الطابع النسبي للحريات العامة

الحرية بالمعنى العام هي خاصة الموجود، وهي ضرورة إنسانية، ومنحة وهبة إلهية خصت فقط من أجل الإنسان دون الحيوان، وحق طبيعي كامن ومُنحدر من الحق الوجودي للإنسان على الأرض. فهي مُرتبطة بالحياة، ولا وجود للواحدة دون الأخرى. كما إن الحرية هي القدرة على التصرف بما لا يضر الآخرين. وعندما نتحدث عن الحرية يتبادر إلى ذهننا كلمة (التحرر)، أي الحصول على الاستقلال والتخلص من القيود وهذه رغبة جُبل الإنسان عليها. ولكن هل هذه الحرية هي مُطلقة أم نسبية؟

الحرية من أصعب المفاهيم التي تواجه الفكر الإنساني، وأكثرها تعقيداً وتشابكًا، ولم يصل الفقهاء إلى أعطاء تعريف مُحدد لها. لأن الحريات في مسيرتها عبر التاريخ في تناقض وتعارض دائم مع سلطة الحكام. فعندما كانت تتطور الحريات العامة، كانت سلطة الحكام تتراجع، والعكس صحيح. وحيث إن حدة التعارض مرتبطة بتطور الوعي السياسي والفكري عند المحكومين، والظروف التاريخية الموجودة، لذلك ظهرت بعض المواثيق لتقييد سلطة الحكام، سواء ما تعلق منها بحقوق وحريات الأفراد الخاصة، أو ما تعلق منها بحقوق الحريات العامة المعارضة تجاه الحكام. مثال ذلك صدور وثيقة العهد الأعظم، التي عقدت بين الملك الانكليزي وممثلي الشعب عام 1215، ووثيقة إعلان الحقوق عام 1689 في انكلترا.

لكن المفهوم الحديث للحرية قد صاغها فلاسفة القرن التاسع عشر، وأقوى تعبير لها، كان في وثيقة إعلان حقوق الإنسان والمواطن عام 1789، أبان الثورة الفرنسية، ومذاهب الحرية الليبرالية. فقد عرفت في الإعلان أعلاه في مادته الرابعة بأنها:” القدرة على كل ما لا يضر الغير”. وعرفها بعض الفقهاء على أنها حالة الإنسان الذي لا ينتمي إلى أي سيد، بمعنى ليس عبداً. كما عرفها البعض على أنها سلطة وإمكانية السيطرة على الذات، وبموجبها يختار الإنسان بنفسه تصرفاته الشخصية ويمارس نشاطاته دون عوائق أو أكراه، بمعنى إن الإنسان له حرية اختيار تصرفاتهِ، التي هي نابعة من إرادته، وفي ذلك قال (بوسويه):” كلما بحثت في أعماق نفسي عن السبب الذي يدفعني إلى الفعل، لم أجد فيها غير إرادتي”. فالإرادة علةٍ أولى، وابتداء مُطلق وهي خالصة من كل قيد، لأنها لا توجب أن يكون الفعل مستقلاً عن الأسباب الخارجية فحسب، بل وأيضا مستقلا عن الدوافع والبواعث الداخلية.

وجميع هذه التعريفات مُنطلقة ومُرتبطة بالإشكالية المُتمثلة في العلاقة بين السلطة والحرية. فالحريات العامة هي مجموعة الحقوق والإمكانيات المُعطاة للفرد، وهي عامة لأنها تفترض تدخل السلطة العامة، دلالة على دور الدولة في الإقرار والاعتراف بحريات وحقوق الأفراد، وتنظيمها وضمانها بموجب قواعد قانونية. فالعلاقة بين الدولة والحريات العامة علاقة وطيدة، ولا يمكن التحدث عن الحريات العامة ألا في أطار نظام قانوني مُحدد، وهي تنتمي إلى القانون الوضعي.

ومن مميزات الحرية أنها ليست مُطلقة، لأنها هنا تعني الفوضى والإباحية والتسيب والفساد، على حدّ قول المفكر بارك أدمون:” الحرية لا العبودية في علاج الفوضى”. على أساس أن الحرية هي التحرر من القيود والضغوط الاجتماعية، ومناهضة كل أشكال التدخل في حياة الفرد، وهذه كانت مطالب شباب وطلاب فرنسا عام 1968، وفلسفة حركة الهيبز. وما دامت الحرية ليست مطلقة، فهي إذن نسبية، باختلاف الزمان والمكان، فإذا كانت باب الرحمة والرأفة والإعدام والإجهاض والقتل، هو سلوك مُشين ومرفوض في بعض المجتمعات، فأنهُ من ناحية حقًا يمارس من قبل مجتمعات أخرى!

وطبقاً للتعريف الوارد للحرية في إعلان حقوق الإنسان والمواطن 1789، فأن الحدود المفروضة على الحرية لا تجوز ألا بقانون، فالحرية أذن هي تقييد إرادي بالنظام كما يقرره القانون، والخضوع الإرادي للنظام هو الذي يميز الحرية عن الفوضى، والسيادة بالنسبة للدولة بمنزلة الحرية للفرد. ومثلما للدولة سيادتها، كذلك الفرد لهُ سيادته الشخصية على ذاتهِ، التي هي حريتهِ. والبشر كما هو معلوم متفاوتون فيما بينهم من حيث القدرات والمواهب، ومن ثم فأن حرية كل فرد تتوقف على ما لديه من إمكانيات.

ومن هنا فأن الحرية إنما يُقصد بها الحرية النسبية التي تتناسب مع قدرات وإمكانيات الفرد وليس المطلقة، لأنهُ لا وجود للحرية المطلقة، لأنها تسبب الفوضى والتسيب والارتباك والتفكك والانهيار في المجتمعات، ولابدّ من ضبطها بضوابط واقعية وفي ظل نظام ومرتكزات ترتكز على الأخلاق والآداب العامة وفي حدود ما يأمر به القانون، حتى يتم تقليص تأثيراتها السلبية لصالح التأثيرات الإيجابية على الفرد ثم على المجتمعات. حتى إن حرية الإنسان على جسده ليست مطلقة، وإنما نسبية ومنظمة بحيث لا يستطيع أن يتصرف بجسده بمطلق حريته، أو أتلافه كسائر الأموال التي يمتلكها، فجسد الإنسان تسكنه الروح، وهذه الروح لا يقدر أن يتصرف بها ألا من خلقها ووهبها لهُ.

وخلاصة الحديث نقول أن الحرية حالة مثالية، لا يتصف بها إلا من جعل أفعاله صادرة عما في طبيعته من مكامن ومعانٍ سامية، لذلك قال (لينز):” إن الله وحدهُ هو الكامل، أما المخلوقات العاقلة فلا توصف بالحرية إلا على قدر خلوصها من الهوى”.

والإنسان كائن اجتماعي لا يستطيع العيش في ظل مجتمع، ألا إذا سادهُ النظام والقانون. وإذا أراد أن يعيش في هذا المجتمع، فلابد من أن يتنازل عن جزء من حريتهِ لهذا المجتمع، ليتمتع مع سائر الأفراد بذات القدر من الحرية، وأيضا كل ما ينقص من حرية الفرد يزيد من حرية المجتمع، والعكس صحيح. لذلك كان شرطاً أساسيًا للاستمتاع بالحرية، أن لا تتعدى على حرية الآخرين، بل احترامها والحفاظ على المجتمع والنظام العام في الدولة. وعلى السلطة المختصة من جانبها أيضا أن تحترم حرية الفرد في شؤونه الذاتية، وأن تراقب بعين يقظة كيفية ممارسة وتنظيم هذه الحرية تحقيقًا للصالح العام، لأن أي اختلال من جانبها قد يؤدي إلى الاضطراب ويختل الأمن والنظام العام. لذلك أشار (روفيرو) إلى أن الحريات العامة هي حقوق اعترفت بها الدولة ونظمتها وضمنت حمايتها.

 سهى بطرس قوجا

 

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *