الجريمة ومفهومها وأشخاصها

الجريمة ((Crime  ظاهرة خطيرة ناشئة من المجتمعات نتيجة سلوك أنساني خاطئ، أو تفكك اجتماعي أو المرور بعوامل مادية واقتصادية سيئة!  فهي وصفت بالوباء (Epidemic) نتيجة الانتشار السريع والذريع لها في عصرنا الحاضر وتلونها بمختلف الألوان والأساليب والأشكال، والتي لمْ تقتصر فقط على السرقة أو القتل أو الخطف والاغتصاب والتعدي على مُلك الغير…. الخ، وإنما أخذت مدى واسع وابعد وأخذت صورا عدة!! كالعصابات والإرهاب بإشكاله المختلفة، والدعارة والتصفيات والتجارة الغير مشروعة وغيرها الكثير. وهي بهذا باتتْ خطر يهدد الإنسان في مجتمعه وتطوره في مسيرة حياته على الأرض وتواصله مع المجتمعات والثقافات الأخرى.

فالإنسان منذ القدم دأب على سن القوانين المختلفة المكتوبة وغير المكتوبة في محاولة منه للحد من انتشار الجريمة وتفاديها وتضييق مساحتها، وكذلك لتقويم سلوك الإنسان وشخصيته الإجرامية الخطيرة على المجتمع، وللوصول به إلى درجة الرقي المرجوة في حالة تقلصها ومحدوديتها، كذلك أخذت الدول بعد نشوئها القيام بهذه المهمة وحصرها كل في بلده، فحددت القوانين والإجراءات والعقوبات التي تترتب عليها لمكافحتها والقضاء عليها، للحفاظ على المجتمع وكيانه ومصيره ومظهره  وصورته إزاء المجتمعات الأخرى. 

كما نعلم بأنه كلمة الجريمة من مجرد لفظها تدل على مفهوم كبير وواسع. كما تدل على الأبعاد الخطيرة الناتجة عن ارتكابها. وقد فسر الكثير من علماء النفس على ان الجريمة تنتج نتيجة وجود رابطة قوية بين السلوك الإجرامي للمجرم والمرض النفسي، على أساس انه المسبب الوحيد لارتكاب الجرائم، وهذا صحيح من زاوية ما. كون الجريمة مثل المرض الذي يصيب الإنسان نتيجة وجود ملوثات في الجو أو فيروسات معدية، كذلك الجريمة تنتج نتيجة الظروف التي يعيشها الإنسان وتحوله إلى مجرم، أي المقصود به المجتمع الذي يعيش فيه والبيئة التي تربى فيها وتقاليدها وسلوكياتها، فنتيجة ضعفه وعدم قدرته على تحمل ظروف تلك البيئة المحيطة به من الفقر والجهل والوضع الأسري المتردي، أو تحمله أعباء فوق طاقته لا يقدر عليها، وأحيانا أخرى الاضطرابات النفسية، وصراعات انفعالية متولدة في داخله فيخرجها بارتكابه لجرم معين، إضافة إلى الحروب التي لها دور أساسي في تكوين الجريمة لفقدان الأمن والسيطرة، مما يخلق جو ملائم  لنمو الجريمة.. 

  تعريف الجريمة  (Definition of the Crime)

الجريمة كما نعلم لها مفاهيم عدة ولا تقتصر على مفهوم ومعنى واحد، فهي تعرف على أساس ونوع الأساليب المعتمدة في ارتكابها، وقد تكون عن قصد أو بدون قصد وإرادة الشخص المرتكب للجريمة، بمعنى في ظروف خارجة عن أردته أدته إلى ارتكابها. ولكن في النهاية وحسب نظرة القانون لها هي سلوك إجرامي صادر من شخص، القانون ممتنع عن فعله أو ارتكابه في المجتمع، فهي تعبر عن سلوك الإنسان وإرادته.. 

 في كتاب قانون العقوبات العام(1)، ذُكر فيه بأنه في القانون جاءت أغلبية قوانين العقوبات الحديثة خالية من تعريف للجريمة، وهذا مسْلك جيد لها، لأنه وضع تعريف عام للجريمة في القانون أمر لا فائدة منه طالما ان المشرع، تطبيقا لمبدأ قانونية الجرائم والعقوبات يضع نصا خاصا في القانون يحدد أركانها ويبين عقابها. بل ان محاولة وضع تعريف عام للجريمة في القانون لا تخلو من ضرر، لأنه مهما بذل في صياغته من جهد لن يأتي جامعا لكل المعاني المطلوبة، وان جاء كذلك في زمن فقد لا يستمر كذلك في آخر… (1)

لكن مع ذلك فالجريمة  أخذت معاني عدة، وعرفت بأنها: هي سلوك أنساني منحرف يمثل اعتداء على حقوق ومصالح يحميها الشرع أو القانون الصادر بناء عليه.. أو بأنها: كل سلوك أنساني وغير مشروع سواء كان ايجابيا أو سلبيا، عمدي أو غير عمدي يرتب عليه القانون جزاءاً قانونياً.. ولكن نحن لن نقتصر هنا عند هذا الحد في تعريف الجريمة، بل سنورد تعار يف مختلفة كل من منظور مختلف، للوصول إلى أبعادها ومفهومها بصورة أوضح وأدق، وهي:ــ 

ـــ  الجريمة (2) من المنظور الاجتماعي تعرف بأنها:ــ هي كل فعل يتعارض مع ما هو نافع للجماعة و ما هو عدل في نظرها. أو هي انتهاك العرف السائد مما يستوجب توقيع الجزاء على منتهكيه. أو هي انتهاك و خرق للقواعد و المعايير الأخلاقية للجماعة. و هذا التعريف تبناه الأخصائيون الانثروبولوجيون في تعريفهم للجريمة في المجتمعات البدائية التي لا يوجد بها قانون مكتوب. وعلى هذا فان عناصر وأركان الجريمة من هذا المنظور هي:ــ

1 ــ قيمة تقدرها وتؤمن بها جماعة من الناس.

2 ــ صراع ثقافي يوجد في فئة أخرى من تلكك الجماعة لدرجة ان أفرادها لا يقدرون هذه القيمة ولا يحترمونها وبالتالي يصبحون مصدر قلق وخطر على الجماعة الأولى.

3 ــ موقف عدواني نحو الضغط مطبقا من جانب هؤلاء الذين يقدرون تلك القيمة ويحترمونها تجاه هؤلاء الذين يتغاضون عنها ولا يقدرونها.

ـــ  الجريمة من المنظور النفسي تعرف بأنها:ــ هي إشباع لغريزة إنسانية بطريقه شاذة لا يقوم به الفرد العادي في إرضاء الغريزة نفسها و هذا الشذوذ في الإشباع يصاحبه علة أو أكثر في الصحة النفسية و صادف وقت ارتكاب الجريمة انهيار في القيم و الغرائز السامية. أو الجريمة هي نتاج للصراع بين غريزة الذات أي نزعة التفوق و الشعور الاجتماعي.

ـــ الجريمة من المنظور القانوني تعرف بأنها:ــ هي كل عمل يعاقب عليه بموجب القانون. أو ذلك الفعل الذي نص القانون على تحريمه و وضع جزاء على من ارتكبه.  (2)

ولكن اغلب التشريعات اتفقت على ان  الجريمة هي سلوك إجرامي بارتكاب فعل جرمه القانون، أو الامتناع عن فعل أمر به القانون. وعلى هذا الأساس فالجريمة سلوك أنساني، ولتجسيد هذا السلوك ينبغي أن يكون هناك أرادة وسلوك أنساني ( فعل ) سلبي أو إيجابي أي عمل أو امتناع عن فعل ، وأن تتجه الإرادة للقيام بعمل جرمه القانون، أو الامتناع عن القيام بعمل أمر به القانون مع توفر الإرادة بهذا الامتناع، أي أن يتزامن هذا الفعل أو الامتناع عن الفعل بوجود نص قانوني يجرم هذا الفعل ، وان تكون الأسباب كافية لأحداث النتيجة الجرمية لهذا الفعل أو الامتناع عن القيام به. ومن هنا تكون الجريمة هي فعل أنساني بارتكاب عمل مخالف للقانون، وأن تكون النتيجة كافية لأحداث أثر لهذا الفعل.. (3)

أشخاص الجريمة  (of the Crime Personas)

الجريمة تتلخص أحداثها وقت ارتكابها ما بين مرتكب الجريمة (المجرم Criminal)، وبين من أصابهم شراً أو أذية (الضحيةVictim )، وأداة الجريمة ومسرح الجريمة. والجريمة كما عرفناها في البداية وقلنا بأنها: فعل يؤدي بمرتكبه إلى قتل نفس أو إلحاق الأذى بها، مما يؤدي به إلى انتهاك القانون المشرع في بلده، وبالتالي يعاقب صاحبه على فعلته.. ولكن هل كل الأجرام محدد ضمن هذا النطاق والمسؤولية؟ وهل كل ضحية هي نتيجة نفس الفعل والفاعل؟ 

بالتأكيد ستختلف، فالإجرام أنواع والضحايا أيضا أنواع، وتأخذ أشكال مختلفة، فالمجرم هو الشخص الذي لا يلتزم بالقانون، ولا بتعاليم الدين الذي حرم القتل والأذية، محاولا انتهاكها غير مراعي بالأضرار والنتائج السلبية المترتبة عليها، أولا من ضياع نفسه ومستقبله، وثانيا من إلحاق أذى وضرر بالمجتمع، وثالثا اعتباره مجرما في نظر القانون ومحيطه. والضحية هم كل من أصابهم شرا أو أذى نتيجة اعتداء أو تعرض لحادث.. فصور الضحايا تتعدد ولا تقتصر ضمن هذه الحدود، بل تتوسع، نتيجة الأسلوب المتبع والظروف المحيطة به، ومنها:ــ

ــ المعاملة السيئة للطفل والمراهق: والتي لا تقتصر في داخل محيط العائلة فقط بل بين المجتمع أيضاً، وتتوسع وتأخذ أبعاد مختلفة، والتي تتجلى في ممارسة السلوكيات السيئة بحقه من اعتداء جنسي وجسدي، وحرمانه من حقوقه، نبذه، اضطهاده في بعض الدول واستخدامه كأجندة وحمل السلاح، تعرضه للموت أثناء الحروب، تشرده في الشوارع لكسب رزقه وقوت عيشه، أو يدفع من قبل أهله للنزول للشارع والعمل، استخدامه كذلك كعمالة سيئة للترويج والبيع، أو عمله في أعمال اكبر من سنهِ، وتحمله أحمال فوق طاقته. فنتيجة هذه كلها هم ضحايا.

ــ  المعاملة السيئة للمرأة، كونها ضحية كذلك، والعنف الممارس ضدها، وتعرضها هي أيضا كما ذكرنا أعلاه لمختلف الأساليب، مما يؤدي بها إلى تدمير نفسيتها، والتقوقع والانطواء والغلق على نفسها، أضف إلى ذلك ضحايا النصب والاحتيال، وضحايا الإدمان بمختلف أشكاله الرائج كثيرا هذه الأيام، ضحايا الاغتصاب لكلا الجنسين وعلى الأكثر على النساء، لاستعماله مرات كوسيلة للعقاب والتعذيب، إضافة إلى ضحايا الانتحار .. وتكثر الضحايا وتتنوع في أشكالها!

ــ الحروب وما تخلفه من دمار وخراب وقتل وتشريد وتهجير، وتصفية حسابات، مخلفات هذه جميعها هم أيضا ضحايا!! وليس فقط ان تكون الجريمة مقتصرة ومحددة فقط بمجرم والأدوات التي استعملها في جريمته ومسرح جريمته، على العكس فضحايا هؤلاء اكبر واخطر، وجميعنا يعلم بأنه الحرب أذا دخلت بلد، معناها دمار شامل وتأخذ في طريقها الأخضر واليابس. كما يحصل الآن في العراق وهذا ابسط مثال، كل يوم جديد وضحايا جدد، وعنف وخراب، هجرة متزايدة، إضافة إلى العنف والصدمات والصراعات النفسية المتولدة داخل الإنسان، وحرمانه من حقوقه المشروعة، ومن الأمان والسلام، مسببة ومؤدية إلى تفكك شخصيته وفكره.

أذن الجرائم ليست مقتصرة في نوع محدد، وكذلك أيضا ليست محددة في مجتمع دون سواه، بل تختلف وتكثر أكثر في المجتمعات المتحضرة والمدن بنسبة اكبر، ولكن نتيجتها في النهاية هي واحدة، تكوين مجرم وضحية وإلحاق أذى!  وتوجد مجتمعات لحد الآن لا توجد لديها قوانين مكتوبة! ولعلاج الجريمة وتضييقها  يبدأ تدريجيا من تقويم سلوك الإنسان من خلال تثقيفه، والقضاء على الفقر والبطالة الزائدة، وأشكال العنف..  وكذلك فتح مراكز طبية واجتماعية  لدراسة حالات الأشخاص المجرمين لأنهم بالطبع وبالدرجة الأولى يعانون من حالات نفسية مزمنة، كما يجب التعاطف معهم كونهم وصلوا إلى هذه الحالة نتيجة ما أحاط بهم من ظروف قاسية، دفعتهم إلى ارتكاب الجرائم. فالمجرم في النهاية هو نتيجة صناعة هذا المجتمع،  وكذلك يجب ان يسود القانون ويبسط سلطته، ليعمْ السلام والأمان والرقي لأي بلد كان….

الأقتباس:  

1 ــ كتاب قانون العقوبات العام للدكتور علي حسين الخلف والدكتور سلطان عبد القادر الشاوي

2 ــ مجلة أجدابيا نت  ــ الأستاذ فالح لوجلي

3 ــ كتاب قانون العقوبات/ القسم العام … زهير كاظم عبود

lenahirmiz@ymail.com

2010-07-27

 

 

 

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *