التصعيد ضد اقليم كوردستان عودة الى سياسة القمع التعيسة

بلاد ما بين النهرين ( ميسوبوتاميا : Mesopotamia ) وما اطلق عليه في العصر الحديث “العراق ” وأنا اطلق عليه الوطن العراقي ، فإن هذه الرقعة من الأرض والتي بنيت فوقها حضارات متطورة قبل آلاف السنين ، قد اصبحت  بعد سقوط الدولة الكلدانية عام 539 قبل الميلاد على يد قورش الفارسي ، ارض تابعة لمختلف الغزاة المحتلين على مر العصور ، فلم تشهد هذه الأرض الأمان والأستقرار فتوالى عليها المحتلون :
الأخمينيون 539 ـ 331 ق. م .
السلوقيون 331 ـ 135 ق. م .
الفرثيون 135 ق. م ـ 226 م .
وبعد ذلك جاء الساسانيون ثم العرب المسلمون الذين اصبحوا اهل البلد والعراقيين الأصليين اصبحوا في وطنهم العراقي مواطنين من الدرجة الثانية والى اليوم ، ومن هؤلاء السكان الأصليين الذين احتفظوا بدياناتهم القديمة وهم اليهود والمسيحيون منهم الكلدان والسريان والآثوريين والأيزيدية والصابئة المندائيين والكاكائيين والشبك .
هكذا شكل العراق العربي المسلم مثال غير ناجح للتعامل مع المكونات العراقية  من اتباع الديانات غير الإسلامية والقومية غير العربية كالأكراد والكلدان والسريان والأرمن والآثوريين ، ودأب العراق لمدة عقود من الحكم الملكي وبعد ذلك ما اطلق عليه في العصر الجمهوري حيث اصبح العراق ساحة للقتال والمناوشات العسكرية بين فصائل من الثورة الكوردية الذين عرفوا بقوات البيشمركة ، لقد كانت حدة المعارك بين مد وجز لتؤول الأوضاع في نيسان عام 2003 الى سقوط النظام الدكتاتوري ، واعتقدنا اننا طوينا صفحة الصراعات والسياسات الطائشة في العراق ، وإننا سوف نعيش في بحبوحة من العيش في واحة الديمقراطية والليبرالية والعلمانية وسوف نتنافس مع اليابان وكوريا الجنوبية وسنغافورة على المراكز الأولى في الصناعة والتقدم العمراني والبشري ، لكن اسقط في ايدينا فتناكفنا للتنافس على المقاعد الأولى في الفساد والجهل وسوء الخدمات وانعدام الأمن والأستقرار .
وكانت المسألة الكوردية التي جثمت بمآسيها وأهوالها على العراق طيلة تعاقب الحكومات المختلفة لا سيما التي كانت تجسد الفكر القومي العروبي الإقصائي ، واعتقدنا إن صفحة (  يا أهلاً بالمعارك ) قد طويت الى غير رجعة لا سيما بعد ان اقر الدستور العراقي فيدرالية الدولة العراقية ، وإن الأكراد شركاء في الوطن وإن اقليم كوردستان يتمتع بالشئ الكثير من الأستقلال الذاتي .
وينبغي هنا ان نعترف ان الأقليم لم يسئ استعمال الصلاحيات الممنوحة له بموجب الدستور فقد استطاعت القيادة الكوردية من تحقيق الكثير من الخطوات المهمة التي عجز المركز عن تحقيقها رغم توفر فيض من الأموال والقدرات البشرية لتحقيق شئ من التقدم في مناطق العراق الأخرى .
إن اقليم كوردستان الذي يرأسه الرئيس مسعود البارزاني ، قد حقق الأمان والأستقرار لجميع المكونات الكوردستانية ، واحتضن جميع المكونات التي هاجرت او هُجرت من بيوتها في مدن العراق الكبرى مثل بغداد والبصرة والموصل ، إضافة الى تحقيق خطوات مهمة بالنسبة لتوفير الخدمات منها توفير الطاقة الكهربائية لجميع مدن وأرياف كوردستان وكثير من المناطق المتنازع عليها إضافة الى تحقيق طفرة مهمة في عملية التعمير والبناء ، من بناء الطرق والجسور والمستشفيات والمدارس .. وفي ظل هذه المعطيات لم يعد ثمة مبرر لخلق المشاكل مع الأقليم بشكل مستمر ودون سبب .
إن من يريد الخير للعراق ينبغي ان يعمل على توثيق لحمة المكونات العراقية لا ان يثير المشاكل ، فيخرج من ازمة ليدخل في ازمة أخرى ، وهكذا اصبح على الحكومة العراقية ان تعمل على حل مشاكلها وهي مشاكل محصورة في الهيمنة على المناصب ، وتنسى الحكومة ان هنالك شعباً ينتظر منها ان توفر له الطاقة الكهربائية والخدمات  والأمن والأستقرار ، وان يكون العراق دولة القانون بالفعل وليس بالأسم فحسب ، يبدو ان الحكومة العراقية لا تستطيع ان تقدم شيئاً لأن الفساد ينخر اجهزتها وتقف عاجزة امام ابسط المشاكل وبعد ثبوت فشلها تحاول فقط ان تبقى في الحكم واصبح الهدف الوحيد هو التشبث بالسلطة ، ولا مجال لحل مشاكل الشعب الذي انتخبها .
المراقب للوضع السياسي في العراق في الآونة الأخيرة يلمس النبرة المشددة في تصعيد  الموقف ، فنقرأ في جريدة الشرق الأوسط اللندنية بتاريخ 20 ـ 11 ـ 12 عن تصريحات للسيد سامي العسكري وهو قيادي بارز في ائتلاف دولة القانون يورد ما سماه أكذوبة التحالف الشيعي الكردي وفي نفس السياق يصرح عضو البرلمان العراقي عن دولة القانون عزة الشابندر، وھو أحد رجال المھمات الصعبة بالنسبة للمالكي، إن «استمرار الحدﯾث عن تحالف شيعي – كردي لم ﯾعد ﯾنسجم ﻻ مع الدستور وﻻ مع طبيعة المرحلة، حيث إنه ﯾنبغي عدم الخلط بين مرحلة المعارضة التي كانت تبرر التحالفات ومنھا التحالف بين الشيعة واﻷكراد وبين السلطة»..  مشيرا إلى أن «لكل منھما قوانينھا، فللمعارضة قوانينھا وشروطھا الموضوعية، وللحكم أﯾضا قوانينه وشروطه الموضوعية». وأكد الشابندر أنه «في ضوء ذلك لم يعد معقوﻻ الحدﯾث عن مثل ھذا التحالف ﻷنه ﯾمثل استفزازا واضحا للسنة». ويذهب القيادي في دولة القانون الى ان كردستان دولة جارة وليست إقليما..
وحين انتقالنا من دائرة التصريحات الى دائرة الحركات العسكرية على الأرض سوف تصادفنا تطورات ميدانية عسكرية خطيرة في منطقة طوزخورماتو والى تحشدات عسكرية ليس الى وجودها ضرورة في الظروف الطبيعية وبهذا الصدد يقول الفريق جبار ياور وهو المتحدث الرسمي باسم قﯿادة قوات البيشمركة بأنه بقرار من القيادة العامة للقوات المسلحة التي ﯾرأسھا نوري المالكي تم وضع جميع القوات المسلحة (الجيش والشرطة واﻷمن المحلي) بحالة إنذار(ج) وھو أعلى درجات اﻹنذار العسكري في العراق، وتم وقف اﻹجازات الدورﯾة، وتم توجيه الدعوة إلى المجازﯾن بالعودة إلى مقراتھم فورا، كما أنھ أصدر أمرا إلى جميع القطعات العسكرﯾة بالرد الفوري وبشدة على قوات البيشمركة في حال تجرأت على اﻻقتراب من الجﯿش العراقي، وھذا بحد ذاتھ دلﯿل على أن السﯿد المالكي تنقل إلﯿھ أخبار غﯿر صحﯿحة وغير دقيقة؛ ﻷنه على الرغم من كونه قائدا عاما للقوات المسلحة فإنه ﻻ ﯾعرف بأن قوات البيشمركة والجيش العراقي ﯾعملان معا ضمن دورﯾات مشتركة في المناطق المتنازعة على مدار 24 ساعة، وأن قوات الجيش والبيشمركة ﯾنفذان عمليات مشتركة ضد اﻹرھابيين، وأنھما ﯾدﯾران السيطرات اﻷمنية المشتركة منذ عام 2003، فكيف ﯾبلغ قوات الجيش بعدم السماح لاقتراب افراد البيشمركة منهم ؟
إن المتابع للاخبار يلمس بأن التصعيد يجري من الجانب الحكومي وإن الجانب الكوردي يسعى الى التهدئة ، وفي الأونة الأخيرة وخوفاً من تدهور الأوضاع اكثر فقد دخل الى الخط الجانب الأمريكي لتهدئة الأجواء فالأصدام المسلح بين الجيش والبيشمركة سيكون السبب في عودة العراق الى نقطة الصفر ، ولا ادري من يعمل على تأجيج الوضع بهذا الشكل ومن له مصلحة في ذلك ؟
لا شك ان الحكومة العراقية تملك بيدها زمام المبادرة إن كان في التهدئة او تأجيج الأوضاع وتصعيد الموقف العسكري ، ولا ريب ان الحكومة بحاجة الى خلق اجواء من الأمن والأستقرار بعد ان ارهقت اجواء العنف الأنسان العراقي ، ولم تكن الحكومة بحاجة الى هذا التصعيد وأتساءل متى سيقتدي ساسة العراق بغيرهم من البلدان الأوروبية الذين استطاعوا حل هذه المشاكل على اسس ديمقراطية متينة .
لماذا لا يقتدي العراق بدولة سويسرا الفيدرالية المؤلفة من 26 ولاية وكل ولاية تدير نفسها بشكل مستقل ولا ترجع الى المركز إلا في حالة عجزها من حل مشكلة ما .
إن اقليم كوردستان وهو جزء من العراق كان له تجربة فريدة استطاع ان ينجز الكثير من اجل المنطقة ومن اجل عموم العراق ،في حين ان تجربة العراق لا زالت تتعثر وتراوح مكانها ، والأحرى ان يتركز اهتمام الحكومة على حل مشاكل الشعب الذي انتخبها إن كان في توطيد الأمان والأستقرار او توفير الخدمات لأبناء الشعب او في خلق فرص للعمل الحقيقي ، وليس دفع الرواتب لأسكات المواطن وخلق بطالة مقنعة ، يجب على الحكومة قطع دابر سرطان الفساد الذي ينخر جسد الدولة العراقية ، على الحكومة ان تنظف القوات المسلحة والقوات الأمنية من الأختراقات لتكون هذه القوات مهنية غير حزبية وغير طائفية .
فهل انتهت كل هذه المشاكل وبقي فقط دخول قوات الجيش العراقي الى المناطق المتنازع عليها ؟
أجزم ان الدولة العراقية ليست بحاجة الى هذا التصعيد وإلى قرع طبول الحرب ضد الشعب الكردي.
بل نحن بأمس الحاجة الى تطبيق الديمقراطية ونبذ الطائفية وتسليط سيف العدالة والقانون على الجميع كل هذه الخطوات هي نقاط جوهرية يجب ان تعول الحكومة عليها لكي تخلق عراق ديمقراطي يتسع للجميع وليتمتع الجميع بحقوقهم الوطنية والقومية والدينية والإنسانية ، ولكي يصبح العراق بكل أرجائه واحة جميلة للجميع ويتمتع الجميع بحقوقه كاملة بما فيهم الشعب الكلداني المسلوبة حقوقه في وطنه العراقي .


د. حبيب تومي ـ في 21 ـ 11 ـ 12

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *