النرويج.. إبهار وتميز! بقلم حسين شبكشي

كانت سويسرا دوما مضربا للأمثال بأنها واحة الأمن والأمان، وحلم الناس، لأنها دائما ما توصف بأنها جنة الله على الأرض لما فيها من جمال للطبيعة، وكذلك المنظومة الاقتصادية والاجتماعية الموزونة بدقة موفرة مناخا من العدل والأمان والرفاهية قلّ وجوده في غيرها من الدول العالمية، إلا أن نجومية سويسرا بدأت في الأفول لصالح دولة أوروبية أخرى، وهي النرويج. النرويج دولة اسكندنافية، منها انطلق «الفايكنغ»، وهم مجاميع عسكرية مقاتلة عرفت برباطة الجأش والقدرة القتالية العالية وقيادتها لقوى بحرية سابقة لوقتها تمكنت من احتلال دول مختلفة في أوروبا وخارجها.

تقليديا وتاريخيا كانت النرويج تعتمد في اقتصادها على مداخيلها من صيد السمك بمختلف أنواعه ومن المنتجات الزراعية التي تفوقت بإنتاجها ورعايتها، وبات ما تنتجه في هذه المجالات ناجحا ومميزا وعرف بالجودة والقيمة الاستثنائية. ولكن منذ سنوات ليست بالكثيرة جرى اكتشاف النفط بكميات تجارية كبيرة في منطقة بحر الشمال، فأصبحت دولة نفطية بين ليلة وضحاها وتغير حالها الاقتصادي وتغير طبعا ميزان مداخيلها.

النرويج دولة لا يتجاوز عدد سكانها ستة ملايين نسمة، وهي دولة تمنح مواطنيها كافة الامتيازات بدرجة عالية من الجودة والإتقان في مجالات الصحة والتعليم والرعاية، مع تأمين الخدمات من مطارات وسكك حديدية ومرافئ وملاعب ومتنزهات، وغير ذلك من وسائل وأدوات. اهتمت النرويج بالتفكير بصورة «غير تقليدية» في العوائد الهائلة التي بات اقتصادها يحصل عليها جراء تصدير النفط بكميات تجارية، ووسط ارتفاع في الأسعار لسلعة النفط بسبب الطلب المتعاظم عليها، ولدت فكرة استحداث صندوق استثماري سيادي توضع فيه كافة إيرادات الدولة، ومن عوائده يوزع على ميزانيات الدولة، وللصندوق كيان أشبه بالجمعية العمومية المتعلقة بملاك الشركات المساهمة، وفي حالة الصندوق هذا فإن الكيان هو أعضاء البرلمان «المنتخب» للنرويج، ويدير الصندوق بحسب الوصف المهني وزير المالية. ويقدم هذا الصندوق منذ أكثر من عشرين سنة وإلى الآن عوائد بمتوسط 5 في المائة على ما يجري استثماره والذي ينحصر في 60 في المائة في أسهم وسندات، و40 في المائة في سندات وقروض حكومية وشركات عملاقة. ولقد أثبتت هذه السياسة نجاحها وتألقها وجدارتها في تأمين عوائد محترمة مستقرة للنرويج تضمن بها تحقيق وتنفيذ الخطط التنموية التي وضعتها والمحافظة على ما جرى إنجازه من قبل، علما أن كل ذلك الأمر كان يجري من دون «بهرجة» إعلامية أو احتفاليات أو ضجيج أو ثرثرة أو رغبة في تحقيق صفقات لها صدى وبريق، إنما كان الغرض دوما هو توفير الأمان والأمن المالي لتحقيق الاستقرار الاجتماعي المنشود عبر تنفيذ الخطط التنموية المتعددة. طبعا كانت ترجمة كل ذلك هي المزيد من الرفاهية للمواطن النرويجي حتى باتت بلاده دائما تتصدر دول العالم في أفضل الأماكن للعيش من ناحية تقييم ما بات يعرف بمعطيات «جودة الحياة»، وتتصدر النرويج دول العالم في جودة التعليم والخدمات الصحية ومعايير العدالة والحوكمة وقلة الفساد وانخفاض معدلات الجريمة، وغيرها من مؤشرات التطور النوعي في جودة الحياة بحسب المعايير المعروفة والمعترف بها.

وهناك قصة بليغة أعرفها بصورة شخصية قد تجسد هذه المعاني كلها بشكل دقيق وأفضل من كل الإحصاءات والبيانات.. لدي صديق فلسطيني يعيش في إحدى الدول الأوروبية، والده كان يعيش لاجئا في أحد المخيمات الفلسطينية البائسة في لبنان وتمكن من الحصول على حق اللجوء إلى النرويج، وبالفعل انتقل إليها وعدل أوراقه بحسب النظام المتبع فيها، وفي يوم من الأيام قرر الذهاب إلى السويد في رحلة سياحية، وهناك أصيب بنوبة قلبية حادة جدا، ولحظة الكشف عنه تحققوا من أوراق ثبوت هويته فعرفوا أنه من رعايا النرويج، ولدى السويد اتفاقية تقضي بإبلاغ النرويج فورا في حالة حدوث أي طارئ لأي من رعاياها على أرضها، وفي خلال ساعة من الزمن كانت مروحية من الإسعاف الطائر التابع للصليب الأحمر النرويجي تهبط لنقل الرجل لإجراء جراحة عاجلة له في النرويج والاعتناء به كاملا. أفاق الرجل الذي حظي برعاية طبية: «لم تكن لديّ القدرة حتى أن أحلم بذلك طوال عمري!»، وعيناه تدمع وهو يقول: «الآن فقط أحسست بآدميتي، والآن أحسست بوطن يحتضنني!».

النرويج تمكنت باقتدار أن توظف مالها لتطوير البلاد بشكل أخّاذ، وأن تنعكس عوائد الأموال الهائلة على حياة المواطنين مهما كانت أحوالهم وأوضاعهم. بسهولة وبلا ضجيج وبخطوات صريحة وواثقة تمكنت النرويج من أن تتبوأ مكانة مميزة وسط زخم وزحام دولي هائلين، إلا أنه لا يصح إلا الصحيح كما يقولون. النرويج اليوم هي النموذج الذي ينظر إليه الكثيرون بإعجاب، حيث الحوكمة الرشيدة والاستثمار المسؤول، لأن هذا الميزان حوّل النرويج إلى جنة جديدة على الأرض.

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *