العنف المجتمعي ضد الإيزيدية والمكونات الدينية غير الإسلامية الأخرى الى متى ؟

 

الأيزيدية قوم عراقي اصيل سكنوا هذه الديار منذ الأزمنة القديمة ويحفظون في ثقافتهم وتراثهم الديني والأجتماعي ليس قليل من الملامح التاريخية والأسطورية والحضارية لبلاد ما بين النهرين الأصيلة ، وبسبب سرية وانغلاق الدين الإيزيدي وعدم انفتاحه على الآخرين ، ومثله مثل الدين اليهودي والمندائي ، وهذه مسالة تخص اصحاب هذه الأديان وما علينا سوى احترام عقديتهم ورؤيتهم . نتيجة هذا الأنغلاق كانت هنالك اجتهادات وتكهنات وتصورات نحو هذا القوم ، وكانت اكثر الآراء والكتابات تعتمد على التخمينات والمرويات ، التي يغلب عليها نوع من التضخيم او تلبيس القضايا عليهم وهم منها أبرياء .

نحن في القوش لدينا علاقات اجتماعية واقتصادية وثقافية مع المكون الإيزيدي ونطلق عليهم في القوش لفظة( Dasnaye: دَسنايي ) ولدى بحثي وتقصي عن اصل هذه التسمية لاحظت ان لفظة دسنايي ليست بدون اساس ، فقد قرأت في رحلة نيبور الى العراق في القرن الثامن عشر*يقول :

.. في قرية على ضفة نهر الزاب قرية اسمها قرية عبد العزيز وهي مسكونة من اناس يعرفون باليزيدية او الدواسن ، وهؤلاء اليزيدية لا يستطيعون إقامة شعائرهم الدينية علانية لأن الأتراك لا يسمحون بحرية الأديان لمن ليس من اهل الكتاب كالمسلمين والنصارى واليهود ، لذا فإنهم مضطرون على مزاولة شعائرهم الدينية سراً .

وفي نفس الصفحة حاشية بقلم المترجم يقول :

ان الدواسن نسبة الى جبل داسن ، الذي يكتب عنه ياقوت الحموي في معجم البلدان ج2 ص432 طبعة بيروت : ان داسن جبل عظيم في شمالي الموصل من جانب دجلة الشرقي فيه خلق كثير من طوائف الأكراد يقال لهم الداسنية .

إن هذا يؤكد لقومية الإيزيدية الكوردية ، لكن كورديتهم لم تجذب الأنظار بقدر ما جذب الجانب الديني الذي تميز كما قلت بالأنغلاق والسرية ، مما شحذ قريحة اصحاب حب الأطلاع لمعرفة المزيد عن هذا القوم الذي يحتفظ بعاداته وشعائره الدينية لنفسه .

ونرجع الى ما دونه الرحالة نيبور ص92 فيقول :

لدى الدواسن تماثيل بهيئة الأفاعي والكبوش وحيوانات اخرى ، واعتقادهم في هذا ان الأفعى تذكرهم بإغراء حواء آدم وإن الكبش يذكرهم بإطاعة ابراهيم لأوامر الله حين وافق ان يقرب ولده قرباناً لله .. وهم يقولون انه ليس من شأن البشر ان يتحزبوا او يتدخلوا في خصام وقع بين الله وأحد ملائكته المغضوب عليهم ، كمثل الفلاح الذي غضب عليه الباشا وأخذ الناس يشتمونه ويلعنونه ويسخرون منه …. الخ

لا شك ان هذه معتقدات رافدينية قديمة استفادت منها الأديان السماوية ولسنا بصدد ايراد وتوضيح هذه المسالة بل نبقى بموضوع العنف المجتمعي ( الإسلامي ) الموجه ضد الأزيدية والمسيحيين والمندائيين ، ونبقى في الساحة العراقية ، فالحكومات تعمل على منح حرية الأديان وحرية إداء الطقوس الدينية ، لكن المجتمع هو الذي يتزعم مناهج العنف ضد تلك المكونات الدينية غير الإسلامية ، لقد مر علينا كيف فجرت الكنائس ، وكيف اغتيل رجال الدين المسيحيين ، وكيف استخدم العنف ضد الصابئة المندائيين مما حدا بهم الى الهجرة من وطنهم العراقي الى بلدان المهجر حيث يجدون هناك احترام لمعتقداتهم الدينية وكرامتهم الإنسانية ، والإيزيدية لم يسلموا من ذلك العنف ، رغم انعزالهم نسبياً في مناطقهم بعيداً عن المدن .

إنها ثقافة مجتمعية لها ابعاد دينية تراكمية ، وسنلاحظ ان ثقافة الإساءة الى اصحاب الأديان الأخرى كانت سائدة وهي مستمرة الى اليوم بأنماط وأشكال مختلفة فمثلاً في رحلة نيبور كما مر وهي القرن 18 وتفيدنا في إلقاء نظرة الى التصرف المجتمعي قبل اكثر من قرنين والتي لا يمكن ان تكون قد تغيرت في وقتنا الراهن إن لم يكون قد تطورت نحو الأسوأ ، فيقول نيبور في رحلته :

إذا قدم اليزيدية الى الموصل فلا يتعرضهم ولاة الأمور ووجهاء البلدة حتى وإن عرفوا انهم يزيدية ، ولكن العامة يتحرشون بهم ويؤذونهم ، فإذا أراد اليزيدي بيع بضاعته فإن المشتري يحاول اخذ البضاعة من يد اليزيدي ليتفحصها .. ويتخذ من التعامل على السعر وسيلة لأن ينزل على … كل ما يستطيع من اللعنات ، وكثيراً ما يكون الداسني مؤدباً وخلوقاً فيفضل ترك البضاعة والتخلي عنها وعن الثمن ايضاً ..

في اقليم كوردستان تعاطفت القيادة الكوردية مع المكون الأيزيدي ومنحت لهم حزمة كبيرة من الحقوق السياسية والدينية والثقافية والأقتصادية ، وهي لم تمنح مثل هذه الحقوق للمكون الكلداني مثلاً الذي وقف الى جانب الثورة الكوردية والى اليوم يعمل المكون الكلداني بإخلاص لبناء وتقدم وازدهار كوردستان لكن مع ذلك يجري التعامل معم من خلال الأحزاب الآشورية التي تدعي الوصاية والنيابة عن كل المسيحيين في عموم العراق واقليم كوردستان .

اعود وأقول رغم هذا الدعم من القيادة الكوردية للإيزيدية ، إلا ان هذا المكون لم يكن بمنأى عن الهجوم في مدينة زاخو وبعض مدن كوردستان على محلات ومطاعم عائدة للمسيحيين والأيزيدية في العام المنصرم ، وهكذا يعود العنف المجتمعي حينما يجد منفذ ينساب منه ، او حينما يجد ثغرة امنية .

وقد تجلت هذه الحالة في بغداد ومدن عراقية ، لا سيما في سنوات 2006 ـ 2008 حيث كانت الحكومة ضعيفة وكانت موجة عارمة لهجرة المكونات الدينية غير الأسلامية كالمسيحيين والصابئة المندائيين من المدن العراقية الى اقليم كوردستان او الى دول الجوار كمحطة للانظلاق نحو امريكا وأوروبا واستراليا لكي تستقر هنالك وترتاح من سياسية التفرقة الدينية السائدة في العراق ، وبالإضافة الى العنف المجتمعي الذي يتجلى في مظاهر اجتماعية كثيرة .

نأتي الى الشأن الإيزيدي ومن قراءة التاريخ سوف تتواتر الهجومات ومظاهر القمع الديني لهذا المكون العراقي توازياً مع الفتاوي التي يفتي بها رجال الدين على مر العصور .

في القرن السادس عشر شهدت إمارة شيخان الإيزيدية عصرها الذهبي في ظل حكم سليمان القانوني الذي امتدت ولايته من 1520 الى سنة وفاته 1566 ومنح هذا السلطان احد امراء الأزيدية منطقتي اربيل والموصل في آن واحد ، لكن هذا العصر الذهبي لم يدم طويلاً فقد بدأت الفتاوي بتكفير هذا القوم وخروجهم عن الإسلام ، وقد اصدر شيخ الأسلام ابو السعود بن محمد العمادي ، وهو صاحب التفسير المشهور بإرشاد الفعل السليم ، فتوى بتحليل قتل الأيزيديين وبأمر من السلطان سليمان القانوني نفسه للمزيد راجع كتابي : القوش دراسة انثروبولوجية اجتماعية ثقافية ** ومنذ ذلك الوقت كانت الحملات العسكرية تتوالى على مناطقهم ، وبهذه المناسبة ينبغي الأعتراف بأن الأيزيدية قوم شجعان ولا يعترفون بمنطق من ضربك على خدك الأيسر اعطه خدك الأيمن ، إنهم يتفانون في الدفاع عن مناطقهم لكن في بعض الأحيان تكون القوى غير متكافئة في العدة والعدد ، وكان لهذه الحملات اسباب مختلفة ليس هنا مجال الأشارة اليها لكن يمكن مراجعة كتابي المذكور صفحة 222 للاطلاع على المزيد .

في هذا المقال نبقى في العنف المجتمعي ضد الإيزيدية والمكونات الدينية الأخرى فبعد تأسيس الحكم الملكي العراقي ، كانت هنالك قوانين وانظمة ودستور ينظم ويضمن حق المواطنة لجميع المكونات العراقية الدينية والعرقية دون تفرقة ، ونأت الحكومات العراقية بنفسها من مستنقع اضطهاد الأقليات الدينية بل عملت على حماية هذه الأقليات على اعتبار ان هذه الأقليات تعتبر من الحلقات الضعيفة في المجتمع ، لكن الذي حدث هو بقاء وتراكم ثقافة الكراهية ضد الإيزيدية وغيرهم من اتباع الديانات غير الإسلامية وثمة نقاط سوداء كثيرة في ذلك المسلسل الإرهابي ، ونشير الى العمل الرهيب بتاريخ 14 آب 2007 حيث فجرت قريتان ايزيديتان تابعتان لقضاء بعاج حيث بلغت الضحايا اكثر من 500 بين شهيد وجريح ، وثمة حوادث متواترة تتمحور حول زواج ايزيدية من مسلم ، واليوم في هذا السياق تتجيش المشاعر والعواطف حول خطف طفلة ايزيدية بريئة ( سيمان ) من قبل شاب مسلم .

إن هذه المسألة تحمل بعداً إنسانياً إضافة الى بعدها الأجتماعي والديني ، فهذه الطفلة ينبغي ان تحترم طفولتها وهذا مبدأ إنساني يحترمه كل البشر ، وربما الدين الدين الإسلامي هو الدين الوحيد الذي يسمح بزواج رجل مسلم من فتاة قاصر اي انها في عمر الطفولة .

كما ان هنالك مسالة اخرى وهي زواج المسلم او المسلمة من اتباع الأديان الأخرى ، الأجانب يقولون لنا : وماذا في ذلك ؟ يمكن ان تتم الزيجات بين اتباع الأديان ؟ اجل يمكن ان يتم الزواج بين مسلم ويزيدية او مسيحية او مندائية وبالعكس ، لكن التفرقة العنصرية والدينية تتجلى حينما يترتب على اصحاب تلك الديانات على تغير ديانتهم الى الديانة الإسلامية ، سواء كان رجل او امرأة ، فالمسيحي إن تزوج مسلمة عليه ان يترك دينه ويتحول الى الإسلام وكذلك المسيحية إن تزوجت بمسلم عليها ان تترك دينها وتصبح مسلمة ، وهنا تتجلى فكرة التفوق الديني ، فالمسألة هنا ليست اجتماعية بحتة ، إنما لها وجه تفرقة دينية ، اي يتغيب هنا مبدأ العدالة والمساواة .

إن وضع الأقليات الدينية غير الإسلامية في العراق لا يمكن وصفه انه على مايرام ، وإلا لماذا تهاجر هذه الأقليات من وطنها العزيز ؟ والسبب يعود الى التفرقة في القوانين ، وهي قوانين غير منصفة وغير عادلة لأنها تقف الى جانب القوي ولا تنصف الضعيف ، إضافة الى العنف المجتمعي الذي يتجلى في صور كثيرة على ارض الواقع .

في حالة الطفلة الإيزيدية التي يترتب على اقليم كوردستان ان يحلها بسرعة ، لأنها كما قلنا مسألة إنسانية قبل ان تكون اجتماعية ، لكن في هذا الصدد نقول :

إن معالجة هذه المشكلة الأجتماعية ، ومسائل التطرف الديني والأرهاب والأكتفاء بالعلاج الأمني ، فنحن نرى ، رغم اهمية الجانب الأمني في معالجة هذه الأمور . لكن ثمة اهم من ذلك هو إدراك طبيعة المشكلة والعمل على حلها جذرياً فنحن حينما نقضي على الإرهابي ، ولا نعمل على محاربة الفكر الذي يوجهه ، فسيكون عملنا كمثل من يعالج قشور المسالة ويترك الجوهر ، فالقضاء على إرهابي او على مجموعة ارهابين امنياً سوف هو عمل يسير ، لكن الحل الأمني لوحده لا يضع حلول جذرية للمسألة لا سيما إن كانت المدارس والتربية والثقافة تعمل على تفريخ جيوش من الإرهابين في المدارس الدينية التي تدعو الى الكراهية وتبخيس الآخر .

من واجب الدولة التي تطمح لإرساء قواعد مجتمع متسامح متعايش ، عليها ان تمنع الفكر الداعي للكراهية وذلك بتلقين الدروس التربوية الهادفة الى الإخاء والتعايش بين البشر ، وعليها ان تدرس مادة الأديان وليس مادة الدين الواحد . وفي مجتمعنا العراقي ينبغي إفهام المجتمع المسلم ان الشريعة الإسلامية لا تطبق بحق اصحاب الأديان الأخرى ، الشريعة الإسلامية تطبق على المسلمين ولا يجوز تطبيقها على الآخرين بالقوة ، بل حتى المسلمين العلمانيين لا يسعدهم تطبيق الشريعة الإسلامية ، التي مر على تشريعها حوالي 1400 سنة ، فنحن نعيش في عالم آخر يختلف كلياً عن تلك العصور التي مر زمنها دون رجعة .

في العراق اديان واثنيات مختلفة وكل مواطن عراقي يتعين ان يكون له الحرية في معتقداته الدينية وهو ملتزم بها . وينبغي احترام كل المعتقدات والأديان ، ومن هنا يبدأ مبدأ التعايش المجتمعي السلمي ، والجانب الذي يتحمل المسؤولية الكبيرة هم الأخوة المسلمون ، لأنهم هم المعتدين دائماً على ابناء الأقليات الدينية وبسبب ظلمهم الأجتماعي يتشرد اتباع هذه الديانات من المسيحيين والمندائيين والإيزيدية ويغادرون وطنهم العراقي العزيز من غير رجعة .

من اجل تقوية لحمة المجتمع العراقي ينبغي معالجة الموضوع تربوياً وثقافياً وذلك بموازاة مع العمليات الأمنية .

د. حبيب تومي / اوسلو في 22 / 01 / 13

ـــــــــــــــــــــــ

*رحلة نيبور الى العراق في القرن 18 ترجمه عن الألمانية محمود حسين الأمين ، مراجعة وتعليق سالم الآلوسي ، وزارة الثقافة الإرشاد ، بغداد ، ج1 ص91 ـ 92

** انظر كتابي ” القوش دراسة انثروبولوجية اجتماعية ثقافية ” ص 220 وما بعدها

 

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *