسمى”ابن الله” فأجابوه قائليـن:

 

بعضُهم يقول: هو يوحنا المَعمَذان، وبعضُهم الآخَر يَقول: هو ايليا، وغيرُهم يقول: هو إرميا أو أَحَدُ الأنبياء. فقال لهم:

وفي مُـقـدَّمَة الآراء التي قدَّموها لِمُعلِّمهم كان رأيُ هيرودُس (متى14: 2) بأنَّه يوحنا المعمذان، ورُبَّما ذكروا رأيَه لعُلُوِّ منصبِه ولأنَّ رأيَه كان قـد انتـشرَ بين الناس عامةً. أو ايليا: بسبب توقُّع الكثير مِن اليهود مجيءَ ايليا قبل مجيء المَسِيّا بحسبِ نبوَّة ملاخي (متى4: 5- 6). أو إرَميا: وهو النبيُّ الذي عاش في اليهودية بنحو ستة قـرون قبل الميلاد. أو واحدٌ مِن الأنبياء قام مِن بين الأموات، ولكن للأسف لم نجد أحداً قال إنَّه المَسِيّا،، وهذا يَدُلُّ على مدى قوَّة التشكيك الذي كان الفِـريسيون قد افـتعلوه ضِدَّ المسيح أدّى الى هذه الـنتيجة، بحيث أنَّ الذين كانـوا يحسبونه هو المَسِيّا المُنـتظَـر وحاولوا المناداة به ملكاً أصابَهم التَرَدُّدُ فلم يُصَرِّح أحدٌ منهم بأنَّ المَسِيّا، لكِنَّ موقِفَهم مِنه كان بأنَّه ليس شخصاً أو مُعَلَـماً عادياً، وأنَّ رسالتَه كانت سماوية.  فسألهم يسوعُ عن رأيهم هُم:

 

يسوع يجعل بطرس رئيساً لكنيسته

 

ومَن أنا في قَولِكم أنتُم؟ وكانت غاية يسوع مِن هذا السؤال الوقـوف على مَـدى قُـوَّة ايمانهم به بإقـرارِهم شفهـياً ولِـيقـوم بتثبيتِه فأجابَ سِمعان بُطرس: أنتَ هو المسيحُ ابن الله الحَيِّ. بسؤاله هذا يؤكِّدُ يسوع ناسوتَه، والله الآب يُعلِـن لبُطرس أنَّ يسوع هو ابن الله الحي وهذا هو ايمان الكنيسة، أنَّ الكلمة ابن الله تَجسَّدَ وصار إنساناً وإنَّ كافةَ الأعمال التي قام بها يسوع منذ أن بدأَ بنشر رسالته السماوية على الأرض تَـدُلُّ على أنَّه الـمَمسوح والمُرسَلُ لإنجاز المَهام الكبرى لِشَعبِه لكونِه نبِـياً وكاهِـناً ومَـلِكاً كما ذَكـرَتْ النبُـوَّات < اجـتَـمَـعَ مُـلوكُ الأرض ورؤساؤها، وتحالفـوا لِيُـقاوِموا الـرَّبِّ ومَسيحَه > (مز2: 2) < لهذا فاعْلَم وافْهَم إنَّ الحقبة المُمتَدة منذ صدورالأمر بإعادة  بناءِ اورَشليم الى مجيءِ المسيح …> (دا9: 25- 26).

 

وقد تبايَن نَصُّ الأجوبة لدى البشيرين الثلاثة، ويعود ذلك الى أنَّ كُلاًّ منهم اختار عبارة تتفِـق مع قابلية الفهم للذين يكتُبُ لهم انجيلَه. فالبشير متى كان انجيلُه مُوَجَّها لليهود فـذَكرَ الجوابَ وَفـقَ الفِكر اليهودي ” أنـتَ هـو المسيح ابن الله الحَي ” وهذا في الواقع تعبيرٌ يهودي صِرف، ذَكره متى نصّاً كما نطق به بُطرس، أما البشيران مرقس ولوقا فذكرا جوابَ بطرس باختصار:مرقس ” أنتَ المسيح ” ولوقا ” مسيح الله “.

 

كانت بذرة الإيمان في قلوت تلاميذ يسوع صغيرة ، لكِنـَّها لم تتـوَقَّف عن النُمُوِّ تدريجياً، وبعد حديث المسيح يسوع عَـن خُبز الحياة الذي استـثـقـله الكـثيرُ مِن تلاميذه فارتدّوا وانقطعوا عن السَّير معه.<  فـقال يسوع للرُّسُل الإثني عشر: أَفلا تُريدونَ أن تَـذهـبوا أنـتُم أيضاً؟ أجابَه سِمعانُ بطرسُ: يا رَب الى مَـن نذهَـب وكـلامُ الحياة الأبـدية عِندك؟ “ونحن آمَـنّا وعَرَفنا أنَّكَ قُدوس الله” (يوحنا6: 67 – 69) أليس عتراف بُطرس هذا اعترافاً أقرب الى اعترافه : أنتَ المسيح ابن الله الحَي : وازداد نمُوُّ بذرة ايمان الرُّسُل لدى رؤيتهم يسوع يمشي على مياه البحر بين الأمواج المتلاطمة، واستمَـرَّتْ هذه البذرة بالنمُوِّ حتى اكتملَت بإقرار بُطرس عن طريق الوحي الإلهي بأنَّ المسيح هو ابن الله الحَي، وخضعَ له بقية التلاميذ. وقد تَـمَّ هذا الإيحاءُ الإلهي لِـبطرس عـقبَ صلاة يسوع قُـبيـلَ توجيه سؤاله الى تلاميذِه (لوقا9: 18). وقد اتَّضَح بعد هذا الإعتراف بأنَّ خمير الفِريسيين لم يَـنَـلْ مِن ايمان التلاميذ، ولكِـنَّ لحظات شَكٍّ داهمَتهم  ولم يستَتِب ايمانُهم بإقرار بُطرس إلاَّ بعد قيامة المسيح ورؤيتِهم له.

 

ابن الله الحَيِّ. منذ العهد القديم وُصِفَ الله بالحَي، تمييزاً له عن آلهة الوثنيين < بهذا تعرفونَ عن يقينٍ أنَّ الله الحَيَّ موجودٌ بَـينكم وأنَّه يطرُدُ مِن أمامكم الأُمم الوثنية …> (يشوع3: 10) < لماذا تَـفعَلـونَ هـذا أيُّها الناس؟ ما نحنُ إلاَّ بَشَرٌ ضُعَـفاءُ  مِثلكم، نـُبَـشِّرَكُـم بأن تَرجِعـوا عَـن هـذه الأشياء الـباطلـة الى الله الحَيِّ صانعِ الـسَّماء والأرض والـبحر، وكُـلِّ ما فـيها > (أعمال14: 15) إنَّه لَقَبٌ عظيمٌ لائقٌ بيسوع ، وجواب بطرس لم يكن ذاتياً بل مُلهَماً مِن الله الحي كما قال له يسوع! فنال بُطرس التطويبَ مِن يسوع وجعَلَه رئيساً لِكنيستِه حيث قال له: < طوبى لكَ يا سِمعان بن يونا، فليس اللحمُ والدَّمُ كشَفا لكَ هذا، بل أبي الذي في السَّموات. وأنا أقولُ لكَ: ” أنتَ صخرٌ وعلى الصَّخرِ هـذا سأَبني كـنيستي، فـلَن يقـوى عليها سُلطان المَوت. وسأُعْـطيكَ مَفاتيح ملكوتِ السَّموات. فما رَبطتَه في الأرضِ رُبِطَ في السَّموات. وما حَلَلتَه في الأرضِ حُـلَّ في السَّموات. ثُمَّ أوصى تلاميـذَه بأَلاَّ يُخبِروا أحَداً بأنَّه المسيح > (متّى16: 17- 20).

 

< طوبى لكَ يا سِمعان بن يونا، فـليس اللحمُ والـدَّمُ كشَفا لكَ هـذا، بل أبي الذي في السَّموات.>  أي يا سمعان، إنَّ اللهَ قد اصطفاك ومَنحَك نعمةً الإيمان لِـتَكونَ أول المُعترفيـن بيسوع أنَّه ” المسيح ابن الله الحَي ” ولدى تسكـين يسوع اضطراب البحر هـدأَت الِّـريحُ بعد صعود يسوع وبطرس الى السفـينة، فجاءَ مَن في السفـينة فـسجدوا له وقالـوا “انتَ ابنُ الله حَـقاً! ” (متى14: 33) وفي لقاء نثنائيل بيسوع لأول مرة قال: “رابي، أنتَ ابنُ الله، أنت ملك اسرائيل” (يوحنا1: 49) ولكنَّ الأمر في الحالتَين، جاءَ عن رَدِّ فِعلٍ تعَجُّبيٍّ وتأثيرٍ آنيٍّ لا يُقارَنُ بإقرارِ بطرس النابعِ عن ايمانٍ راسخٍٍ، غير مبنيٍّ على الأدِلَّة العقلية فحسب بل على ايحاءٍ من الروح القدس!

 

” فـليس اللحمُ والدَّمُ كشَفا لكَ هذا،” أي ليس بشريا عَلِمتَ ذلك فهو فوق طاقة البشر، قال هذا تمييزاً لفعل اللاهوت كما ورد في (يوحنا1: 13 و 1قورنتوس15: 50 وأفسس6: 12). بمعنى أنَّك بقُواك البشرية ما كان بإمكانك إدراك ذلك.

” بل أبي الذي في السَّموات” أي لو لم يُلهِمْكَ روحُ أبي القدوس بنوره لَما جاءَتك الجُّرأة للإقرار بحقيقتي، لأنَّ القلب البشري يحجبُه العمى عن معرفة الحقيقة وبخاصةٍ أنَّك لا زِلْتَ غير خالٍ مِن الأفكار اليهودية غير النقية، لكنَّك حظيتَ بحُبِّ أبي فكشف لك الحقيقة ونِلتَ عليها الطوبى.

 

” وأنا أقولُ لكَ: ” أنتَ صخرٌ وعلى الصَّخرِ هـذا سأَبني كـنيستي، فـلَن يقوى عليها سُلطان المَوت. ” أي يا بُطرس أنا لَقَّبتُك بهذا الأسم منذ أن تَتَلمَذتَ لي (يوحنا1: 42)، ويعني “صخر” بالعربية وبالكلدانية “كيبا”، وها هو يُخاطبُه هنا بهذا الإسم مُثنياً على ايمانِه القَـوي والراسخ بأنَّ يسوع هو ” المسيح ابن الله الحَي ” ويُعلِـمُه بما يَنتظِـرُه مِن مَهام كُـبرى بعد اقتبالِه للروح القدس الذي يمنحه الشجاعة والقوة والثبات. إنَّ كلام يسوع ناصِعُ الوضوح لا يقبل  التأويل، وكان بصيغة المُـفـرَد وليس الجَّـمع، فـيسوع بنى كنيستَه على ايـمان بطرس وطلـبَ مِـنه أن يُـثَـبـِّـتَ إخـوَتَه الـرُّسُل بالإيمان < وقال الـرَّبُّ: سِمعان سِمعان، هُـوَذا الـشيطانُ قـد طلـبَكم لِـيُغَـربِـلكم كما تُغَـرْبَلُ الحنطة. ولكـنّي دَعَـوتُ لكَ أَلاَّ تَـفـقِـدَ ايمانَـكَ. وأنتَ ثَـبِّت إخوانَـكَ متى رَجَعْتَ > (لوقا22: 31- 32) ألـيس تخْـويلُ يسوع لـبُطرس واضِحاً بأن يرعى إخْـوتَه  ليبـقـوا ثابتيـنَ في الإيمان؟ ألم يجعَل يسوع بُطرس راعياً للخِراف؟ وسنشرحُ ذلك في المقال اللاحق قريباً.

 

الشماس د. كوركيس مردو

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *