بشارة مخضبة بدماء الشهداء  يجسدها اليوم مسيحيو الشرق لإيقاظ قادة الغرب من سباتهم العميق

 

هبوب رياح عصر النهضة وتنامي المشاعر الوطنية والمطالبة بفصل الدين عن الدولة منذ القرن السادس عشر في أوروبا، تمخض عنها تغييرات إجتماعية وثقافية وفكرية جوهرية، وأفرزت إنماطاً حياتية مغايرة، نبذت التقاليد القديمة وصححت بعض الممارسات الخاطئة، كما أشعلت شرارة الثورة الصناعية التي كانت نقطة الإنطلاق نحو أفاق شاسعة لتحقيق طموحات لامتناهية لمستقبل الإنسان في إختراق بوابات العلم وإكتشاف كل ما هو مجهول، فرسمت ملامح جديدة لطبيعة الحياة البشرية، وبذات الوقت وضعت اللبنات الأولى للإمبراطورية العلمانية .

 تسارعت عجلة الإكتشافات والإبتكارات والإختراعات في كافة مفاصل المجتمع وتفاعلت مع الأحداث الجسيمة التي سبقتها في بوتقة واحدة، فكانت إحدى نتائجها العرضية ظهور نظريات مادية وإلحادية وثقافات فكرية وأيديلوجية متباينة، مهدت الطريق لمعظم دول أوروبا لإتخاذ منحاً علمانياً في مسارها، فإبتعدت كافة مؤسساتها عن إملاءات الكنيسة، وتضاءل تأثيرالمفاهيم المسيحية في كافة مناحي حياة المواطنين اليومية.

وخلال السنوات والعقود الأخيرة، ومن منطلق نظرتها الإنسانية وتعاملها النزيه ومشاعرها الإنسانية النبيلة مع كافة خلق الله بغض النظرعن الجنس واللون والثقافة والمعتقد والفكر والقومية والإنتماء، فقد سمحت الحكومات الغربية للمضطهدين والهاربين من جحيم أنظمتهم الدكتاتورية من الدول العربية والإسلامية بالهجرة إليها والتمتع بالعيش الكريم في بلدانها، فمنحتهم الحريات الشخصية والثقافية والدينية للتعبير عن أرائهم ومعتقداتهم وشعائرهم، وقدمت لهم العناية الصحية والرعاية الإجتماعية والمساعدات المادية ووفرت لهم ولأبنائهم فرص الدراسة والعمل والمساواة في الحقوق مع أصحاب الأرض، لا بل فضلوهم على مواطنيهم في كثير من الحالات كونهم مهاجرون مضطهدون .

ومع إحترامنا ومحبتنا لكافة المثفقين والمتنورين والمعتدلين والعلمانيين والملحدين والمواطنين البسطاء من إخوتنا المسلمين، نقول بأن حاملي الأفكار المتطرفة وعميان العقيدة، إستغلوا طبيعة تلك المجتمعات المتفتحة ومناخ الديمقراطية والحريات التي تنعموا بالخير والإستقرار والأمان تحت ظلالها، شرعوا بترويج أفكارهم المتطرفة بصورة علنية، ومحاولة فرض معتقداتهم على الذين إحتضنوهم حينما هربوا إليهم من غرف إنعاش بلدانهم وهم جياع حفاة عراة، وقدَّموا لهم على طبق من ذهب دون مقابل، كل ما حُرموا منه منذ ولادتهم، ومنحوهم كل ما إفتقدوه في أوطانهم ليشعروهم بأدميتهم ويوقظوهم من الكابوس الذي كان جاثماً على صدورهم كثلوج سيبيريا.

ولكن، بعدما إزداد عددهم وصَلُبُ عودهم تنكروا للمعروف وطعنوا اليد السخية التي إمتدت لمساعدتهم، فشرعوا بتأجيج مشاعر العداء لمضيفيهم وإستباحة حرمة البيت الذي آواهم، والعبث بأمنهم، وتدنيس مقدساتهم ورموزهم، وحرق أعلامهم، وبث الرعب بينهم، وإظهارالتحدي السافر لأنظمتهم وتقاليدهم الإجتماعية، وغلق شوارعهم وتعطيل أعمالهم لإقامة صلاتهم وهدر دماء من ينتقدهم. وتوَّجوا أفعالهم الشنيعة بالهجوم على مؤسسات إجتماعية وقتل مواطنين أبرياء، وإرتكاب جرائم إغتصاب للتعبيرعن عقدهم الإجتماعية المتجذرة في أعماقهم، وإطلاق تهديدات علنية سافرة لأسلمة أوروبا وإقامة دولة خرافتهم عليها وتطبيق شريعتهم فيها. وتجبروا في تحديهم حينما أقسموا على سحق روما  تحت أقدامهم وقطع رأس قداسة البابا في ساحة الفاتيكان وقتل جميع الكرادلة تنفيذاً لفتاوي شيوخهم الذين يقرعون طبول حرب غير معلنة، ويرسلون فرسانهم الملثمين بطرق ملتوية وبموجات متعاقبة تحت مسميات مضلِلة، بينما عقولهم مبرمجة وخناجرهم خلف ظهورهم جاهزة، يهددون ويتوعدون الشعوب الغربية لإركاعها أمام سنابك خيولهم في أيام يظنونها قادمة، حينما يصبحون الأكثرية ويتولون السلطة ويرتكبون جرائم بشعة، مثلما فعلت داعش ومشتقاتها بالمسيحيين والإيزيديين والصابئة وغيرهم ، وبحق كل من لا يطبق تعاليمهم ولا يعتنق عقيدتهم .

ما أشبه بعض غزوات الأمس بموجات هجرة اليوم، مع إختلاف الراية وتغيير إساليب القوم…!

يبدو أن ساسة الحكومات الغربية وأمريكا ما زالوا يتباهون بغبائهم الحضاري ونظرتهم الإنسانية الساذجة وديمقراطيتهم المنفلتة إلى كافة المهاجرين دون تمييز، وما إنفكت شركاتهم الإستغلالية منغمسة في مستنقع مصالحها الأسنة، وما برح رؤوساؤهم يهملون معالجة قصر نظرهم إلى حد إذلال أنفسهم أمام ملوك رمال الصحراء المتحركة، ودفاعهم عن أمن الأنظمة المستبدة، وترنحهم برائحة النفط المغرية، ثم تستُرهم على عورة عمر بن العاص الفاضحة، فأهملوا إعادة قراءة مشاهد مأسي الفتوحات الماضية ومعارك الشرق القديمة ومذابح العصرالأخيرة، لا بل صموا أذانهم عن سماع نواقيس الخطر وهي تُقرع بعنف لإيقاظهم من سباتهم العميق للنهوض قبل فوات الآوان والشروع بمكافحة الوباء الفايروسي الخطير الذي بدأ يتفشى بشكل مخيف في مجتمعاتهم كطاعون القرون الوسطى، والبدء بتلقيح شعوبهم ضده وإتخاذ إجراءات وقائية سريعة لوقف إنتشاره، من أجل الدفاع عن وجودهم وحضارتهم التي شيدوها بجهودهم وتضحياتهم ودمائهم، وحماية هوية وتقاليد وتراث أجيالهم القادمة من الإنقراض كما حدث في الشرق.  

فهل يمكننا القول بأن فتاوي السلفيين والوهابيين المتحدية المُذِلة، وجرائم الإرهابيين المفزعة، وصور قطع الرؤوس وتعليقها على أعمدة الساحات، وإغتصاب النساء وبيع السبايا في سوق النخاسة، وجلد الممتنعين عن الصلاة، وإرهاب المواطنين، كانت ضارة داعشية نافعة ؟ وأن الدماء البريئة  التي سالت على أرصفة مدن سوريا، وفي بغداد والموصل وبلدات سهل نينوى، بمثابة فاتورة مدفوعة الثمن بدماء الشهداء، وبشرى ثانية من رُسل الشرق إلى مسيحيي أوروبا وأمريكا لإنارة عقولهم وإعادة الإيمان إلى قلوبهم التي سادها الجفاف الروحي ؟

وهل ما حدث أخيراً بالأمس في بروكسل، هو بمثابة صفعة قوية لقادة أوروبا وأمريكا، لتعيد إليهم وعيهم، فيسترقون السمع لأنين ملك حليم راحل وهو يناجي نفسه ويستغيث في ضريحه، فينظرون بعيون ثاقبة إلى مشهد تسونامي مرعب متجه نحوهم سيبتلع الأخضر واليابس، فيشرعوا بإصلاح بوصلتهم العاطلة وتصحيح مسارها بتعديل بعض قوانينهم الجامدة وتشريع غيرها، لوقف الغزو المنظم الذي تخطط  له وتموله وتنفذه ممالك ما زالت متلحفة بعباءة سوداء داكنة، وأخرى بقايا لإمبراطوريات متغطرسة حالمة تحبو رويداً رويداً لإبتلاع من حولها ؟

إنهضوا أيها الأوربيون والأمريكيون قبل أن تقض مضاجعكم صليل سيوفهم، فتستفيقظوا من كابوسكم مذعورين يوماً على صدى “صيحاتهم” وضجيج دقات أوتاد خيامهم، وخناجرهم تحز رقابكم، حينها لا ينفع الندم ولا قضم أصابع اليد والقدم …

يبدو أن إرادة الله قضت أن يكون مسيحيي الشرق في واجهة التصدي للغزوات المنظمة الجديدة ، لما يمتلكون من إيمان راسخ وروابط كنسية متينة وخبرة متراكمة ومناعة مكتسبة من معاناة طويلة، نتيجة الإضطهاد الذي مُورس ضدهم منذ عقود وقرون، فأمسوا يحملون ثقافة غزيرة لفضح ضلال الأجندات التكفيرية، عن طريق قنواتهم الفضائية المضحية، ومواقعهم الألكترونية المتطورة، ومؤسساتهم الناشئة وجمعياتهم المتزايدة، ونشاطاتهم الثقافية والإجتماعية الناهضة ومنشوراتهم وصحفهم وكتاباتهم وإتصالاتهم المؤثرة، تلك المهام التي أمست قدر يلاحقهم كظلهم أينما ذهبوا وحيثما حلوا، وهو بذات الوقت ما رُسم منذ عقود لمسارهم، وكيف ستكون خارطة الشرق بعد رحيلهم… !!

قال الشاعر معن بن أوس المزني:

فيا عجباً لمن ربيت طفلاً … أُلقمُه بأطراف البنان  –   أعلمه الرماية كل يوم … فلما إشتد ساعده رماني

أعلمه الفتوة كل وقت … فلما طرً شاربه جفاني    –    وكم علمته نظم القوافي … فلما قال قافية هجاني

بقلم : صباح دمّان

الأربعاء    23 / 3 / 2016    

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *