الكلدانيون والمندائيون اصول تاريخية مشتركة وقومية كلدانية واحدة

 

Habeebtomi@yahoo.no 
بتاريخ 11 / 07 / 10 لبيت دعوة احد الأخوة المندائيين مقيمين في النرويج ، لحضور ندوة للترميذا
الدكتور عصام الزهيري للتعريف بالدين المندائي ، حيث اتحفنا بمحاضرة قيّمة تجول خلالها المحاضر في عمق التاريخ العراقي وفي اصول قوم عراقي اصيل ونحن معه ، وفي اجواء تاريخية عريقة عمقها يمتد مع جريان نهري دجلة والفرات الخالدين ، ومع قوم عراقي اصيل احتفظ باسمه عبر التاريخ وهم الصابئة المندائيون ، ومع ما يحيط بالدين المندائي من رموز وطقوس ومعتقدات تتأثل جذورها في اعماق التاريخ الرافديني ، وكانت فرصة سانحة لمعرفة تفاصيل الدين الذي نسجت حوله كثير من التأويلات ، ويوصف الدين المندائي بأنه الدين الباطني ، وهو يحتفظ بخصوصياته ، وهو لا يرمي الى التبشير والتوسع .
والصابئة هي لفظة آرامية تدل على التطهير والتعميد ، وقد شملت التسمية جماعة المندائيين اتباع يوحنا المعمدان وغالبيتهم في مدن العراق الجنوبية ، والقسم الآخر هم صابئة حران شمال وادي الرافدين ، وفي هذا المقال القصير نحاول تسليط حزمة ضوء على هذا المكون العراقي الأصيل .
حينما سألت الدكتور عصام الزهيري عن تسمية الصابئة المندائيين بمنأى عن المعنى الحرفي اللغوي إن كان يشير الى مفهوم قومي او ديني ، فأجاب ان المندائية هي تجمع ديني فحسب . لكن برؤيتي ان الرابطة الدينية لا ينفي ان يكون لها نوزاع قومية في بعض الحالات ، وحتى المذهب الكنسي الديني الذي يستقطب مجموعات تأخذ من من النوازع المذهبية وكانها نزعة قومية ، وقد تكون القومية البولونية فيها جانب من هذا الزعم ، فهي ( بولونيا ) كاثوليكية المذهب وانحصرت بين بروسيا البروتستانتية ، وروسيا الأرثوذكسية ، واستطاعت الأنطلاق الى الوجود بين القوتين الكبيرتين متسلحة بنزعة مذهبية كاثوليكية ، ومن هذا المنطلق فإن ما يجمع المندائيين هو الدين والذي يقوم مقام النزعة القومية .
إن إجابة المحاضر شكل حافزاً لي كي اتحرى وأبحث عن أرومة هذا القوم وعن امتداد جذورهم ، فالمتفق عليه أن هذا القوم هو قوم عراقي اصيل قطن هذه الديار منذ سحيق الأزمنة ، فما هي جذوره التاريخية يا ترى ؟
بالعودة الى ابن النديم وفهرسه ، سوف نجد في الفن الأول من المقالة التاسعة ص 456 مطبعة الأستقامة بالقاهرة ، وهو يكتب في اخبار العلماء وأسماء ما صنفوه من كتب ، ويحتوي على وصف مذاهب الحرنانية الكلدانيين المعروفين بالصابئة ، ومذاهب الثنوية الكلدانيين .وأورد ابن النديم ايضاً وجود الصابئة او ( المغتسلة ) كما يسميهم في منطقة البطائح وهي مغايض ماء دجلة والفرات ما بين واسط والبصرة والأحواز (اي الأهوار) .. وأورد محمد الجزائري في كتابه المندائيون الصابئة ص97 بأن ابن النديم اطلق عليهم اسم الكلدانيين مما يشير الى علاقتهم بسكان وادي الرافدين القدامى بل انهم من اور الكلدانيين اي من ذات المنشأ الأبراهيمي .
إن اسم الصابئة المندائئين كان مقروناً بالحرانية ( نسبة الى حران ) ، وقد ورد اسمها في الكتابات المندائية ، وقد تركها المندائيون ، بعد ان استقروا فيها طويلاً الى مناطق اخرى وسط وجنوب العراق . إن اسم المدينة حوران وفي اللغة المندائية هوران ، والتقليد يفيد إن عائلة ابراهيم الخليل استقرت فيها بعد هجرتها من اور الكلدانيين وسميت حران بـ (هران ) على اسم ( هاران ) اخي ابراهيم الخليل ، لانه اول من بناها فعربت الى حران وقيل انها اول مدينة تبنى بعد الطوفان ، ولبياضها سميت ايضاً بالمدينة البيضاء وقد ورد اسمها في الكتاب المقدس .
اما ابن العبري فإنه لا يترك هذا القوم دون إشارة اليهم وهو يعتمد على ثابت من قرة بن مروان الصابئي الحراني الذي يكتب بالسريانية فيما يتعلق بمذهب الصابئة في الرسوم والفروض والسنن وتكفين الموتى ودفنهم وفي الطهارة والنجاسة وما يصلح من الحيوان للضحايا وما لا يصلح .. الخ ويخلص ابن العبري الى القول عن مذهب الصابئة بأن دعوتهم هي دعوة الكلدانيين القدماء بعينها وقبلتهم القطب الشمالي ، ولزموا فضائل النفس الأربع ، والمفترض عليهم ثلاث صلوات اولها قبل طلوع الشمس بنصف ساعة او اقل لتنقضي مع الطلوع ثمان ركعات في كل ركعة ثلاث سجدات ..
وكانت هنالك محاولات من المبشرين لتنصيرهم باعتبارهم اقرب الأديان من المسيحية ، ويكتب القس بطرس نصري الكلداني في ذخيرة الأذهان المجلد الثاني ص80 الذي يحذو حذو ابن العبري بأنهم سكنوا حران إحدى مدن بلاد النهرين ووطن ابراهيم الخليل وتبعوا منذ القديم ديانة الكلدان بني الجاهلية وسموا نصارى مار يوحنا ، لأنهم بتمادي الزمان قد اقتبسوا عوائد واعتقادات كثيرة من النصارى ويعتبرون مار يوحنا غاية الأعتبار ، ولا يخفي انهم لا يتمسكون من عقائد النصارى إلا العماد والصليب وإكرام ما يوحنا .. وعن هذه الخلفية الدينية سوف توحي للمبشرين الكرمليين الحفاة وهم رهبان القديسة تريزة ، الذين ارسلهم الكرسي الرسولي الى بلاد ما بين النهرين سنة 1622 ,اقاموا كرسيهم على الخصوص في البصرة ، وعلى ايديهم تنصر اقواماً كبيرة من هؤلاء الصابئة هذا ما يقوله القس بطرس نصري الكلداني الذي يضيف بأن اصل الصابئة هم كلداناً جنساً وإن دعوتهم هي دعوة الكلدانيين القدماء بعينها .. الخ
لعل الليدي دراوور اكثر من تعمق في دراستهم إذ خالطت هذا القوم في اماكن تواجدهم في العراق وأيران ، ودونت ما رأته وما سمعته ودرست لغتهم ، وبنظرتها الثاقبة كتبت عن جوانب تخص الدين والأنتروبولوجي والفولكلور ( الأدب الشعبي ) والتاريخ ، فوقفت على جوانب معمقة لتسبر اغوار هذا البحر الغامض . وتقول ان الصابئة الحقيقيون هم سكنة اهوار جنوب العراق ، وأهل حران اتخذوا تسمية الصابئة للتخلص من انتقام المأمون كما سيأتي لاحقاً .
وتشير دراوور ( الصابئة المندائيون ص27 ) الى ثلاث أركان مهمة تشكل جوهر الدين المندائي اولها الماء الحي او الجاري او ما يسمونه ( يردنة ) ، وهو امر طبيعي تماماً في بلاد تلتصق فيها حياة البشر والحيوان والنبات بضفاف النهرين الكبيرين دجلة والفرات ، ومن هنا يأتي ان احد الطقوس الرئيسية لديهم هو الأغتسال في الماء الجاري ، اما الركن الثاني فيتمثل في تجسيد النور (ملكا دنهورا ) وفي مجموعة الملائكة النورانيين او الأرواح النورانية الذين يمنحهم الكون نعم النور والصحة والقوة والفضيلة والعدل . والأمر الجوهري الثالث تحدده دراوور باعتقاد الصابئة بخلود الروح وبصلتها الوثقى بأرواح اسلافها ، صلة إلهية مباشرة ، فوجبات الطعام تؤكل نيابة من اجل روح الميت ..
ولهذا اقول ان هذا القوم لم يكتنفه اي غموض او اسرار ، إنها عادات ومعتقدات وطقوس كانت سائدة في ارض ما بين النهرين ، وكانت الأجيال المتعاقبة من هذا القوم امينة وحريصة على الأحتفاظ بتلك المعتقدات ، علماً انهم لا يؤثرون على غيرهم فهذا بيتهم وهم أحرار به ، لكن هل تركهم الجيران وشأنهم ؟ كلا ومن منطلق ان كل دين او معتقد يعتقد اصحابه ومعتنقيه انه افضل الأديان والمعتقدات وهنا تتولد الأشكالية الدين حيث يجري التدخل بل وإجبار هذا القوم لترك معتقداته .
نقرأ عن التبشير بالمسيحة بينهم من قبل المبشريين القادمين من الغرب ، إن كان من قبل الكنيسة الأنكليكانية او الكاثوليكية او غيرها ، وكما مر فقد افلح المبشرون بتنصير اعداد مهمة منهم .
لكن المبشرون الأسلام كانوا اكثر وقعاً من المبشرين بالمسيحية ونعود الى فهرست ابن النديم وبالضبط الى صفحة 459 حيث نقرأ عن مرور المأمون بديار مضر يريد بلاد الروم للغزو ، وتلقاه الناس وفيهم جماعة من الحرانيين وكانت شعورهم طويلة بوفرات تشبه وفرة قرة جد سنان بن ثابت ( الصابئي المندائي ) ، فسألهم المأمون من انتم من الذمة ؟ فقالوا نحن الحرانية ، فقال انصارى انتم ؟ قالوا لا . قال فيهود انتم ؟ قالوا كلا . قال فمجوس انتم ؟ قالوا لا . فقال الكم كتاب او نبي ؟ فجمجموا في القول ، فقال لهم اذن انتم الزنادقة عبدة الأوثان .. وانتم حلال دماؤكم ، وعرضوا عليه الجزية وهم صاغرون كبقية خلق الله من اهل الكتاب او اهل الذمة حسب التعبير الأسلامي ، فلم يقبل ( المأمون ) ، ووضع امامهم امرين لا ثالث لهما ، قائلاً :
ان تنتحلوا الى دين الأسلام او ديناً من الأديان التي ذكرها الله في كتابه ، ( وإلا قتلتكم عن آخركم ) ، انتم حلال دماؤكم ، لا ذمة لكم . والمدة التي امهلها كان الى حين عودته من نفس الطريق قائلاً :
فإن انتم دخلتم الأسلام او في دين من هذه الأديان ، وإلا امرت بقتلكم واستئصال شأفتكم ، ورحل المأمون لغزو الروم ، ووقع هذا القوم في حيص بيص من امرهم ، وتفتق فكر احدهم عن طريقة للنجاة قائلاً : إذا رجع المأمون فقولوا له : نحن الصابئون فهذا اسم دين ذكره الله جل اسمه في القران فتنتحلوه انتم فتنجون به ، وفعلاً انقذتهم فطنة الرجل ، ودفعوا الجزية وهم صاغرون …
إن كانت تلك عصور الجهل والفقر والمرض والأستبداد والحروب باسم الدين حيث يجري سبي النساء والأطفال ويجري الأعتداء على اعراض القوم الذين انكسروا في الحرب ، والأستيلاء على اموال وأملاك المغلوبين على امرهم بأنها غنائم حرب ويحلل اغتصابها من اصحابها .
لكن اليوم ونحن نولج القرن الواحد والعشرين وفي عصر حقوق الأنسان وحقوق الأقليات ، لكن في عراقنا الثوري لم يتغير شئ قياساً بتلك العصور المظلمة ، فالمسلم في حالات كثيرة يعتدي على جيرانه رغم ان النبي محمد اوصى بسابع جار ، لكن في العراق اغتصبت بيوت المسيحيين والمندائيين من قبل اقرب جار مسلم ، ولا نستطيع ان نعمم على الجميع هذا الحكم ، لكن النتيجة كانت تشير الى هذا التوجه ، فقد فرغت او كادت تفرغ محافظات من المكون الصابئي المندائي بعد آلاف السنين من العيش على هذه الأرض ، ولا ننسى العنف الأجتماعي المسلط على هذا القوم .
ونقرأ بعض المقترحات والحلول التي تحرص على بقاء هذا القوم على ارضه ووطنه ، وقد نشر الأستاذ نزار ياسر الحيدر بعض المقالات التي تعالج شأن هذه الشريحة العراقية الأصيلة ، وقد كتب يتساءل :
هـل يمكـن أن تكـون كـوردستـان وطناً بديلاً للصابئة المندائيين ؟ وانا اعتقد ان المسالة لا تنتهي في توطينهم في اقليم كوردستان وإن الكاتب نفسه شخص بعض المعوقات من جملتها مسألة اللغة ، ولكن ثمة أمر اهم من ذلك فتكون العائلة نصفها قد هاجرت الى اوروبا او امريكا ووجد المهاجر بأم عينيه كيف يحترمون الأنسان وكيف يقدسون حقوقه كأنسان مهما كان لونه او دينه او مذهبه ، وبعد ان كانوا يتوسلون ان يعتبرون في اوطانهم اهل الذمة رغم الأحكام المنافية لكرامة الأنسان في تلك الأحكام ، لكن الجرائم بحقهم لم تنتهي ولم تفسح لهم مجال التفكير بحقوقهم ، فهذا القوم لم يعد يفكر في وطنه بمسألة حقوقه ، إنما بات يطلب البقاء على قيد الحياة فحسب .
فالجرائم الأخيرة كانت تستهدفهم بالأجهاز عليهم وسرقة اموالهم في وضح النهار ولا تحقيق ولا ملاحقة للجناة ، ويكتفي المسؤولن من اعلى المستويات بالمجاملات الرخيصة من ان المندائيين هم قوم طيب وهم السكان الأصليين الى أخره من العبارات التي لا تغني ولاتشبع من جوع .
إن الحكومة لم تكن جادة في ملاحقة من يستهدفون الأقليات الدينية منهم الأيزيدية والمسيحيين والمندائيين ، ولم نلاحظ يوما واحداً من المجرمين في هذه الجرائم قد قدم الى المحاكمة .
هذا من الجانب الرسمي اما الجانب المجتمعي فلم يكن هنالك اي تضامن مجتمعي اسلامي مع هذه المكونات ، فهؤلاء مستعدين ان يقلبوا الدنيا من اجل نقاب المرأة او حجابها ، لكن اغتيال وقتل واغتصاب وخطف الناس على الهوية ، لا يحركهم ابداً وربما يفسر السكوت من الرضى ، لا ادري ان كنت مخطئاً في تصوراتي .
إذا عاد الوجه الناصع للعراق وطبقت الديمقراطية واستقر العراق ، فإن الأقليات الدينية والقومية سوف يكونون المستفيدن الأوائل ، وهذا الواقع نلاحظه في اقليم كوردستان بصورة عامة رغم هضم حقوق شعبنا الكلداني في هذا الأقليم . فالديمقراطية والتعايش والأستقرار هي الواحة التي تزدهر بها تنوعات ومكونات الشعب بمختلف تكويناته الأقليات والأكثريات .
ونعود الى عنوان المقال الذي يفيد بتاريخ ومعتقدات اصيلة عراقية يشترك فيها الكلدان والمندائيون انهم قومية كلدانية واحدة مع احتفاظ كل مكون منهما بالدين الذي يعتقد به . وإن كان خلاف ذلك حبذا لو اسمع رأي مخالف لانني اعتمدت على مصادر تاريخية ولا تتعلق المسألة بالشأن السياسي .
حبيب تومي / اوسلو في 09 / 09 / 10
———————–
المصادر :
1 ـ الفهرست لأبن النديم ، مطبعة الأستقامة بالقاهرة
2 ـ القس بطرس نصري الكلداني ” كتاب ذخيرة الأذهان في تواريخ المشارقة والمغاربة السريان ” طبع في الموصل في دير الآباء الدومنيكيين سنة 1913 ، المجلد الثاني
3 ـ محمد الجزائري ” المندائيون الصابئة ” المعهد الملكي للدراسات الدينية ، الأردن ، عمان سنة 2000 م .
4 ـ العلامة غريغوريوس الملطي المعروف بابن العبري ” تاريخ مختصر الدول ” .
5 ـ الليدي دراوور ” الصابئة المندائيون ” ترجمة نعيم بدوي ، وغضبان الرومي ، دار المدى للثقافة والنشر ، ط2 سنة 2006 سورية دمشق .
6 ـ الدكتور حيدر ابراهيم علي ، والدكتور ميلاد حنا ” أزمة الأقليات في الوطن العربي ” دار الفكر دمشق سنة 2002 م . تعاريف من اعداد محمد صهيب الشريف .
7 ـ مقال على موقع عنكاوا بقلم نزار ياسر الحيدر وهو بعنوان هـل يمكـن أن تكـون كـورد ستـان .. وطـنـاً بديـلاً للصابئـة ألمندائييـن .. ؟؟

 

 

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *