الكلدان وحكاية نشأة الأديان

كانت بلاد الكلدان لقرون طويلة ملاذا لأقوام وفدت إليها من جهات عديدة واختلطت ببعضها

 فكونت ما يسمى بـ “الشعب الكلداني”، إذ قدمت من الشمال الشرقي أقوام طورانية ذات

البشرة الصفراء وأخرى كوشية ذات بشرة سمراء داكنة قدمت من الشرق، وثالثة سامية

شبيهة بملامح عربية من الشمال. توزعت هذه الأقوام على مساحات واسعة من السهول

الرسوبية الخصبة التي احتضنتها ضفاف دجلة والفرات قبل أن يلتقيا في قصبة القرنة الحالية

 بمدينة البصرة. وإن كانت الأمطار نادرة الهطول، إلا أن تفرعات هذين النهرين العظيمين

 مكـّنت هذه الكتل البشرية من سقي مزروعاتهم بواسطة قنوات إروائية محكمة خلدتها غابات

 واسعة من أشجار النخيل ليقتات عليها ويتفيأ بظلها الصديق والعدو ولتصبح مصدرا أساسيا

لتصنيع الخمر على مدى الآف السنين. تعتبر الإمبراطورية الكلدانية أول إمبراطورية حضرية

تشكلت في التاريخ الإنساني وتعاقب على حكمها ملوك عدة ودامت لقرون طويلة حتى

سقوطها الأول سنة 2300 ق. م.

كان الطورانيون بحسب المؤرخ الفرنسي شارل سينوبو (1854-1942) يعتقدون بأن

عالمهم مأهول بالشياطين، الأمر الذي حدا بهم للإعتقاد بأن الطاعون والحمـّى والجن

والخفافيش، وما إلى ذلك من أوبئة وأمراض وخرافات، هي من أعمال الشيطان. ولذلك،

إنتشر بينهم السحر والشعوذة لطرد الأرواح الشريرة والنجسة من جسد وحياة الإنسان. أما

الكوشيون، فكانوا يؤمنون بآلوهية الذكورة والأنوثة، إذ كان الإله الذكر معبودا كونه رمزا

للقوة والجبروت، بينما الأنثى رمزا للإخصاب والأمومة. ومن هاتين العقيدتين الوافدتين إلى

أرض الكلدان ظهرت الديانة الكلدانية الوثنية الأولى إلى الوجود التي نسخها عنهم الآشوريون

لاحقا مع بعض التحوير في أسماء آلهتها وطقوسهم. إعتقد كبار الكهنة المتنفذين بحكم

السلالات الملكية المتعاقبة بأن للكواكب السيارة والنجوم المتلألأة في السماء قدرة على التحكم

 بمصير البشر وسلوكهم اليومي. ويعزى سبب هذا الاعتقاد إلى وهج الأجرام السماوية

وحركتها وتبدل هيئتها من وقت لآخر، بل إلى سحر ضيائها وتموجها وكأنها فعلا آلهة تسبح

 في الفضاء الخارجي وبوسعها أن تفعل ما تشاء بالأرض. وعلى هذا الأساس، سموا آلهتهم

بأسمائها وأقاموا لها معابد خاصة يؤدي فيها الناس من مختلف طبقاتهم الاجتماعية صلواتهم

 وابتهالاتهم ويتضرعون إليها أوقات المحن ويقدمون نذورهم وقرابينهم ويقيمون فيها ومن

 حولها إحتفالاتهم وزيجاتهم (وممارساتهم الجنسية الطقسية، كما يروي لنا هيرودوتس). من

 ملاحظة السماء وما يدور في أفلاكها تطور ما يسمى اليوم بـ “علم الفلك”. وزيادة على ذلك،

كان يعتقد الكلدان الأوائل، وما زال الاعتقاد قائما، بأن الطفل يولد وتلد معه حظوظه في

الدنيا، أي أن قدر المولود الجديد مرسوم سلفا (ما يطلق عليه اليوم بـ “القسمة والنصيب”).

وهذا ما جعلهم يمتهنون قراءة الطالع وربط إسم المولود أول ما يبصر الدنيا ببرج من أبراج

 السماء. ومن هنا انتشرت عدوى طقوس الأبراج والحظ إلى كل العالم ونحن نشهد الألفية

 الثالثة.

المصدر:

Seignobos, Charles (1907). History of Ancient Civilization

London: T. Fisher Unwin. The Project Gutenberg eBook (2006).

الأردن في 2/9/2010

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *