الـدكـتـور صباح قـيا .. ألقـوشي لا يُجـيـد اللغة الكـلـدانية فأثارت مشاعـره

هـل نعـتـز بلغـتـنا … هـل نعَـلـِّم أولادنا لغـتـنا قـبل دخـولهم المدرسة أم بعـدها … هـل نحـتاج لغـتـنا في دول الشـتات … هل تـؤثـر إجادتـنا لغـتـنا عـلى مستـوى إجادتـنا لغة أخـرى في داخـل الوطـن أو خارجه … هـل من المعـيب أن نـتعـلم ونـتـكـلم بلغـتـنا خارج الـدار … لو أن الأب والأم يتكـلمان بلغـتين متباينـتين فهل نعَـلم الأولاد لغة الأب أم لغة الأم أم كـليهما … أسئلة كـثيرة تـدور في مخـيلتـنا بهـذا الحـقـل .

إنَّ الـذين يتجـنـبـون التـكـلم بلغـتهم القـومية متـنـوِّعـون ويتمسكـون بحجج عـديـدة ، فهـناك مَن يشعـر بأنْ لا حاجة له إلى تعَـلـُّم والتـكـلم بلغة آبائه القـروية لأنه يسكـن في المدينة والغالبـية فـيها يتـكـلمون بلغة الـوطن … وهـناك مَن يجـيـدها ولا يتكـلم بها ، بعـكس الـذين يتمنون إجادتها ولكـن لم تـتـوفـر لهم فـرصة تعَـلمِها … البعـض يُـخـفـون هـويتهم أمام الآخـرين لأسبابهم الخاصة ـ الخـوف مثلاً ـ فـيتكـلمون بلغة غالبـية الشعـب … البعـض الآخـر يعـتبر لغـته القـومية رمزاً للطبقات القـروية الفلاحـية المتخـلفة فـيتجـنبها في مجـتمع المدينة المتـطـور … الكـثيرون منهم يتـشبَّـثـون بعـذر فاهي ويقـولون عـن اللغة الثانية بأنها لغة الشعـب ويتـكـلمون بها ! ثم هـناك مَن يرى أن اللغة الثانية هي حاجة الطفل إلى لغة المدرسة … وآخـرون لا يرغـبون التـكـلم بلغة آجـدادهم لأسباب فـطـيرة أخـرى . تساؤلات عـديـدة تراودنا ولكل منا تجـربته في هـذا الشأن ، وسنعـرض بعـضاً مما وصل منها إلى مسامعـنا .

الكهـنة والراهـبات :

كان طلاب معهـد الكهـنة ( السيمنير ) في الموصل يـدرسون اللغة الكـلـدانية الفـصحى بالإضافة إلى اللغة العـربـية ولغة أخـرى ، ولكـنهم يتكـلمون فـيما بـينهم باللغة العـربـية ـ اللهجة المصلاوية وحـتى بعـد رسامتهم وإنـتـقالهم إلى بغـداد إلى حـد الـيوم وهـكـذا الراهـبات أيـضاً وأغـلبهم من قـرانا الكـلـدانية مثـلنا ، ولستُ أدري ما هـو منـطـقهم ومنـطـلقهم في ذلك وقـد تربَّـوا في عـوائل متواضعة وليست برجـوازية ، تـرى هـل هـو تعالي ، تباهي ، تـرف ، هـل لغـتـنا قاصرة أم هـناك ضرورة نجهلها .

تجـربتي :

شاءت الحـياة أن أرى الـنـور في قـلعة كـركـوك من عائلة محافِـظة تـتـكـلم اللغة الكـلـدانية فـلم أخـرج إلى الشارع مع الأطفال ولم أذهـب إلى الروضة ، كما أنَّ أصدقاءنا كانـوا من الكـلـدان والآثـوريّـين ، فـلم أتعـلم اللغة العـربـية ولا التركـمانية ولا الكـردية ، فـذهـبتُ إلى المدرسة وأنا لا أعـرف معنى : تعال ، روح ، إمشِ …… وبعـد فـترة قـصيرة تعـلمتُ اللغة العـربـية ، وكـذلك التركـمانية بطلاقة الأطفال ولكـني نسيتها تماماً بعـد مغادرتي كـركـوك إلى ألقـوش وأنا إبن التاسعة من العـمر . وهـنا أسأل ، لمّا دخـلتُ المدرسة وأنا لا أعـرف اللغة العـربـية هـل أثـرتْ عـلى مستـواها عـنـدي قـراءة وكـتابة وتـكـلماً كما ترونها عـنـدي الـيوم ؟

تجـربة أولادي :

أولادي وُلـدوا في المدينة ، وعـلى خـطى والـدهم لم يتعـرفـوا عـلى الشارع في طفـولتهم ولم يشاهـدوا التلفـزيون ـ لأسباب معـينة ـ وحـين دخـل إبني البكـر الروضة كان لا يعـرف معـنى : إجـلس ، إلعـب ، كـرسي ، لا تبكي ، إصعـد ، إنـزل …. فـفي الحـقـيقة عانى بعـض الشيء في الشهر الأول وبعـد ذلك واصَل اللعـب والتكلم مع أطفال الروضة حـتى صار يشتـرك في الفعاليات والأناشـيد وكانت نـتيجة إمتحانه في الصف السادس الإبتـدائي هي السابع عـلى مستـوى العـراق ، إذن عـدم تـكـلـُّمه باللغة العـربـية في الـبـيت لم يؤثـر عـلى سرعة ومستـوى تعـلمها عـنـده لاحـقاً ولا عـلى مستـواه العـلمي الـدراسي .

عائلة من أقاربي :

أولادها السبعة مولودون في المدينة يُـجـيـدون لغـتـنا الكـلـدانية بطلاقة كأنهم أولاد فلاح القـرية ، تعَـلموها من كـثرة زياراتهم لبـيت جـدهم من أمهم وبـيوت خوالهم وخالاتهم في بغـداد ، ولكـنهم يتـكـلمون داخـل البـيت باللغة العـربـية اللهجة المصلاوية ! ولم أسألهم يوماً عـن سبب ذلك .

عـوائل كـثيرة نزحـت من قـرى الشمال إلى المدينة تجَـنبـوا التـكلم بلغـتهم الكـلـدانية إما خـوفاً أو خجلاً أمام أهل المدينة وخاصة في الموصل فـتكـلموا باللهجة المصلاوية ، أما في بغـداد فالبعـض إعـتـبر المسألة كـشخة وتعالي عـلى أبناء جـلـدتهم فـتـكـلموا باللهجة البغـدادية .

أما في أستراليا فـرأينا العجـب

عائلتان كـلـدانيتان الوالـدان يتـكـلمان باللغة الكـلـدانية فـيما بـينهما ولكـنهما يستخـدمان مع أولادهما اللغة العـربـية ( إذن الغاية ليست المدرسة ! ) فـدعاني فـضولي وسألتُ إحـداهما عـن السبب فأجابتـني جـواباً فـطيراً وقالت : لكي يحـصلوا عـلى عـمل عـنـد العـرب في أستراليا !.

عائلة ثانية

يجـيـد جـميع أعـضائها التـكـلم بلغـتـنا الكـلـدانية ولكـنهم يتـكـلمون في بـيتهم باللغة العـربـية ، ومن المستغـرب أنّ إحـدى بناتها تـزوَّجـتْ من رجـل يعـرف العـربـية والإنـﮔـلـيزية ولكـن له لغته القـومية الخاصة به وأخـبرها بأنه سيعَـلـِّمها لأطفالهما ! وهـنا إستـثارتْ وقالت : أنا أيضاً سأعـلـِّمهم اللغة الكـلـدانية …. وسؤالـنا لها : إنْ كـنتِ تـعـتـزين بلغـتـكِ الكـلـدانية فـلماذا لا تـتـكـلمين بها ؟ .

عائلة ثالثة

الأم تـتـكـلم باللغة الكـلـدانية تـزوَّجـتْ من سرياني يتـكـلم باللغة العـربـية والمعـروف أن الأولاد يتعـلمون أولاً لغة أمهم ، ولكـن الزوج طرزان أصدر لها أمراً منـذ الـبـداية يقـضي بأنْ لا تـتـكـلم مع الأطفال بلغـتها وإنما بلغـته العـربـية ، ولما سألتـُه عـن السبب ؟ قال لي : إن ذلك سيؤثر عـلى لغـتهم المدرسية فـليس بإمكانهم تعَـلم لغات كـثيرة … وهـو لا يـدري بأن هـناك الكـثيرين في العـراق يعـرفـون خـمس لغات محـلية ناهـيك عـن شخـصيات عالمية يجـيـدون تسع أو عـشر لغات وأكـثر … وفي رأيي أن السبب يعـود إلى الأنانية وضعـف في الشخـصية بل هي ثـقافة الـذكـورية في مجـتـمعـنا ، فـذلك الرجـل الطرزان يـبخـل عـلى زوجـته أن تـكـلم أولادهـما بلغة لا يعـرفها هـو ، ولا يحاول أن يتعـلمها هو أيضاً .

عائلة رابعة

الأم مصلاوية والأب كـلـداني من بـلـدات الشمال ، مرَّ ولـداهما الشابَّـين ــ لا يعـرفـون الكـلـدانية ــ بتجـربة مزعجة بعـض الشيء حـين لم يتعاون معهما الشباب الكـلـدان وقالـوا لهـما : إذهـبا وتعـلما اللغة الكـلـدانية ! فـقالت لي : (( جـماعـتك ما خـوش ناس )) وحـين إستـفـسرتُ منها عـن أصل القـصة قـلتُ لها : لا شـك إن شـبابنا مخـطئون ، ولكـن إسمحي لي بسؤال : لماذا حـرمتِ أولادكِ من تعَـلـُّم لغة أبـيهما ؟؟ فـسكـتـتْ ! .

عائلة خامسة

الوالـدان كـلـدانيان ، الأم كـشخـﭼـية تحـب الظهـور وتعـتـقـد أن التـكـلم باللغة الإنـﮔـليزية هـو كـشخة ، فـصارت تـكـلـِّم أولادها بلغة إنـﮔـليزية مكـسَّـرة ، أما الأولاد فـتعـلموا بعـض الكـلمات الكـلـدانية من حـديث الوالـدين ، وحـين ينـطـقـونها يـبـدون كأنهم مغاربة يتكـلمون باللغة الكـردية ! سألتها يوماً عـن السبب فـقالت : لا نـدري ….

عائـلة سادسة ألقـوشية كل أعـضائها يتـكـلمون باللغة الكـلـدانية

طيب ، الأب من مواليـد بغـداد متأثـر بلهجات الجـيران والأم مولودة ومتربـية في ألقـوش وليس غـريباً أن الأولاد ينـطـقـون لغة الأجـداد أفـضل من أبـيهم وذلك بفـضل أمهم ، ويتـكـلمون الإنـﮔـليزية بطلاقة ولا يعـرفـون لغة أخـرى ، سافـروا جـميعهم إلى ألمانيا حـيث العـم وعائلته هـناك يجـيـدون اللغة الكـلـدانية والألمانية ولا يعـرفـون لغة أخـرى … فـلم تواجهـهما أية مشكـلة في الـتـفاهم لأن لغة الأجـداد تجـمعـهم .

عائلة سابعة

الأب عـقـراوي والأم من زاخـو يُجـيـدان اللغة الكـلـدانية والعـربـية والإنـﮔـليزية حـسب المقـدرة ، يتكـلمان بـينهما باللغة العـربـية أما مع الأولاد فـباللغة الكـلـدانية كل حـسب لهجـته ، والجـميل في الأمر أن الأولاد يكـلمون والـدهم بلهجـته العـقـراوية ومع الأم بلهجة زاخـو ، إنهم أذكـياء .

عائلة ثامنة

الأب قـرَوي وكـذلك الأم لكـنهما يكـلمان أولادهم بالعـربـية المكـسَّرة وبمرور الزمن تعـلم الأولاد اللغة الكـلـدانية ، وبعـد أنْ تـزوّج الأولاد كـرَّروا التـكـلم مع الكـنات باللغة العـربـية .. ولكـن مع الأحـفاد إنعـكـستْ الآية فـيكـلمونهم باللغة الكـلـدانية ، وفي إعـتـقادي إنَّ الوالـدين يكـلمان الأولاد بلغة مخالفة للغـتهما إنما السبب هـو كي لا يعـرف الأولاد ماذا يقـول الوالـدين بـينهما .

وخـتاماً مع الأخ الدكـتـور صباح فأنا أستغـرب من أنه لم يتعـلم لغة والـديه طيلة سنين ، خاصة وأنه لم يُـشِـر إلى أنهما كانا يتـكـلمان معه باللغة العـربـية !! نعـم إن عـدم تمكـن الشخـص من لغة الآباء لا يمنعه من الإعـتـزاز بمسقـط رأسه أو بأجـداده أو بإنـتمائه القـومي أو بأهـله ولكـن إجادة لغة الأجـداد هي خـير وسيلة للـتعـبـير عـن الهـوية القـومية ، ونحـن نرى اليوم بعـضاً من الكـلـدان لا يُجـيـدون لغة آبائهم وأجـدادهم ، ومهما كان السبب إلاّ أنهم يتأسفـون عـلى ذلك .

وأخـيراً مثـلما أشار الأخ صباح أنَّ الشعـور بالإنـتماء يأتي بالأولـوية ، وقـد أشـرتُ إلى هـذه الـنـقـطة سابقاً في أكـثر من مقال خاصة بعـد الهجـرة وتـداخـل العـوامل المؤثرة عـلى القـومية .

 

بقـلم : مايكـل سـيـﭘـي / سـدني

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *