البتولية في كنيسة المشرق

 سألني صديق قبل عدة أيام عن معنى “البتولية” التي وردت في مقال لي عن أحوال وأهوال كنيسة المشرق في بلاد فارس، فأجبته باختصار شديد أنها تعني “العزوبية”، ولكني وعدته بالكتابة عنها وإطلاعه على المزيد. سأبدأ بالمعنى، أولا، فأقول بأن لمفهوم البتولية ثلاث معان: أولهما، “العزوبية”، ولكن العزوبية لا تعني البتولية بالضرورة، لأن البتول قد يكون متزوجا أو أعزبا خبـِر الإتصال الجنسي في ما مضى من حياته فأحجم عنه. وثانيهما، الإحجام عن الإتصال الجنسي، كان الفرد ذكرا أم أنثى، متزوجا أو مطلقا أو منفصلا. ويكون قرار الإمتناع شخصيا، كالناسك المتعبد أو المتصوف، أي بدافع ذاتي (كما جاء في قرار المطربة الأمريكية الشهيرة ليدي جاجا)، أو مؤسساتيا، أي ينص عليه قانون، كالقانون الكنسي، كما في حالة رسامة أسقف متزوج (وفق ما يرويه لنا تاريخ الكنيسة). وثالثا، الإمتناع عن الزواج بعد إداء القسم الرسمي أثناء رسامة الكاهن أو الراهب. البتولية ظاهرة متفشية بين رهبان الهندوسية والبوذية أيضا، ولكنها طوعية كما يبدو، بينما هي محرمة في الإسلام باستثناء بعض الحالات بين المتصوفين. إرتبط جزء من الخلافات الكنسية التاريخية بمفهوم البتولية، خاصة بين كنيسة المشرق والكرسي الرسولي في روما.

 

البتولية الرهبانية هي أحد أشكال التنسـّك (الزهد) في المسيحية، وربما وجب التمييز بينها وبين “العفـّة” الرهبانية، وإن كان كلاهما متداخلين منذ البشارة الرسولية الأولى. تقضي الأولى، حسبما تفيد مصادر القرون الأولى لانتشار المسيحية، تقديم تعهد (نـِذر) بعدم الزواج قبل أو بعد الرسامة (راهب، راهبة، شماس، قس، أسقف)، بينما تقضي الثانية تقديم تعهد بكبح جماح النزوات والشهوات الجنسية والابتعاد عن الملذات التي تقود إلى الفسق، وكذلك الإمتناع عن ممارسة الجنس مع الزوجة بعد رسامة رجل الدين، أي ما معناه “الصيام الجنسي” إلى أجل غير مسمى.  

 

ساد الصمت حول موضوع البتولية حتى القرن الثالث في كل من الغرب والشرق، ولا يوجد نص يتعارض مع تعاليم الرسل في مسألتي العفة والبتولية خلال هذه الحقبة الزمنية. وأغلب الظن أن الكنيسة كانت منشغلة بالبشارة ومحاربة تعدد الزيجات وإعلاء قيمة إماتة الجسد.

 

أحد أهم الأسباب لإقرار زواج رجال الدين الذي أقره سينودس الشرق سنة 486 وأكد عليه في سينودس سنة  497 هو نظرة الإزدراء الزرادشتية تجاه البتولية الرهبانية من جهة، والموقف السلبي للساسة والدولة من العزوبية على أنها موطن ضعف بالنسبة للإمبراطورية الفارسية. وهذا يعني بأن القرار الشرقي جاء نتيجة ضغوط سياسية فارسية ودينية زرادشتية أملت على كنيسة المشرق إتخاذه، وليس بسبب خلافات مزعومة مع كنيسة روما، كما يشاع. وهذا الإستنتاج ينطبق أيضا على إستقلالية إدارة كنيسة المشرق، وهو تنازل آخر من جملة التنازلات التي قدمتها كنيسة المشرق خلال مسيرتها في ظل الحكومات الفارسية المتعاقبة يشكل خاص. والسبب الرئيسي هو العداء القائم بين بلاد فارس وروما المسيحية، هذا العداء الذي أتاح لحكام بلاد فارس من كسب المسيحيين إلى جانبهم مقابل منحهم مساحة محدودة من الحرية الدينية كي لا يخلقوا منهم أعداء موالين للرومان في زمن الحروب. ولكن هذا لايعني بأن كنيسة المشرق كانت معادية لكنيسة روما، بل استمرت العلاقة بينهما على أساس تمتين أواصر الأخوة المسيحية، بعيدا عن المركزية الدينية الرومانية. لقد تعرضت الكنيسة الكاثوليكية إلى هزات عنيفة خلال ألفي سنة، ولكنها لم تقدم تنازلا أمام الضغوطات من داخلها أو خارجها لأنها تؤمن بأن البتولية هي متطلب رسولي لنيل درجة الكهنوت وليس نتيجة لقرار كنسي وضعي كي تنقضه وتستبدله بآخر. من جهة أخرى، فهي لا تمانع من رسامة المتزوج أو الأرمل كاهنا، لكنها ضد زواج الكاهن بعد رسامته. وبهذا فأنها تحذو حذو كنيسة المشرق في بعض مفاصل تشريعاتها.  

 

المصادر:

 

Cesare Bonivento (2006). Priestly Celibacy: Ecclesiastical Institution or Apostolic Tradition? Vanimo (Papua New Guinea):

http://www.vanimo-diocese.com/download/pastoral_letters/2005-Pastoral-Paper-On-Priestly-Celibacy.pdf

Jason Scot Carroll (2007). Reconstructing Celibacy: Sexual Renunciation in the First Three Centuries of the Early Church. M.A. Dissertation, University of Alberta.

Stefan Heid (2000 [1997]). Celibacy in the Early Church: The Beginnings of a Discipline of Obligatory Continence for Clerics in East and West. Translated by Michael J. Miller. San Francisco: Ignatius Press.

http://books.google.com/books?id=Qxy3l0F7mUwC&pg=PA3&vq=%22Apostolic+Origins+of+Priestly+Celibacy%22&dq=cochini+origins+celibacy+reviews&source=gbs_selected_pages&cad=3#v=onepage&q=%22Apostolic%20Origins%20of%20Priestly%20Celibacy%22&f=false

T.V. Philip (1998). East of the Euphrates: Early Christianity in Asia. Chapter 3: Christianity in Persia. India: CSS & ISPCK.

http://www.religion-online.org/showchapter.asp?title=1553&C=1367

 

 

 

سان دييـﮕو/كاليفورنيا في 3/5/ 2011

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *