المظلومـــــــة / بقلم : عادل فرج قس يونان

في ليلة من ليالي الشتاء الباردة مر عظيم من عظماء هذه المدينة بزقاق من ازقتها الشعبية والظلام الحالك فرأى تحت جدار خرب فتاة صغيرة في الرابعة عشر من عمرها جالسة القرفصاء وقد وضعت رأسها بين ركبتيها أتقاء للبرد الذي كان يعبث بها –!! وليس في يدها ما يمكنها لتحمي من فتك البرد القارص سوى قطع ممزقة يغطي قسم من جسمها العاري وكأنها أثار سياط المستبدين في اجسام المستعبدين —!!! وقف الرجل امام ذلك المشهد المحزن والمؤثر وقفة الكريم الذي تؤلمه مناظر البؤس وتزعج نفسه مواقف الشقاء ثم تقدم نحوها ووضع يده على رقبتها برفق فرفعت رأسها مذعورة وهمت بالفرار من بين يديه وهي تصيح –لااعود –لااعود ––واستمر بمسها وترويضها حتى هدأت وعاد اليها رشدها وعلمت انها ليست بين يديّ الرجل الذي تخافه –فنظرت اليه نظرة يكمن وراءها الاحزان والاشجان –!!! ما اسمك ايتها الفتاة ؟ لا اعلم ياسيدي حسنا بماذا ينادونك في البيت يدّعوني المكروهة واهل المحلة جميعها يدعونني (المظلــومـــة )اذن هل انت لقيطة كما يقولون ؟ كلا يا سيدي –لكن قصتي تختلف —–!!!!! حيث كان لي اب حنون وعطوف وحريص على بيته بكل ما يتصوره وما يتصف به كل اب صالح ولكــــن —!!!للاسف ولي ام تحمل كل الصفات التي يرفضها كل انسان يعرف الله ويخافه —كانت مغرمة بمتسول لا يحمل أصلا ولا عنوانا وكانت تلتقي به من وراء ظهر والدي المسكين الذي كان يقضي نهاره بحره وبرده يشقى لأسعادنا وانا الوحيدة له وكنت كل حياته وامنياته —-فأتفقت مع عشيقها وقتلوا والدي المسكين وادعت بمكر شديد انه مات موتا طبيعيا  وارتبطت بذلك الكافر الظالم وكان عمري يومها قرابة اربع سنوات –فأصبحت لا اعرف ابا ولا اما في الاحياء ولا في الاموات سوى رجل يتولى شأني ويضمني اليه في منزله وكنت احسبه ابي فيمتلىء قلبي سرورا به وفجأة انقلبت حياتي تلك الى جحيم لا يطاق ابتداءا من تسميتهم لي بالمكروهة في كل مناداتهم على الاطلاق واستمرارهم بتعذيبي للتخلص مني وتحميلي من اثقال الحياة واعباءها بما لاطاقة لي عليها وما لايحّمله الآباء ابناؤهم فعلمت اني وحيدة في هذا العالم وفهمت معنى اسمي (المظلومة )فألم في نفسي الحزن والالم ما يعلم به الا الله وحده وكنت كلما امشي في الطريق رأيت فتاة صغيرة سألتها هل لك أم ؟ فتجيبني نعم ثم تقص علىّ قصص نعمها ورفاهيتها وعطف امها عليها بما يزيدني هما ويملأ قلبي يأسا حتى يخيل لي انني أذنبت قبل وجودي في هذا العالم ذنبا عاقبني الله عليه بهذا الوجود —!!! بيد انني صبرت على هذا الرجل وعلى كل ماكان يكلفني به من التسول على قارعة الطريق ابقاء على نفسي وحرصا على حياتي ان تغتالها غوائل الدهر فكان ذلك الرجل كلما رأى حاجتي اليه والى مأواه اشتد في ظلمي ولؤم معاملتي حتى صار يضربني ضربا مبرحا كلما عدت اليه مساء بأقل من المبلغ الذي فرضه عليّ تقديمه كل يوم ولم ازل اصابره وأحتمل منه ما يعجز على احتماله امثالي ولو لبرهة من الزمن حتى جاءني هذه اليلة —–بداهية الدواهي !!! وبدعة البدع !!! لابل مصيبة المصائب!!!(فقد حاول ان يسلب مني جوهرة العفاف )!!!التي لم يبقى عندي ما يعزيني عما فقدته من نعم الحياة سواها !!! فلم اجد غير الفرار من بين يديه سبيلا متسللة تحت جنح الظلام من حيث لايراني رغم متابعته لي وما زلت امشي على غير هدى لا اعرف لي معيل ولا مأوى حتى اويت الى هذا المكان كما تراني فهل لك يا سيدي ان تحسن لي كما احسن الله اليك وان تبتاع لي رغيفا من الخبز اسد به رمقي فقد مرّ بيّ يومان لم اذق فيها طعام ولا شرابا !!! وحال سماع الرجل من هذه الفتاة قصتها المحزنة حتى استقبلها بدموع حارة تنحدر على خديه ثم اخذها بيده ومشى بها صامتا حتى وصل قصره وهناك عاملها معاملة الكريم لأهله بما كانت لاتحلم به ولاتتمنى لنفسها ذلك الكرم وما هي الا ايام قلائل حتى ظهرت في ذلك القصر الكبيرفتاة جديدة من اجمل الفتيات وجها واكرمهن اخلاقا واكملن ادبا لايعرف الناس عنها سوى انها ابنة قريب لصاحب القصر مات ابوها – يتيمة فكان الى هذا القصر مصيرها وكان لصاحب القصر (زوجــــة صغيرة وحيدة ) قررت ان لاتخّلف (ان لاتنجب اطفال ) الا بعد حين من الزمن لأنها كانت من الفتيات اللواتي ترّبين التربية العصرية فكانت كلما حصلت عليه من العلوم والمعارف والفنون الولوع في مطالعة الروايات الغرامية الفاسدة والبراعة في معرفة الازياء التي تعلق القلب وتجذب النفوس والكبرياء والعظمة واحتقار كل مخلوق سواها —الخ رأت ان هذه الفتاة الغريبة قد اصبحت تقاسمها قلب زوجها وقلوب زائريها من النساء بما وهبها الله من جمال الخلق وحلاوة الطبع وعذوبة النفس فأضمرت في قلبها من البغض ما يضمره (دائما أمثالها من اللواتي تربين تربيتها ) فكانت تتعمد في اساءتها والاكثار من تأنيبها وتبكيتها (والمظلومة ) لاتبالي بشىّ من هذا كله (وفاء”) لسيدها وولي نعمتها واحتراما لنعمتها هذه – وفي ليلة من الليالي دخل الرجل قصره وبينما هو صاعد في السلم (أذ) عثرعلى ورقة ملقاة فتناولها وقرأ فيها هذه الكلمات –!!( سيدتي اني انتظرك عند منتصف الليل في بستان القصر تحت شجرة البرتقال الكبيرة —-حبيبك )فما ان تم قراءتها حتى دارت به الارض ولمس قلبه بيمينه ليعلم هل طار من مكانه ام لا ثم اراد ان يخفف من حزنه وقلقه فقال :- لعل الموعد مع تلك الفتاة المكروهة فنظر في ساعته فأذا الوقت قريب من الموعد فأخذ يتنقل في الحديقة من شجرة الى اخرى حتى وصل الى شجرة اللقاء فأختبىء ورائها ينتظر ما اخبأ له الدهر
الحقبقة لم تكن الرسالة الى المكروهة بل الى السيدة الشريفة ((العصرية )) وبينما كانت السيدة واقفة في غرفتها امام مرآتها تختار لنفسها اجمل الازياء واليقها بموقف اللقاء فكانت المكروه نائمة في غرفتها نوما هادئا مطمئنة خالية البال حتى استيقظت على صوت اقدام سيدها على سلم القصر فأشرفت عليه من حيث لايشعر بمكانها فعرفت كل شىّ وان سيدها سيقف على سر زوجته التي كانت على علم بكل ذلك وكتمته زمنا طويلا واعتقدت ان سيدها لابد ان يقتل نفسه حزنا ويأسا فعناها امره ثم اخذت تفكر بحيلة لأنقاذ الموقف ومن ثم نزلت بسرعة من السلم لتلق بسيدتها التي خرجت من باب غرفتها الى ذلك الموعد فأدركتها وامسكت بطرف ثوبها فأرتبكت والتفتت اليها وقالت لها ماذا تريدين –؟اتتجسسين علىّ يا —يا —يافاقدة كل شىّ —-!!! لا ياسيدتي —-!!! واخبرتها بالقصة كاملة فعلمت ان زوجها وقف على سرها  فانهارت فقالت لها :- لاتزعجي نفسك يا سيدتي فأن سيدي لايعلم ايتنا صاحبة الرسالة فعودي انت الى غرفتك وسأذهب انا الى الموعد مكانك فلا يشك في امرك —-!!!!
ثم استمرت حتى وصلت الى تلك الشجرة وهناك برز سيدها واقترب منها وعرفها (فحمد الله على سلامة شرف زوجته )ثم قال لها :- ايتها المكروهة فعلا اني احسنت اليك وانقذتك من يد البؤس والشقاء فأسأة الىّ بما فعلت حتى كدت اموت هذه الليلة حزنا والصق ذنبك وأحّمل عارك لزوجتي النبيــلة الشريفة العفيفـــة فأخرجي من منزلي فاللئيم ليس أهلا  للأحسان ابدا فخرجت حزينة خائبة تجر اذيال الخيبة ورائها حتى وصلت الى شاطىء شط العرب وهناك اخرجت من محفظتها ورقة كتبت فيها آخر كلمة خطتها اناملها .***(أحمد الله واشكره انه قدرني على مكافأة ذلك الرجل الذي احسن الىّ كثيرا بستر عاره وازالــة همه وحزنه —-)*** ثم القت بنفسها في الشط وهكذا جاءت الى هذه الدنيا مظلومة وخرجت منها ايضا مظلومة وما هي الا دقائق حتى فارقت روحها جسدها فطفا منها ما طفا ورسب ما رسب وفي صباح اليوم التالي عثر رجال الشرطة بجثة الفتاة فعرفوها وعادوا بها الى منزل سيدها فبكاها بكاء” كثيرا وندم على ما فعله ثم آمر بدفنها ولم يبقى لديه من آثارها غير حقيبتها فحفظها في صندوق (تذكـــارا” لها ) —!!!مرت الايام تلواالايام وجاءت الحوادث اثر الحوادث وظهر للرجل من اخلاق زوجته وطباعها واستهتارها ما لم يكن يعرفه ويصدقه من قبل حتى ضاق بأمرها وجلس في غرفته يفكر فيما ساقه اليه الدهر ثم الم به الضجر –!! فقام الى صندوقه –!!! يفتش عن شىء يتلهى به فعثر بتلك الحقيبة ولم يكن قد فتحها من قبل حيث عثر بتلك الورقة واطلع على الكلمة الاخيرة التي خطتها انامل المظـلومـة وحال انتهائه من قراءتها سقط مغميا على الارض يعاني من الالم والحزن ما يعالج المحتضر من سكرات الموت وبعد ان فاق من غيه حتى صار يهذي هذيان المحموم ومضى على هذه الحالة بضعة اشهر حتى ادركته رحمة الله وانقضى أجـــله —-
فيا ايتها الام المجهولة التي قذفت بتلك الفتاة البائسة في بحــر هذا الوجود الزاخر –؟؟ اعلمت قبل ان تفعلي فعلتك الشنيعة هذه ان فتاتك ستلاقي   آلام وشقاء هذا العالم بما لا طاقة لها عليها —-
ويا ايها الازواج العظماء ان كنتم تريدون ان تختاروا شريكة حياتكم من الزوجات العصرية على امثال ما سمعتم من هذه القصة لمشاركتكم الحياة ولتكفل لكم سعادتكم ((فأنتزعوا من انفسكم )) غرائز الشهامة والعزة والاباء والأنـفة حتى لاتتعذبون وتتألمون وتقفون هادئين مطمئنين امام مواقفهن تلك —–
واخيرا نقول :-يا ايها الناس جميعا (لاتحلفوا بالأنساب والأحساب ) ولاتفرقوا بين تربية الاكواخ وتربية القصور ولا (تعتقدوا )ان الفضيلة وقف على الاغنياء والعظماء فقد سمعتم ما اضمر الدهر في طيات احداثه من (رذائل الشرفاء وفضائل البؤساء ) —!!!!

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *