«المبارك» بنديكتوس السادس عشر: حارس للعقيدة.. ومحافظ


الأربعاء 29 آب 2012، آخر تحديث 06:12 كلير شكر – “السفير”

 

ليس سهلاً أبداً أن تكون خليفة البابا يوحنا بولس الثاني. للرجل الراحل هالة قلّ نظيرها بين قادة العالم المدنيين والروحيين. حضوره كان طاغياً على حاضرة الفاتيكان كما على مساحة المعمورة. المتسامح مع من حاول قتله انغمس في السياسة إلى حدّ إسقاط أول معاقل الشيوعية… حتى صح القول فيه إنه «كان واحداً من أقوى رجالات القرن العشرين».
ما أسعف الكاردينال جوزف راتزنغر، يوم توّج على رأس الكنيسة الكاثوليكية في 19 نيسان 2005، بأغلبية الثلثين، أنّه كان واحدا من المنتمين الى الحلقة الضيقة المقرّبة من البابا الراحل، لا بل من الشخصيات المؤثرة في الفاتيكان بسبب علاقته المميزة مع سيّده، وهو الذي ترأس القداس الإلهي خلال جنازته في العام 2005.
البابا بنديكتوس السادس عشر، أي «المبارك»، يحمل الرقم 265 في التسلسل البابوي، هو البابا الأكبر سناً منذ كلمنت الثاني عشر عام 1730، وهو أيضاً من أطول الكرادلة في منصبهم بعد بنديكت الثالث عشر عام 1724، وهو البابا الألماني التاسع.
ولد جوزف راتزنغر في ماركتل، بافاريا، ألمانيا في 16 نيسان 1927 وعمّد وفق معتقدات الكنيسة الكاثوليكية في اليوم نفسه، وهو ثالث أشقائه وأصغرهم. تلقى تربية مسيحية، إنسانية وثقافية، ويشير بنفسه إلى أنّه متأثر بـ«موزار».
يُقال إنّه عندما بلغ سن الـ14 من عمره في العام 1941، انضم إلى جيش «شباب هتلر» عنوة وهو جيش غير نظامي أنشأه النظام النازي في ألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية وفرض على كل ألماني أن ينتسب إليه عندما يبلغ الرابعة عشرة من عمره، لكنه كان عضوًا غير متحمس وكان يرفض حضور الاجتماعات بسـبب نشـأته الكاثوليكية، علماً أن والده كان ضابط شرطة، وفضّل الاسـتقالة من منصبه في العام 1937 بدلا من الاضطرار إلى الانضـمام إلى الحـزب النازي.
درس اللاهوت والفلسفة في العام 1947 وأصبح كاهنًا في العام 1951، إلى جانب كونه محاضرًا في اللاهوت في عدد من الجامعات الأوروبية، ونشر عدة مؤلفات حول اللاهوت والعقائد المسيحية والكاثوليكية.
أصبح راتزنغر أستاذاً جامعياً للاهوت ولم يتجاوز عمره الواحد والثلاثين. وتم تعيينه رئيساً لأساقفة ميونيخ وفريسينغ في العام 1977 إلى أن رُقّيَ ليصبح كاردينالاً بعد بضعة أشهر. وسرعان ما اكتسب ثقة البابا يوحنا بولس الثاني الذي بدأ عهده في العام 1978، فعيّنه محافظاً لمجمع عقيدة الإيمان في العام 1981، ما جعله «حارس العقيدة الكاثوليكية»، وأحد الكاردينالات الأكثر نفوذاً في الفاتيكان.
سرعان ما ذاع صيت راتزنغر بسبب نهجه اللاهوتي المحافظ، فقد وصفته الصحافة الإيطالية بأنه «الكاردينال الدبّابة» أو «روتفايلر السماء» في إشارة إلى كلاب الحراسة الألمانية من فصيلة «روتفايلر»، وذلك بسبب مواقفه المتشددة من وسائل منع الحمل وقضايا المثليين جنسياً وتولي النساء الكهنوت.
يعتبر البابا بنديكتوس السادس عشر مكملاً لسياسات سلفه يوحنا بولس الثاني ويوصف بأنه متشدد تجاه بعض المواضيع، وإثر انتخابه أكّد فوراً أهمية المصالحة والحوار بين الأديان. لكنه سرعان ما طبع بدايات حبريته بـ«التباس» في العلاقة مع المسلمين إثر محاضرة ألقاها في ألمانيا في مسقط رأسه، يوم 12 أيلول 2006 حين تطرق لموضوع «آيات القتال» في القرآن واستشهد بنص تاريخي لحوار بين الأمبراطور البيزنطي وأحد المفكّرين الفارسيين حول دور النبي محمد، مع العلم أنّ المحاضرة لم تكن للحديث عن المسلمين بشكل مخصوص، بل هو ناقش أيضًا الوضع في الديانة اليهودية والمسيحية.
وقد تسـّبب هذا «الاقتبـاس» البابوي في قيـام تظـاهرات اعتراضية في العالم الإسلامي، ودفع البابا إلى جـمع سبـعة عشـر سفيراً من سفراء الدول الإسـلامية المعتمـدين لدى الفاتيـكان وألـقى خطـابًا أبدى فيـه أسفه من تداعيات الموقف، وأكّد الجـوانب المشـتركة بين المسـيحية والإسـلام.
وقام البابا خلال زيارته الى تركيا في 30 تشرين الثاني من العام ذاته، بزيارة مسجد السلطان أحمد، ليكون بذلك ثاني حبر أعظم يقوم بزيارة لموقع إسلامي بعد يوحنا بولس الثاني الذي زار الجامع الأموي في دمشـق في العام 2001. وزار أيضًا مسجد الملك الحسين خلال زيارتـه الأردن في 9 أيار 2009، كما التقى ملك السـعودية عبد الله بن عبد العزيز ليكون بذلك أول لقاء بين ملك سعودي ورأس الكنيـسة الكاثوليكية وأول زيارة من قبل ملك سـعودي للفـاتيكان.
وأسوة بسلفه، يولي البابا بنديكتوس السادس عشر أهمية خاصة لمسيحيي الشرق بعد موجات الهجرة التي حصلت بفعل الاضطرابات الأمنية، إذ لا ينظر الفاتيكان إلى المنطقة كحاضنة سكانية لمذاهب مسيحية فقط، بل كأرض مقدسة، ولد على ترابها السيد المسيح.
وقد وصف البابا في 11 تشرين الأول 2010 وضع بعض المسيحيين في الشرق الأوسط بأنه «مأساوي»، ودعا خلال افتتاحه المجمع المقدس الخاص بأساقفة الشرق الأوسط، إلى ما سماها «العلمانية الإيجابية» وإلى السلام والعدالة والوئام في المنطقة.
وأشارت بعض الإحصاءات يومها إلى أن المسيحيين كانوا يمثلون نحو 20 في المئة من سكان المنطقة قبل قرن، لكنهم باتوا لا يمثلون سوى نحو 5 في المئة. وفي 9 كانون الثاني 2011 دعا إلى اتخاذ إجراءات لحماية المسيحيين في الشرق الأوسط وخاصة في العراق ومصر، ودعا كذلك الزعماء العرب المسلمين لحماية حقوق الأقليات المسيحية وضمان عدم تعرضهم لاعتداءات.
أما في ما يخص علاقته مع اليهود، فقد بدا لافتاً للانتباه قوله في 3 آذار 2011، إن كلّ الشعب اليهودي ليس مسؤولا عن موت المسيح، كما نفى الاشارة العنصرية التي قد يفسرها البعض لكلمة يهود في إنجيل يوحنا حيث كان يوحنا نفسه يهودياً.
وفي سياق تشدّده الاجتماعي، انتقد في 18 آذار 2009 وأثناء جولة له في أفريقيا، استعمال الواقي الذكري للتقليل من مخاطر الإيدز، ما أثار غضب المنظمات الطبية وجمعيات مكافحة هذا المرض. لكنه عاد واعتبر في إحدى المقابلات المنشورة في تشرين الثاني 2010 أنّه «قد يكون هناك أساس من الصحة في استخدام الواقي الذكري في بعض الحالات».
ولكن على عكس «أستاذه»، الذي صار طوباوياً فإن البابا بنديكتوس السادس عشر يقنّن من رحلاته الخارجية التي كانت تميّز سيرة «الرسول الأبيض»، وذلك من باب إضفاء الخصوصية على كل محطة، الأمر الذي يسعى إلى تكريسه خلال الزيارة المرتقبة إلى لبنان.. وإصراره على إضفاء طابع تاريخي على الزيارة ربطا بوضع المسيحيين في لبنان والمنطقة العربية.

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *