المطران لويس ساكو/ رسالة راعوية بمناسبة الصوم الكبير

” ان هذا الجنس لا يخرج الا بالصوم والصلاة”

(متى 17/21)

المطران لويس ساكو

2011

عينكاوة كوم

الى الاخوات والاخوة المباركين في أبرشية كركوك الكلدانية

والسليمانية:

” عليكم النعمةُ والرحمةُ والسلامُ من لدن الله الاب والمسيح

يسوع ربنا”

( 1 تيموثاوس 1-1)

ايتها الاخوات، ايها الاخوة

في هذه الظروف الصعبة والمقلقة التي  نعيشها، اتوجه اليكم

في مطلع موسم الصوم الكبير، برسالة راعوية، أدعوكم فيها

الاستفادة من هذا الزمن المتميز حتى يخرج هذا ” الجنس”،

أي حتى نخرج من هذا الوضع  المتدهور والزمن الرديْ. اننا

واثقون  من أن  صومنا وصلاتنا سيغيران الامور من

الداخل وثقتنا هذه مبنية على وعد الرب نفسه.

علينا ان نعود الى هويتنا المسيحيّة ، أي  الى الصوم

والصلاة والتوبة والاهتداء وقراءة الكتاب المقدس واعمال

المحبة للبقاء والتواصل والانفتاح والشهادة.

طبيعة الصوم


لقد مارست كافة الديانات شكلاً من اشكال الصيام  الذي

يهدف الى السيطرة على الذات  من أهواء وافكار واعمال،

وترويضها من خلال الامتناع عن تناول الطعام والشراب

وعند الاقتضاء عن العلاقات الجنسية، خلال فترة محددة،

أوالانقطاع عن تناول بعض انواع الطعام والكحول في تكتم

تام، بعيداً عن الشكليات وخطر التظاهر     ( عاموس 5/11

، متى 6/16).

من المؤسف ان نفقد اهمية هذه الممارسة الروحية  بحجة

أننا لا نرى فائدة في ممارستها أو  نجد  انفسنا  غير قادرين

عليها بسبب  تغيير ظروفنا الاجتماعية والصحية، بينما

مارست الكنيسة الصوم  بدقة الى عهد غير بعيد  داعية

ممارسيها الى  انفتاح كامل على نعم الله حتى مجيئه.

ان الصوم الكبير باسابيعه الستة السابقة للاسبوع  المقدس

(الالام)، أي اسبوع الفصح والصلب والقيامة،  هو بمثابة

فترة  اعداد الذات، واستعداد  الفكر والقلب والنفس والجسد

لاستقبال الحدث الكبير، وملاقاة الرب في عيد الفصح

والقيامة بفرح ورجاء. وجاء في ترتيلة طقسية لليوم

الاول من الصيام: “هوذا الصوم البهي مقبلاً مثل الملك، وآتياً

الينا، فليزيِّن كلُّ امريء نفسَه مثل المدينة.. منقيا قلبه من

دنس الاثم وفكره ونظره..”    ( حوذرا مجلد 2 ص 65).

ان الصوم تعبير قوي عن فقر الانسان ومعطوبيته امام الله،

فانقطاعه عن الطعام والشراب  مصدر الحياة المادية لفترة

ما، فعل ايمان بالله  الخالق والمخلص، و تذكير قوي بان “

ليس بالخبز وحده يحيا، بل بكل كلمة تخرج من فم الله” (

تثنية 8/3، متى 4/4). بالصوم يتوجه الانسان  الى الله

بتواضع واستسلام بنوي، واضعًا نفسه بين يديه، ومقرّا

بسموه وقدرته، وطالباً غفرانه ومعرباً عن رجائه برحمته

ومحبته.   في هذا الاطار ايضًا  ياتي  صيام اخوتنا المسلمين

في شهر رمضان و يعدونه الطريق الافضل للاعتراف بسمو

الله وفضله.

ان صيام يسوع في البرية نموذجٌ لصومنا، فهو  لم يصم

لتقبل نعم  الله فهو الملء( لوقا4/1)،  بل ليفتح رسالته

الخلاصية بفعل رسمي  مسلمًا ذاته بشكل مطلق لابيه ( متى

4/1-4).  وتكون بالنتيجة تجاربه وانتصارها عليها  هي

تجارب المسيحيين ودعوة للتغلب عليها: ضيقات واغراءات

في قطاعات الحياة كلها كالمال والسلطة والمتعة يجب ان

تصبح  موضوع هداية دائمة ( متى 4/1-11).

وبكلمات لا تقبل  اللبس يصف النبي   اشعيا طبيعة  الصوم

قائلا: أَلَيسَ الصَّومُ الَّذي فَضَّلتُه هو هذا: حَلُّ قُيودِ الشَّرِّ وفَكُّ

رُبُطِ النِّير وإِطْلاقُ المَسْحوقينَ أَحْراراً وتَحْطيمُ كُلِّ نير؟  أَلَيسَ

هو أَن تَكسِرَ للجائِعِ خُبزَكَ وأَن تُدخِلَ البائسينَ المَطْرودينَ

بَيتَكَ وإذا رَأَيتَ العُرْيانَ أن تَكسُوَه وأَن لا تَتَوارى عن لَحمِكَ؟

حينَئِذٍ يَبزُغُ كالفَجرِ نورُكَ ويَندَبُ جُرحُكَ سَريعاً ويَسيرُ بِرُّكَ

أَمامَكَ ومَجدُ الرَّبِّ يَجمعُ شَملَكَ. حينَئِذٍ تَدْعو فيَستَجيبُ الرَّبّ

وتَستَغيثُ فيَقول هاءَنَذا (58/6-9).

أركان الصوم


1–   الصلاة

هناك حاجة مطلقة الى الصلاة الشخصية اليومية فضلاً عن

الصلاة الليترجيا. ان الصلاة الشخصية مهمة جدا. فالصلاة

تنبع من حضور الله وديمومته فينا.  والصلاة تصقلنا وتحمل

لنا رؤية جديدة وعلاقة جديدة.  ويعلمنا يسوع  كيف نصلي:

”  متما صلّيتَ، ادخل حجرتك واغلق عليك بابها وصلّ الى

ابيك في الخفية” ( متى 6/6). والحجرة هنا ترمز الى كياننا

الداخلي العميق. بالصلاة نوحد فكرنا وقلبنا بصمت واندهاش

وشكر ومدح وسجود من دون طلبات كثيرة لان والله يعرف ما

نحن بحاجة اليه ( متى6/8). ).

ان الصلاة في الخلوة صرخة رجاء تجاه الله القادر على

خلاصنا، وتمنحنا قوة كافية للالتزام بايماننا والامانة له.

وتبقى صلاة يسوع ” الابانا” النموذج الاساسي لصلاة

المسيحي.

ان الصلاة  يجب  الا تكون   فعلا معزولا عن الحياة، بل

حياتنا يجب ان تصبح ينبوع صلاة ، لذا  يدعونا الرسول

بولس  الى ان نصلي من دون انقطاع (1 تسالونيقي5/17).

اما الصلاة الليترجيا،أي صلاة الكنيسة الرسمية، الكنيسة

الملتئمة حول يسوع  للاحتفال بحضوره، فعلينا المشاركة

الفعالة والكاملة فيها.. نصلي مع الكنيسة ونندمج فيها

منتظرين الرجاء السعيد. ان الليترجيا ليست  وقتا لصلوات

فردية.

2-  الصدقة

تحتل الصدقة مكاناً بارزاً في فترة الصوم. فما نوفره بحرماننا

الطعام والشراب ليس لكي نصرفه على انفسنا يوم العيد، انما

لنعطيه لاخوتنا المعوزين او لجهة خيرية . والصدقة هي

رحمة الانسان لاخيه الانسان ايا كان، فهو مسؤولٌ عنه : اين

اخاك، ماذا فعلت به؟ (تكوين 4/9). وهذه الرحمة  يجب ان

تُجَّسد بالاعمال.   ولقد عبر عنها العهد القديم بصور مختلفة:

كترك جزء من المحاصيل الزراعية لمنفعة الفقراء (الاحبار

19/9، راعوث2) أو كعشور كل ثلاث سنين لصالح الارامل

والايتام والغرباء ( تثنية 14/28-29).  ونرى طوبيا العجوز

يحث ابنه طوبيا الشاب قائلا: ”  لا تحول وجهك ابداً عن

الفقير، فالرب لن يحول عندها وجهه عنك.. ان كان لك كثير،

فابذل كثيراً، وان كان لك القليل، فاجتهد ان تبذل القليل عن

نفس طيبة” ( طوبيا 4/7-11، و16-17). كم  اتمنى ان

يقوم  الاباء والامهات بتوجيه اولادهم على هذه الشاكلة

المؤثرة جدًا.

ولقد عدّها يسوع المسيح الى جانب الصوم والصلاة واحدةً

من اركان الحياة الدينية ( متى6/1-18)، واوصى ان تمارس

دون تباهٍ وبتجرد تام، وبدون حدود ايضاً (لوقا 6/30).

والصدقة واجب لاشراك الاخرين بما عندنا من عطايا الله (

اعمال 3/6)،         و” كيف تقيم محبة الله في ذاك الذي

يغلق أحشاءه امام أخيه المحتاج” ( 1يوحتا 3/17)

الصدقة مصدر جزاء سماوي ( متى الفصل 25 عن الدينونة

الاخيرة).

و ” ان الله يحب من يعطي مهلالا”    ( 2 كورنتس 9/6-7).

كثيرون هم من  ساعدونا وقت الضيق في سني الحصار

والحرب، واليوم  دورنا  في ردّ الجميل ومساعدة من هم في

العوز.

وفي هذه المناسبة أشكرجميع الذين تبرعوا من أجل المدينة

المقدسة وهايتي وسابقا ضحايا تسونامي.  فالمحبة لا حدود

لها.

3-   التوبة والاهتداء

تحتل التوبة والاهتداء مكانا بارزا في فترة الصوم، فهو زمن

التغيير والاصلاح. والتوبة لا تعني  الندم عن خطيئة

ارتكبناها فحسب، بل تغييرا باطنيا جوهريا وتبني اتجاهٍ

جديدٍ وسلوكٍ جديدٍ       ” انبذوا عنكم معاصيكم.. واصنعوا

لكم قلبا جديدا وروحا جديدا” ( حزقيال 18/31). ان الخطيئة

التي يعيشها الفرد والجماعة تعوق تقدمهم الروحي

والانساني.

ان هذا التغيير الباطني يتطلب افعالا خارجية تعبر عنه

كالندامة والتكفير  وتغيير العقلية والمواقف.

مع الاسف يعيش العديد منا  اليوم، حالة من اللاوعي

بالخطيئة  الشخصية او الجماعية وخصوصا الخطايا

الاجتماعية. وهنا اشير الى الامانة الزوجية والتوجه غير

المسؤول نحو الطلاق(بطلان)! وتفكك العائلة وتشتت الاطفال

وانسلاخهم، واهمال تربيتهم ومتابعتهم، وكل أشكال  الكذب

والغش والرشوة والسرقة والفساد  والجشع والانانية…

لقا اعتمدن رسالة الانبياء على التوبة والاهتداء وشكلت

جانباً جوهرياً من كرازة يسوع (متى3/2)  وقد طبعها على

الرجاء كالطفل الصغير الذي يعود الى ابيه” ان لم تعودوا

كالأطال لن تدخلوا ملكوت السموات”  (متى 18/3). هكذا

مارست الكنيسة التوبة منذ البداية بشكل فردي وجماعي ،

فالاجتهاد الفردي ليس باقل منه على المستوى الجماعي. لذا

عمدت الكنيسة الى تنشئة الخطاة في دورة تعليمية طويلة,

ونذكر هنا صف التائبين الى جانب صف الموعوظين! ان

التوبة نعمة مكلفة، تصطدم باعجاب المرء بذاته ( الكبرياء)

والثقة بالذات والتعلق بالمال  بدل وضع الثقة بالله والاعتماد

عليه.

كم نحن اليوم  بحاجة الى هذه التوعية و هذا الاعداد!

“ان التوبةَ هي السفينة، والمخافةَ ربَّانُها، والحبَّ هو الميناء

الالهي. تُركبنا المخافةُ في سفينةِ التوبة وتعبر بنا البحر

النتن لهذا العالم وتوصلنا الى الميناء الالهي الذي هو الحب؛

ومن هذا الميناء ننظرُ الى جميعِ الاتعابِ الشاقَّة التي هي في

التوبة. لأننا ما نْ نصلَ الى الحبّ حتى نكون قد وصلنا الى

الله”. (اسحق النينوي، نصوص سريانية: الله رحمة، الله

محبة، بيروت 2002،  ص 102)

4-  قراءة الكتاب المقدس

ان قراءة  الكتاب المقدس،” كلمة الله”،  قراءة  يومية

وتأملية مصباح لخطانا  ونور لسبيلنا. هذه القراءة  اليومية

في العائلة تتطلب الصلاة، والصمت، واخلاء الذات

للامتلاءمن نعمه. قراءة  ايمانية واسرارية تبحث عن المعنى

الروحي الذي سماه  الاباء ببساطة” الحقيقة” وليس عن

معنى الحدث التاريخي المفصل. فالمعنى الباطني الحقيقي

الرمزي يمكن اكتشافه عن عين الايمان وليس عن طريق

البحث عن الحدث الظاهر. وكلما كانت العين الداخلية قوية

كلما اقتربنا من الحقيقة وفهمنا الرموز والصور، وقمنا

باختيارات صحيحة ومنسجمة وابتعدنا عن الانحراف. قراءة

تقودنا بالتالي الى حوار حقيقي وصادق من خلال ما كتبه

المؤلفون الملهمون  في زمانهم وثقافتهم.

عمليًا

انطلاقا مما ذكرنا ندعو المؤمنين الى القيام     بخطوات

عملية:

1-   الصيام قدر الامكان في فترة الصوم الكبير اقله في

الاسبوع الاول والوسط والاخير، ونذكر بان يوم الاحد، يوم

الرب  غير خاضع للصوم في تقليدنا الشرقي. وليكن صيامنا

وصلاتنا من أجل عودة السلام والاستقرار عاجلا الى بلادنا.

2-    تقديم ما توفرونه الى صندوق خاص بالصوم موضوع

في الكنائس من اجل ان يوزع في نهاية الصوم على الاخوة

الفقراء.

3-    حضور القداس اليومي  والمشاركة في الصلوات

والمناولة.

4-    قراءة يومية اقله للانجيل ، مقطعا كل يوم والتأمل فيه

مع العائلة ومحاولة فهم المعنى وتطبيقه على النفس.

5-   المشاركة في رتبة درب الصليب  وخصوصا نحن نعيش

ظروف  الالام، بخشوع وتقوى وصلاة ورجاء.

6-    التوبة ، أي الاعتراف الحقيقي والندم على خطايانا،

فالخطيئة هي انقسام الذات. بالتوبة  نعود الى وحدتنا

وانسجامنا.

الختام

أيها الأحباء،

” قَدَّسَكم إِلهُ السَّلامِ نَفْسُه تَقديسًا تامًّا وحَفِظَكم سالِمينَ رُوحًا

ونَفْسًا وجَسَدًا، لا يَنالُكم لَوم، في مَجيءِ رَبِّنا يسوعَ المسيح!

إِنَّ الَّذي دَعاكم أمين، وهو الَّذي سيَعمَل. أَيَّها الإِخوَة، صَلُّوا

مِن أَجلِنا أَيضًا( 1 تسالونيقي 5/23-25).

ليقبل الرب صيامنا وتوبتنا وصلاتنا وصدقتنا وليمنح قلوبنا

وبلدنا وعالمنا السلام والاستقرار، فنحتفل  بفرح وابتهاج

بعيد قيامته المجيدة. مران اتا، تعال ايها الرب يسوع. آمين.

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *